رسائل مُشفّرة يسكنها القلق : قراءة في ديوان « تمرينات تسخينية لترويض القلق « لعبدالله المتقي

من عتبات النّصوص السّامقة عتبة الإهداء التي قد يتوقّف عندها بعض الدّارسين طويلا، خاصّة حين يتخلّص فيها الكاتب من علاقاته الشخصيّة الحقيقيّة ليهدي نصّه أو منجزه إلى جهات قد تكون عامة مشتركة أو ذات بعد رمزي أو ربّما في أحيان كثيرة حين تكون ذات بعد مجرّد أو أسطوري. غير أنّ النّظر في الإهداءات البسيطة المقدّمة لأناس حقيقيين يكشف أنّ هذا النّوع من الإهداء قد لا يكون بسيطا سطحيّا أومن باب التّشريف أو المجاملات الإخوانية كما قد يتبادر إلى الذّهن.
في ديوانه الأخير «تمارين تسخينيّة لترويض القلق» الصادر عن دار «الآن ناشرون وموزّعون» بالأردن سنة 2019 أهدى عبد الله المتّقي الدّيوان برمّته إلى شخص وأهدى بعض القصائد فيه إلى أشخاص مختلفين.حيث كان إهداء الدّيوان برمّته إلى «الحبيب الزّاهدي» في حين أهدى نصّ «كم كنّا مكلّلين بالحبّ» الوارد في الدّيوان بالصفحة 39 إلى حرف الجرّ «إلى» متبوعا بأربع نقاط متتابعة «إلى ….» ثمّ أهدى نصّ «كولسترول سيء» الوارد بالصفحة 62 إلى ضمير المتكلم المفرد «إلى أنا». غير أنّه أهدى نصيّن إلى اسمين ممن يعرف، أحدهما حيّ وهو من أصدقائه والثاني لشاعرة تونسية متوفّاة حيث أهدى نصّ «حلمٌ يسع جبلا بكامله» الوارد بالديوان بين الصّفحات 71-74 لصديقه «إلى فتحي بن معمّر»، في حين أهدى نصّ «شارع بورقيبة» الوارد بالدّيوان في الصفحة 79 لروح شاعرة تونسية متوفّاة «إلى روح ليلى الزيتوني».
يبدو مُتصدّر مجلس المُهدى إليهم المرحوم «الحبيب الزاهدي» فائق الصّفات مستقيم السّلوك منضبطا وكأنّ وجود اسمه في طالع الدّيوان ورفرفة روحه بين حروفه وصفحاته وألفاظه ودلالاته ورؤاه، يخلّص الدّيوان وصاحبه من الفوضى المنتشرة في ردهاته جرّاء الحرب والأمراض والمآسي التي تتناسل فيه تناسلها في الواقع. وإذا ما قمنا باستعراض رأي المتّقي في صديقه ورفيقه «الحبيب الزّاهدي» في مقالة نشرها حوله في الصحيفة الالكترونية الثقافية «قاب قوسين» بتاريخ 10 ديسمبر 2015 أدركنا أنّ الإهداء له يتضمّن أكثر من رسالة مشفّرة فهو يقول عنه: «كان الراحل ينتمي إلى جيل الزمن الجميل، جيل سيظل رمزا وعلامة مضيئة في حياتنا السينمائية والسياسية والحقوقية والتربوية المغربية، متميزا، ومتواضعا، صادقا وطاهرا، لم تثنه الخسارات ولا المصاعب ولا التّحديات رغم وطأتها الشديدة». ولعلّ الرّسالة الأبعد أثرا هي انتماء الراحل إلى جيل لم يتكرّر ولن يتكرّر وجوده في مجالات لا شكّ أنّها تمثّل علامة فارقة على تميّز مجتمع وثقافة وشعب وحضارة أو تردّيه، وهي مجال السينما بما هي إبداع صادق صارخ ذو مضمون فاعل ناجع ومجال السّياسة بما هي فعل بشريّ من أجل الإنسان ولمصلحته فأسمى غاياتها أن تُرضيه وتوفّر له أسباب الرّفاه التي تتفتّت وتُفتقد أنّى ولّينا وجوهنا في الدّيوان حيث الحرب والقلق والموت والأشلاء وبقايا أنفس بشريّة لم يبق لها من حيلة سوى القيام بـ»تمارين تسخينيّة لترويض القلق» في «هذا العالم الذي يشبه جنّة جاهزة للحرب والخيانات». ولذلك ففي حضور الزاهدي المتميّز، المتواضع، الصادق، الطّاهر، الذي لم تثنه الخسارات ولا المصاعب ولا التحدّيات، دعوة إلى التسلّح بكلّ تلك الصّفات ليولد «بارق الأمل» ولتتولّد صورة رائعة للقصيدة حين يصوّرها المتّقي في تمارينه التّسخينيّة:
