رحيل جون لوك غودار صاحب «السينما أجمل خدعة في العالم»

رحل عن دنيا الأحياء أمس الثلاثاء 13 شتنبر 2022، بفرنسا، عن سن 91 سنة، صاحب المقولة الشهيرة، التي اعتبرها البعض مستفزة، التي تقول إن: «السينما أجمل خدعة في العالم»، جون لوك غودار. وبرحيله تفقد الثقافة الفرنسية واحدا من أهم علاماتها التي مكنتها أن تحوز موقعا ضمن مهرجان القيم الفنية بالعالم، عبر صناعة الصوت والصورة التي يشكلها الإبداع السينمائي. ويكاد المرء يجزم أنه آخر الكبار الرمزيين فنيا وثقافيا بباريس، التي ما عادت تفلح سوى في إنتاج الضحل من الأفكار والوجوه في مجالات الفنون والثقافة خلال العقود الأربعة الماضية.
كان جون لوك غودار، رجل موقف، ليس في الفن والسينما فقط، بل في مجال القيم. وأنه كان من جيل المثقفين والفنانين الأروبيين الذي يصدر عن موقف سياسي، مناهض للعولمة، ومناهض للتحنيط السلوكي للسوق الإستهلاكية بخلفيتها الرأسمالية. وليس اعتباطا أنه سيتبنى في مرحلة من أنضج مراحل عمره الفني (الستينات) الأفكار الماوية اليسارية، المنتصرة لما يعرف ب «الثورة الثقافية». ولقد سعى الكثيرون إلى تصنيف جون لوك غودار كابن شرعي لحراك «ماي 68» الفرنسي، حتى والحقيقة أن اختلافه الفكري والسياسي والفني سابق على ذلك بكثير، منذ مواقفه من حرب التحرير الجزائرية، ومن حرب الفيتنام، ومن القضية الفلسطينية. بل يكاد المرء يجزم، أنه ابن شرعي لما يمكن وصفه ب «فلسفة الأنوار التحررية» الفرنسية الجديدة لما بعد الحرب العالمية الثانية، مع جيل الكبار من المفكرين والأدباء الفرنسيين أمثال جون بول سارتر، ميرلو بونتي، جون كوكتو، ألبير كامو، ميشيل فوكو، جون بياجي وألتوسير. مثلما أن أصوله العائلية السويسرية، قد لقحته بغير قليل من إرث تقليد ثقافي أروبي باللسان الفرنسي، يعتبر جون جاك روسو علامته البارزة.
ولو شئنا هنا وضع تحقيب سريع، لمساره السينمائي الرفيع، لقلنا إنه مر بثلاثة مراحل كبرى، تعكس مزاجه الثقافي والنفسي والوجودي:
مرحلة البدايات التي برز فيها إسمه كواحد من منظري ونقاد السينما الفرنسية والعالمية، من خلال إصداره «مجلة السينما» سنة 1950، وبعدها في نهاية 1951 مساهماته القيمة في المجلة السينمائية الأشهر «دفاتر السينما» لصاحبها أندري بازين. قبل أن يبدأ مغامراته في مجال صناعة السينما ابتداء من سنة 1960، حين عمل مساعد مخرج، وعمل أكثر في مجال المونتاج وغامر بإخراج أول أفلامه «اختناق» من بطولة ممثل شاب آنذاك صاعد هو جون بول بلموندو. بعد مغامرات أولية في التصوير السينمائي (يصنفها البعض بأنها تجاربه الأولية في إخراج أفلام قصيرة)، ما بين 1954 و 1960، بعد أن عمل فترة كعامل بناء.
مرحلة التأسيس لما سيعرف بتيار «السينما الجديدة» ليس فقط في فرنسا بل في كامل أروبا والعالم. وهي من أنضج مراحله السينمائية، التي جعلت منه مرجعا مستقلا في مجال السينما العالمية. التي من بين أفلامه الخالدة «عش حياتك»، «الجندي الصغير»، «الإحتقار»، «بيير المعتوه»، «صنع في أمريكا»، «الصينية»، «المعرفة الأسيانة»، «الأغنية الإنجليزية»، «رياح الشرق»، «أنفذ بجلدك»، «الملك لير»، «عالج يمينك» من ضمن ريبرتوار سينمائي أخرج من خلاله هذا الهرم السينمائي الكبير ما بين 1960 و 1990، يقارب 40 فيلما سينمائيا. وتميزت هذه المرحلة بانخراطه بوضوح في مجال السياسة، حيث انتصر للأفكار الإشتراكية واليسارية (في صيغتها الماوية المناهضة للتوجه السوفياتي). مثلما انخرط فكريا في مواجهة سلطة الكنسية الكاثوليكية ثقافيا، محاولا تفكيك الخطاب الديني الكنسي كما تراكم تاريخيا، ما جعل البابوية تقف ضده لسنوات، خاصة بعد إخراجه لفيلمه «السيدة العذراء، أحييك» في الثمانينات من القرن الماضي.
مرحلة الكمون الثقافي (أكاد أسميها التعب النفسي الأقرب لليأس)، في نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة. حيث انزاح غودار إلى إنتاج أفلام سينمائية أقرب منها للأفلام التجارية (رغم ما في هذا التوصيف من تجن ومبالغة). وكما لو أنه عاد ليمارس شغبا طفوليا في مجال السينما، حين أصبح يخرج فقط أفلاما ذات نزعة جمالية ممجدة للمرأة كأنثى.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 14/09/2022