رهانات التصوير في السرد الروائي النسائي المغربي

نروم من خلال هذه القراءة الوقوف عند التصوير ورهاناته في السرد الروائي النسائي المغربي. ولتحقيق هذا المبتغى، ستنصرف دراستنا هذه إلى التركيز على «الذاكرة المنسية» و»مدن الحلم والدم». وللإشارة فاختيارنا لهذين المؤلفين الإبداعيين لم يكن وليد الاعتباطية أو التلقائية بقدر ما جاء نتاج القراءة والتأمل. فالأعمال المختارة تعكس حساسيات روائية جديدة ومختلفة ومتنوعة من حيث التجارب والأجيالية، إلى جانب اعتمادها ورهانها على التصوير وما ينطوي عليه من موضوعات ومواقف جديدة غير تلك التي استدعاها السرد النسائي خلال مرحلة البدايات و التأسيس ، ونفكر هنا في موضوعات:
الوطن والحرية والاستقلال والتحرر، وشحذ همم المغاربة لمواجهة الاستعمار الفرنسي والإسباني.
إن مكون التصوير من مكونات الكتابة النسائية الجديدة التي تسعى إلى الكشف والتعرية عن واقع المرأة وسط مجتمع ذكوري يسعى إلى إقصائها وعدم إشراكها في مجالات التنمية بمعناها الواسع.
وللاقتراب من معالم التصوير في الأعمال السالفة، نشير إلى أن قراءتنا هذه ستبدأ بـ»الذاكرة المنسية» وانتهاء بـ»مدن الحلم والدم» .

التشكيل السردي بالصور في «الذاكرة المنسية»

تستدعي» الذاكرة المنسية» مجموعة من الصور السردية المتنوعة والمختلفة من أجل تعزيز قدراتها الفنية والتواصلية. وإذا كانت – الصور – تلتقي من حيث الوظائف في تشكيل النص والإسهام في بنائه تمثيليا و تخييليا وجماليا ، فإنها من جانب آخر تروم خدمة دلالات النص من خلال ما تضفيه عليه من تنويع وإيحاء بفعل ما يصدر من أفعال وأقوال إما من قبل الذات الساردة أو باقي الشخصيات الأخرى ككل. وللاقتراب من عوالم التصوير في سيرة « الذاكرة المنسية»، سنتوقف عند عينات من الصور السردية كما وردت في النص. ونشير إلى أننا ولأسباب منهجية سنتناول بالقراءة والتحليل صورة الجدة والمعلم أو الأستاذ. وعلى الرغم من محدودية هذه العينات فإنها كفيلة للاقتراب من عوالم التصوير عند الروائية المغربية الزهرة رميج.

* من صورة الجدة إلى صورة الأستاذ:

– صورة الجدة:
يلاحظ أن بعض الكتابات تستدعي شخصية الجدة خاصة الكتابة النسوية. وبهذا المعنى، فالجدة كثيرا ما تم الاحتفاء بها في جملة من النصوص السردية، فالقاصة المغربية ربيعة ريحان مثلا احتفت بها في مجموعتها القصصية المعنونة» بكلام ناقص»، وبالضبط في نص «نخب مصالحة»إذ تقول فيه:»الآن يبدو لي أن الطريق القصير الممتاز الذي يمكن أن أسلكه إلى جدتي للعودة إليها هو معانقتها».ص:101.أما بالنسبة لاستدعاء الجدة في مجموعة «الأميرة سنووايت» للقاصة المغربية خديجة اليونسي، فقد احتفت بها في قصة «الأميرة سنووايت» ووظفتها سرديا. إن هذا الحضور دلاليا يبقى حيلة فنية / بلاغية صرفت عبرها الكاتبة جملة من المواقف بخصوص قضايا: الرجل، الزواج، الكتاب. نقرأ:»متى يأتي الرجل الذي سيزين هذه الأصابع بالذهب؟فأجيبها أنا يا جدتي أريد كتبا».ص:30. وبالعودة إلى سيرة الزهرة رميج نلاحظ أنها لم تهتم بالذات فحسب، بل نجدها قد أفردت مساحات سردية لأصولها البيولوجية من أب وأم وإخوان وجدة، لكن ما يثير القارئ لهذا النص هو طبيعة الصور التي خصت بها الكاتبة الجدة، وهي صور تحتاج إلى القراءة لاستكناه عوالمها وخلفياتها النظرية. تقول الساردة في سياق احتجاجها على الظلم الذي تعرضت له في المدرسة وشعورها بمعاناة الأم وظلم الجدة ونفورها منها:»فالجدة كما عرفتها في واقع حياتي الطفولية بعيدة كل البعد عن هذه الصورة المثالية التي ترمز للطيبة والحب، ومناقضة لها تماما، لكونها في حياتي الخاصة، كانت رمزا للشر والكراهية».ص:59. تضعنا هذه الصورة – بما تنطوي عليه من سمات سلبية – أمام امرأة تفتقد إلى الحب والطيبة ولا تجيد سوى الشر والكراهية.وتؤكد الساردة بأنها لا تعرف من أجدادها سوى جدتها من جهة الأب بحكم وفاتهم في وقت مبكر، لكنها ترسم لها صورة مثيرة. تقول عن هذه المرأة: «ظلت جدتي قرابة الثلاثين سنة تختلق الأسباب لإثارة المشاكل بين أبي وأمي.لا أعرف مصدر تلك الكراهية العمياء التي كانت تكنها لها منذ البداية، خاصة وأن أمي كانت يوم تزوجها أبي مجرد طفلة لم تتجاوز الرابعة عشرة».ص:61. يلاحظ في هذه القرينة السردية- بما تنطوي عليه من بوح وصدق – أن الصورة التي خصت الكاتبة بها الجدة صورة مختلة تنطوي على تكثيف يخرق انتظار القارئ بخلاف بعض الصور المغايرة التي تحتفي بالجدات وتنسج لهن صورا مثالية ترمز إلى السمو. من جانب آخر، نشير إلى أن هذه الصورة السردية سرعان ما يلفيها القارئ تضمر صورة أخرى وتتمثل أساسا في تزويج الفتيات القاصرات وهن في نعومة أظافرهن ( سن الرابعة عشرة )، وهذه الظاهرة الكارثية كما لا يخفى كانت متفشية في المغرب خاصة البوادي كما تؤكد ذلك الكثير من الدراسات السوسيولوجية.إن صور الجدة في»الذاكرة المنسية» تروم تحديد أبعاد شخصية الجدة نفسيا واجتماعيا من خلال ما يصدر عنها والإقرار بغيرتها نفسيا، لكن السؤال الذي يطرحه القارئ هنا هو:
هل كل الجدات يمنحن لأنفسهن الكثير من السلط للتدخل في شؤون الأسرة ويقحمن أنفهن في قضايا غير قضاياهن؟
في حال تأمل كلا من الصورتين سنجدهما ترومان تقويض وهدم الصورة النمطية لشخصية الجدة في المتخيل الاجتماعي، ونقصد بذلك الصورة التي ترى بأن الجدة البيت الحاضن للأحفاد، إذ تخصهم بحنانها ورعايتها لهم نهارا في ظل غياب الآباء والأمهات، كما تحكي لهم ليلا الحكاية تلو الحكاية إلى أن تغمض جفونهم. والمتأمل للصورتين معا يجدهما تضمران دلاليا ما يلي:

محاكمة الجدة ورد الاعتبار للأم رمزيا

التصالح مع الماضي ضدا على كل ما تسببت فيه الجدة من آلام وجراحات للأم.
وعلى العموم، فأمام الشلل الذي أصاب الجدة والموت الذي أدركها، ستتغير هذه الصورة ولم تعد قاتمة ومختلة كما كانت عليه في السابق، خاصة أمام تنامي شعور الساردة بالفقدان. تقول هذه الأخيرة في إطار تناولها طبيعة العلاقة القائمة بينها- أي الجدة – وبين والدتها إلى جانب مرضها الذي عجل بوفاتها:»كانت جزءا لا يتجزأ من حياتنا.لذلك، لم أستوعب جيدا،غيابها..».ص:64 .أعتقد أن هذه الصورة بما تختزله من طاقة تعبيرية تمتزج بالمشاعر- وروح الانتماء الأسري وكذا الانحياز للأم من باب التضامن- لا تحتاج إلى بيان وهي تكشف عن رمزية الجدة وحضورها في نسيج الأسرة بالرغم مما صدر عنها.
* صورة المعلم أو الأستاذ:
إضافة إلى صورة الجدة في» الذاكرة المنسية»، يمكن الحديث عن صور أخرى موازية بما في ذلك صورة المعلم أو الأستاذ، وهذه العينة يمكن أن يجدها القارئ في متون سردية أخرى، فهي تتشابه أحيانا وتختلف أحيانا أخرى من حيث الأبعاد والمضامين. فمثلا في رواية» الحجر والبركة» للروائي المغربي عبد الرحيم جيران، ينسج السارد صورة ساخرة عن الأستاذ. يقول هذا الأخير في الصفحة 80 من الرواية مخاطبا زمرة من التلاميذ:»حاولتم أن تكتموا الضحك، لأنكم تعلمون أنه يجمع الحلوى من التلاميذ الذين لا يهيئون واجباتهم المنزلية حتى لا يعاقبهم، ولا يشرع في مصها إلا في الطريق إلى بيته..». في حال تأمل هذه الصورة سيجدها القارئ ساخرة لا تخرج عن الصور التي دأب بعض التلاميذ على نسجها لأساتذتهم، بمعنى آخر فإن المتخيل الخاص لهذه الفئة يحفل بالكثير من الصور التي تنطوي على سمات إيجابية وسلبية، ومن مظاهر الاختلال في هذه الصورة حمولتها السليبة التي تطبعها، فإلى جانب كشفها عن طمع الأستاذ فهي تضعه أيضا في منزلة التلميذ الصغير من حيث الولع بالحلوى، ناهيك عن جنوحها نحو المفارقة، لأن من مهام الأستاذ تهذيب الناشئة وتربيتها على التعلم والاجتهاد وعدم إهمال الواجبات المدرسية، أما أن يغض الطرف عن أولئك الذين لا يكترثون بواجباتهم مقابل قطعة حلوى فهذه قمة الغرابة سيما وأنها تصدر عن رجل يحمل على عاتقه رسالة تربوية. بعد هذا التمثيل يمكن لنا أن نطرح السؤال التالي:

ماذا عن صورة الأستاذ في « الذاكرة المنسية»؟

صورة الأستاذ بين العنف والحب:

– العنف، أو حينما تتعطل لغة الحب:
ونحن نقرأ «الذاكرة المنسية» نرصد العديد من الصور التي تنسجها هذه الذاكرة بخصوص الفقيه والمعلم أو الأستاذ، وهي من حيث التصنيف لا تخرج عن صورتين اثنتين:
– الأولى: ترمز إلى العنف
– الثانية: ترمز الحب.
لا أحد منا سلم في حياته من عنف تلاميذ المدرسة أو الأستاذ. ووقع هذا الفعل الشنيع يختلف حسب طبيعة هذا العنف ودرجته والجهة التي يصدر عنها. هذا الفعل الذي طبع ذاكرة الساردة بالألم والشعور بالظلم – الذي لحق بها أو بغيرها – نجد له امتدادت في هذه الصفحة أو تلك، تقول الساردة:»كان الفقيه ممسكا بخناق طفل يكاد يكتم أنفاسه، والطفل يصيح من شدة الألم….لم تحتفظ ذاكرتي من تلك الحصة، سوى بهذا المشهد، وبعصا الفقيه الطويلة التي كان يلوح بها في وجه الأطفال».ص:36.هذه الصورة/ المشهد الني انطبعت في ذاكرة الساردة تعكس العنف الذي كان يمارس على التلاميذ من قبل فقيه الكتاب، وهولا يختلف عن عنف أساتذة المدارس في شيء كما سنرى ذلك في سيرة الزهرة رميج. وبموازاة مع هذا تكشف لنا هذه الصورة عن عادة حميدة طواها الزمن، وتتمثل أساسا في إقبال الإناث على الكتاتيب القرآنية قصد حفظ القرآن وبعض المتون الأخرى.والحق إن التلميذات اللواتي مررن بالمسيد كثيرا ما تألقن في مسيرتهن الدراسية وشغلن مكانة علمية ومواقع مهمة في الوظيفة والمجتمع. وفي مسيرتها الدراسية، وعلى غرار الكثير، ستتعرض الساردة إلى العنف والضرب من قبل بعض التلاميذ، تقول عن هذا الحادث:»لم يكن الألم الذي شعرت به نابعا من وقع الضرب الذي طالما خشيته، بقدر ما كان نابعا من صورة معلمي العزيز الذي كان يتفرج على التلاميذ وهم يعذبونني، بل ومن كونه من حرضهم على ما فعلوه بي. كانت صدمتي كبيرة.لم أصدق ما رأته عيني..».ص:56. تركز هذه الصورة السردية التي تختلط بالمشاعر النفسية والإحساس بالألم على الصورة السلبية التي بدا عليها المعلم في الوقت الذي كانت فيه الساردة تتعرض فيه للتعذيب من قبل التلاميذ. والغريب في الأمر أن هذا الموقف السلبي يصدر عن معلم متنور كان بالإمكان أن يبدو متسامحا خاصة لما يتعلق الأمر بتلميذة مدللة. تقول الساردة وهي تسترجع هذا الحدث المؤلم:» أتساءل الآن وأنا أسترجع صورة العنف الذي تعرضت له، والتي اغرورقت لها عيناي بالدموع، كيف لمعلم متنور ومتحضر مثله، أن يصل به الأمر إلى أن يتخذ من تلميذته المدللة وسيلة للانتقام؟».ص:57 في هذه الصورة يمكن للقارئ أن يتجاوز الآثار التي قد يتسبب فيها العنف لدى الساردة، لكن كيف يمكن له تجاوز صمت الأستاذ؟ أعتقد أن هذا السؤال هو مصدر تفجير هذه الصورة الأليمة.