«القصدة لم تمت هذا اللّيل
عادت لشقّتها
كي تغرق في فنجان من الضّحك
وكي تُخرج من حقائبها
قصائدَ مبلّلةً بالمجاز»
غير أنّ المجاز الذي تُبلّل به قصائدُ المتّقي ليس جميلا بالضّرورة بل هو من خلال النّص الذي يحمل عنوان «هذا المجاز» بالصفحة 40 مضمّخ بصور صادمة لكنّها مبتكرة من خلال العلاقات المتنافرة التي ينشئها بين الأشياء، ومن خلال التشبيهات غير المعهودة فـ»الأرق يأكله مشهَدٌ حالكٌ» و»الصّباح ركيك كجُمَل الكسالى» و»المرآة مُصابة بعمى الألوان» فيما تكون «الشّوكة والسّكين» أداة لتقطيع ذات المخاطب المفرد (أنتَ) المستلّ من الذّات – في اعتقادي- «على مائدة الفطور». فأيّ صورة أفظع من هذه وأيّة قتامة أتعس وأدهس منها. لكن في المقابل نحن أمام صور مستحدثة وخيال مجنّح ومجاز مؤلم مستظرف يمكن لنا أن نقول إنّه مجاز مظفّر يكسب به المتّقي جولات إبداعيّا في زمن الهزائم المطّردة واقعيّا.
ولئن كان إهداء الدّيوان مبرّرا، فإنّ إهداء قصيدة «كم كنّا مكلّلين بالحبّ» الوارد على هذه الصورة «إلى ….» يبدو مجازا في حدّ ذاته فمن يمكن أن يحتويه الفراغ المملوء بالنّقاط الأربعة؟ ومن تُراه يستطيع ملء هذا الفراغ؟ وهل هو متعدّد أم مفرد؟ أم هو مفرد بصيغة الجمع على رأي علي أحمد سعيد أدونيس؟
إنّ في القراءة المتأنيّة للقصيدة أو للتّمرين ما يشي بأنّ النّص مُهدى إلى مخاطبين منفردين موزّعين حسب المجالات الفنيّة والإبداعية والجماليّة ، وإلى مخاطب مفرد بصيغة الجمع في نفس الوقت وتلك قوّة النّص وقدرة المجازات المتولّدة منه والمتوالدة فيه على التّحليق عاليا. فالرأس المنسوب إلى المتكلّم الفرد أنا في النص يعجّ بـ «لوحة بألوان قاتمة» وهي في نفس الوقت رسالة إلى الفنّان وغمز إلى هذا الواقع المؤلم الفظيع، خاصة حين يعضدها «شريط لموسيقى اسمها ربّما جبران» فـ»رقعة شطرنج» وما الشّطرنج إلاّ كناية عن الحرب التي تنتشر رائحة ضحاياه المتعفنّة في كامل أرجاء الدّيوان. ثمّ تبدأ هذه القتامة في الانجلاء حين تحضر صورة «قارورة كحل ومرود من خشب الغابات» وما الكحل والمرود إلاّ للزّينة مع كل ما يحمله الكحل من أبعاد أسطوريّة وسحرية أحيانا. وذاك ما يستدعي «تمارين شعرية بعيدا عن الكائنات» و»رجل يسرع الخطو كي يحجز غرفة بفندق الرّباط» لممارسة تمارينه الشّعرية وربّما لمآرب أخرى ومتى حضرت المرأة حضر الشّعر. ولذلك فقد اختلطت في هذا النّص الضمائر المفردة «أنا و أنتَ وأنتِ» بالضمائر الجمعية فتناثرت الرسائل هنا وهناك لكنّ النّص مفعم بصور رائعة بديعة تنبئ بحجم القلق الذي يستحقّ أن نجري تمارين تسخينية لترويضه. غير أنّ القلق يتعمّق في نصّ «كولسترول سيء» الذي يُهديه «إلى أنا» هذه الأنا التي ظلت تعدو خمسين عامّا «على عجل» لتلقى موتها كما ظلت خمسين عامّا تتدرب ذاتيّا «أدرّبُنِي» للنّوم في مقبرة رماديّة حتّى يظفر بمن يضع على قبره ديوان شعر ليتساقط الثّلج وكي نظفر نحن بصورة رائعة مستحدثة ، وما الشّعر والثّلج إلاّ بوارق أمل وبواعث حياة وعنوان تحدّ وإصرار على الانتصار.