– الحب والتسامح، أو حينما تعلو لغة القيم:

بالرغم من صور الكراهية ( الجدة ) والعنف (الأستاذ ) والسخرية ( التلاميذ ) التي تتخلل هذا المتن، فإن «الذاكرة المنسية»سعت إلى محو هذه الصور السلبية واستبدلتها بأخرى أكثر إيجابية، ويتعلق الأمر هنا بصورة الحب، والتسامح الذي لا تخلو منه مشاعر الساردة وغيرها من الشخصيات الأخرى في الكثير من المناسبات والأحداث والاسترجاعات التي تعاقبت على كل فصول السيرة. فبخصوص الحب نقرأ عن الأستاذ الذي أغرم بتلميذة كانت تدرس مع شقيق الساردة:» التلميذة الثالثة كانت تدرس مع أخي.كانت ابنة أحد أغنياء المنطقة، جميلة، وذات عيون زرقاء.أغرم بها معلم اللغة الفرنسية، وتزوجها وانقطعت عن الدراسة».ص:39 ،وبخلاف الصور السابقة التي تعكس شخصية الأستاذ العنيفة، نجد الساردة في هذه القرينة السردية تنسج صورة أخرى عنه وهي صورة المغرم. ويلاحظ أنها اختارت تحديدا لفظة الغرام من بين العديد من الألفاظ الأخرى لما لها من شحنة وطاقة بلاغية للتأكيد على شدة حب الأستاذ لهذه التلميذة ووقوعه في شباك جمالها، بما تملكه من جمال. يلاحظ أن الساردة حصرت هذا الجمال في جمال العيون الزرقاء والجسد ناهيك عن وسطها الاجتماعي. وبغض النظر عن الخلفية التي تحملها هذه الصورة السردية والجمال الذي تتميز به هذه التلميذة، ينبغي أن نتساءل:
هل كان من الضروري أن تكون هذه التلميذة/ الزوجة ابنة أحد الأغنياء؟
ومقابل هذا الضرب من الحب يمكن الحديث عن حب آخر، ويتعلق الأمر بحب تلميذ لصديقته الساردة التي تدرس معه في الفصل.تقول الساردة عن هذه المشاعر التي أيقظت الحب بداخلها- وهي تعرض لقصة الحب القائمة بين شقيقتها من الرضاعة وزوجها- :»سأفاجأ بالحب يطرق باب قلبي، ويأخذ نصيبه من اهتمامي الذي كان منصبا على الدراسة فقط.لم يكن الذي حرك مشاعري من أولئك الذين أبدوا اهتمامهم بي، وإنما التلميذ الوحيد المعروف بانطوائه وعدم اختلاطه بالتلميذات».ص:115.إن صور هذا الحب كما تطرحه السيرة يرمز إلى البراءة والنقاء، فبه يشعر الإنسان – في هذه المرحلة العمرية – الوجود والاهتمام به من لدن الطرف الآخر، لكن الساردة لم تكترث بهذا الحب بالرغم من إصرار زميلها التلميذ على مطاردتها عن بعد وجلوسه بجانبها في الفصل الدراسي ومرابطته بالقرب من بيتها – خلال العطلة الصيفية – بعد أن أبرم صداقات جديدة مع أبناء حيها – لإيمانها بأن الحب قد يكون لديه تأثيرات سلبية على دراستها. تقول الساردة:»الحب أخرجني من عالم الطفولة البريئة، وقد يكون له انعكاس سلبي على مساري الدراسي، وخاصة على حلمي بمتابعة دراستي، وهذا ما جعلني أنتفض ضد نفسي وأقاوم عواطفي».ص:117.
لقد قاربنا من خلال هذا التحليل المتواضع صورة الجدة والمعلم أو الأستاذ في سيرة الذاكرة المنسية للزهرة رميج، ورأينا كيف أن هذه الصور تعكس جانبا من نفسية الساردة في منظورها للإنسان وللقيم. وإذا كانت صورة الجدة ترمز إلى الهيمنة والدخول في صراعات مع أم الساردة، فإن هذا المؤلف الإبداعي يطالعنا بصورتين تخصان الفقيه والمعلم أو الأستاذ، وهي على نوعين:
– الأولى: ترمز إلى العنف، العنف الذي يمارسه الفقيه في المسيد من أجل التعليم والتلقين، وكذا عنف الأستاذ المتمثل في تحريض التلاميذ على تعنيف الساردة والوقوف موقف المتفرج.
– الثانية: ترمز إلى الحب، الأستاذ الذي أغرم بتلميذة كانت تدرس مع شقيق الساردة.
وبعيدا عن هذه الصور السردية وقريبا من خلفياتها الفنية، نشير إلى أنها تقرب القارئ من شخصيات مؤلف رميج كما تساهم في بناء دلالات النص وتزيد من قدراته الإقناعية والجمالية.

رهانات التصوير السردي والمجتمع في مدن الحلم والدم

تتنازع المرأة في رواية «مدن الحلم والدم» لراضية العمري الكثير من الصور السردية التي تساهم في تشكيل النص الروائي مثلما تفصح عن عديد من المواقف التي تصدر عن مواقع مختلفة. وللاقتراب من عوالمها، سنتوقف عند صورة المرأة المغربية في المجتمع، مرورا بصورتها في عيون الآخر (إيزابيل) وانتهاء بصورتها في عيون الرجل.

صورة المرأة المغربية في عيون المجتمع:

من الصور المختلة التي تطالعنا بها الرواية صورة المرأة في المجتمع .تقول الساردة في الفصل الأول: «إن الكثير منا في المغرب وخصوصا في مدينتي الصغيرة التي جئت منها لا ينظرون بعين الرضا إلى عمل النادلة.وأكثر من ذلك هناك من يعتبرها مهنة قد تسيء إلى سمعة المرأة».ص:28.إن هذه الصورة كما هو معلوم تنطوي على موقف محافظ يتحفظ على عمل المرأة في المقهى، بل الأنكى من ذلك إصرار البعض من هؤلاء على رهن سمعة المرأة ببعض الأعمال دون الأخرى. وفي الفصل الثاني من الرواية نلفي صورة أخرى للمرأة لا تختلف من حيث الأحكام عن مثيلتها السابقة، ويتعلق الأمر ببعض أفراد عائلة عزيزة التي سيتم التطاول على حقها في الإرث فقط لأنها امرأة. تقول الساردة على لسان عزيزة:»لقد ألمني موقفهم كثيرا ليس فقط كونهم طماعين وإنما لكونهم فعلوا ذلك فقط لكوني امرأة».ص:43.إذا كانت الصورة الأولى مختلة ومسيئة للمرأة إلى درجة تسلب منها حريتها وحقها في الشغل، فإن الثانية تنتقص من قيمتها وتسعى إلى تجريدها من أبسط حقوقها الدينية بما في ذلك الحق في الإرث.وعلى العموم فمن خلال قراءة متأنية للصورتين معا، سننتهي إلى أنهما نتاج ثقافة تستمد شرعيتها من سلطة المجتمع والرجل.فهل ستتغير هذه الثقافة مع التغيرات التي بات يشهدها العالم؟

صورة المرأة المغربية في عيون الآخر:

إضافة إلى صورة المرأة في عيون المجتمع، يمكن الحديث عن صورة أخرى تختلف من حيث القيمة عن الأولى، ويتعلق الأمر هنا بصورة المرأة المغربية في تمثلات»إيزابيل»المرأة الكتالانية مشغلة زهرة. تقول هذه السيدة:»لي أصدقاء وصديقات كثيرات هناك.لكن ما لاحظته هو التفاوت الكبير في وضعية المرأة هناك.فهناك من وصلت لأعلى المناصب وهناك من تعاني من كل شيء الفقر والأمية والتهميش والعنف».ص:28.تكشف هذه الصورة الكيفية التي تنظر بها «إيزابيل»إلى المرأة المغربية، وهي على نوعين:
– الأولى: إيجابية وهي بمثابة تنويه مضمر للمرأة التي تبوأت أعلى المناصب
– الثانية: سلبية وهي تنم عن موقف صريح يكشف بأن وضعية المرأة- على الرغم من المكاسب التي تم تحقيقها – فإنها لا تزال تحتاج إلى تحسين للارتقاء بها إلى مستوى أفضل.