هذا الإصرار وهذا الانتصار الذي نجده في القصيدة الأطول بين القصائد المُهداة وهي قصيدة «حلمٌ يسع جبلا بأكمله» والمُهداة إلى صديقه «فتحي بن معمّر» الكاتب والباحث والناشط المدني التونسي رئيس جمعيّة ألق الثّقافيّة. وهي تقوم على ستّ رسائل مشفّرة تُستهلّ بعبارة «بإمكانك» لتعدّد ستّة احتمالات ممكنة ومرهقة قد تصيب أو تعترض صديقه المخاطَب. لكنّها رغم رعونتها وصلفها لاتَهزمه بل تدفعه إلى الفعل بإصرار وكأنما يستعير له في هذا الخطاب قول درويش «حاصر حصارك لا مفرّ … سقطت جنبك فالتقطني واضرب بي عدوّك لا مفرّ» فالنّص واضح من حيث الرّسائل المشفّرة ومن خلال الغمز الخفيّ ولكنّه بهيّ من حيث الصّور والمجازات الرائعة.
ولعلّ قوّة المجاز وسطوته تتجسّد من خلال القصيدة المهداة إلى روح الشّاعرة التونسيّة ليلي الزيتوني المتوفاة في 21 ماي 2015. فيكفي أن نستعرض ما قالته الشّاعرة عن نفسها لكي ندرك شرعية اختيار المتّقي للشّاعرة وتكريهما بالإهداء ولكي نتأكّد من صدق اختياراته الفنيّة والمضمونيّة في النصّ المُهدى. فليلى تقول عن نفسها «أنا من بيئة صحراويّة يدخل الشّعر في طقوسها اليوميّة، فالكلّ هناك شاعر بالفطرة رغم أنّ شعر الملحون هو السائد، وأنا أعتبر الشّعر بالنسبة إليّ داء قديم لم أستطع أبدا أن أشفى منه» لأنّها شاعرة بالفطرة كما تقول، فقد كان مضمون النّص المُهدى إليها يتمحور حول القصيدة والشّعر ويزخر بصور بديعة ومجازات جامحة بها تُبلّل القصائدُ وبرونقها تُكلّلُ الدّواوينُ فالشاعرة ليلى الزّيتوني وأيّ شاعرة أو شاعر قصيدة لا تجوع ولا تعرى ولا تموت، وتلك أبلغ صورة وأسمى مجاز، وتلك أيضا أبدع تمارين تسخينيّة يمكن أن يقوم بها المتّقي الشّاعر وكلّ شاعر لمواجهة القلقِ كغريم دائم محبوب في مباراة قمّة حامية الوطيس بين الأجوار، لكنّها سرعان ما تنتهي بعناق في روح رياضيّة ساميّة لتبدأ جولة تمارين تسخينيّة لمباراة حاميّة الأُوار لن تتأخّر كثيرا لترويض القلق الذي ما يلبث أن يروّضنا وتلك هي الحياة في قانون المتّقي واحدة بواحدة. لا يسأم فيها القلق من الإزعاج لكنّه لا يربح، ولا يتخلّص فيه الشّاعر من القلق لكنّه لا يهزم. هكذا هما يتعامدان ويعترجان بين السّماء والأرض، فيصطرعان ويألمان لنغنم نصّا ممتعا يطرد عنّا السأم والقلق.


الكاتب : د. فتحي بن معمّر

  

بتاريخ : 14/04/2023