صورة المرأة في عيون الرجل:

بعيدا عن الصورتين السابقتين يمكن الحديث عن صورة ثالثة أكثر حمولة، ونفكر هنا في صورة المرأة في تمثلات الرجل كما أوردتها الرواية.يلاحظ مثلا في الفصل الثالث أن دردشة كمال مع زهرة – وهما يبحثان عن سبل الاستقرار – لم تكن تمر من دون أن يبدي افتتانه بهذه الشابة.ولكي يقترب منها أكثر، كان يسخر كل صيغ التعبير البلاغية.نقرأ: «لدي ما أخبرك به أرجوك لا ترفضي يا وجه الملاك !».ص:62. ونقرأ أيضا:»لكني شعرت معك بأن رحلة التيه قد انتهت وأنني مثل سفينة سترسو أخيرا على شاطئ رائع».ص:68. وفي الفصل الرابع، نقرأ عن الدكتور سعيد مخاطبا زهرة:»لي اليقين أنك فيلسوفة بالفطرة».ص:88. يلاحظ أن هذه الصور بتشكيلاتها المختلفة والمتنوعة تصدر عن رجلين يختلفان من حيث الثقافة والموقع. فكمال رجل يمتهن التجارة بينما سعيد يشتغل في التعليم العالي،وعلى الرغم من هذا الاختلاف فإنهما يلتقيان في كونهما يهتمان بمتابعة جميع ما يكتب في أجناس القول والتعبير. وهكذا، فإذا كانت الصورة الأولى والثانية تعتمدان من حيث المرجعية على العادات والتجربة- تجربة الحياة – والملاحظة، فإن الصورة الثالثة تعتمد الأحاسيس والمشاعر.وغني عن البيان فإن الروائية راضية العمري اعتمدت بلاغيا صيغة التصوير السردي للكشف عن واقع وعقلية المجتمع وكذا استجلاء أحاسيس ومشاعر الإنسان.

تركيب:

لم تكن غايتنا من قراءة وعرض هذه العينة من السرد الروائي النسائي المغربي، التعريف بها لدى القارئ، بل إن انشغالنا يتمثل أساسا في الوقوف عند اشتغال مكون التصوير ورهاناته في هذا النوع من السرد الروائي الجديد وما ينطوي عليه من حساسيات، إلى جانب كيفية تفاعله مع مكونات أخرى سردية وفنية مساندة وموازية. ومن خلال قراءتنا وعرضنا للعينات الروائية السالفة ، أدركنا – من دون شك – أهمية التصوير عند الروائيات المغربيات الجديدات، وذلك لخدمة قضايا المرأة وبناء المعنى والتواصل مع القارئ وتحقيق أفق انتظاره . ومن هنا يظل التصوير صنعة لدى المرأة الكاتبة الجديدة ووسيلة للحفر ولاختراق الجانب النفسي والاجتماعي لعوالم المرأة والرجل والمجتمع ، والسعي إلى تصحيح اختلالات هذا العالم وكذا العمل على هدمه وإعادة بنائه.
إن التصوير في السرد الروائي النسائي، تصوير ينطلق من المرأة ( للتعبير عن رؤيتها للذات الأنثوية ) وإلى المرأة ( لتوعيتها بحقوقها وبكينونتها التي كثيرا ما تم تغييبها ) والمجتمع ( للتخلي عن ممارساته القديمة ونزعتها السلطوية ) بما في ذلك المجتمعات الذكورية التي تسعى إلى إقصاء وتهميش المرأة وإبعادها عن المشاركة.

المصادر:

الزهرة رميج، الذاكرة المنسية، سيرة ذاتية، منشورات فضاءات للنشر، عمان، الطبعة الأولى، السنة: 2017.
راضية العمري، مدن الحلم والدم، رواية، منشورات سليكي أخوين، طنجة، الطبعة الأولى، السنة:2017.