رواية «استوديو حمرية» لبوسلهام الضعيف قلق المحال وهاجس السؤال

يطل علينا المبدع بوسلهام الضعيف هذه المرة من شرفة عالمه الروائي، خجولا هادئا في بداية أسطر الرواية، وكأني به ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة، تلك الخطوات الحذرة المتوجسة من دخول عالم مجهول، له دهشته ووحشته، ثم سرعان ما تتبدد الغيوم وتنجلي مكنونات وأسرار العوالم المنسجمة في فوضاها، والمتفردة في تعددها في صوتها وصداها.. عوالم تمتح سحرها من اللقاء الأول، والنظرة الأولى، والكأس الأولى من التيه الذي يسكن الذات، ويحلق بها في أبعد السماوات، تلك هي نشوة الكتابة عند الضعيف، ذلك الألم الوجودي الذي يعتصر الجوانح، والوجع الذي يخز النفس ويجعلها تبوح من حيث لا تدرك، بوح لا تكلف فيه ولا تصنع، يأتي عفو الخاطر بسلاسة ويسر بابتسامة ساخرة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، وكأن السارد في «استوديو حمرية» يهمس للقارئ بذكاء أن قدر الكتابة وألمها، يمارسه كل منا لوحده وهو أشبه بالموت والولادة، ولكن لهذا الألم نشوة أخرى إذا تقاسمها مع الآخر، وأدخله في سراديب الرواية، وفرض عليه أسئلته المقلقة وهواجسها المؤرقة.

 

إن الكتابة عند بوسلهام الضعيف إنصات صوفي عميق لنبض الداخل، أما الخارج فمجرد غثاء وضجيج ولا معنى، وفوضى مترامية الأطراف، لا تحدها حدود. إن هذا النوع من الكتابة عملية استبطان ذاتي، واعتراف بخطيئة الوجود، وتوبة عن جرم الموجود في أنانيته وتعفنه، ومسخه وابتذاله، إنها هروب من اليومي المعيش المكرور إلى فضاء أرحب يردد فيه المبدع صلواته وتعويذاته، ويقرأ السلام الداخلي على نفسه، ويتطهر من أدران العزلة القاتلة بالكتابة، ويخلق عوالم وشخوصا وأزمنة وأمكنة قد تبدو عادية للجميع، إلا أنها طبعت ذاكرة السارد بميسم خاص، وتجعله يتساءل في ما يشبه الحلم، هل حقا حدث ذلك؟ وتدفعه إلى تعقب رائحة الذكريات في الوجوه والأماكن والأشياء، في محاولة يائسة للقبض على الخلود في صراع جلجاميشي، يُمَنِّي النفس بأن الصورة «في الأستوديو» الذي هَيْكَلُهُ ومحرابُه الذي يتعبد فيه، وإن كانت لحظة عابرة، فهي سعي نحو البقاء، وحياة ونبض وهمس في أدق تفاصيلها الصغيرة تعطي أفكارها الكبيرة، بعدما كانت للصورة في صيغتها التقليدية داخل الأستوديو مكانة هامة ورمزية في المتخيل الشعبي المغربي في الحفلات والمناسبات، فقد «كانت مهنة التصوير لها احترامها وتقديرها، فالمصور في الأعراس كانت له مرتبة سامية، إنه المركز ببذلته الأنيقة وربطة العنق المميزة بألوانها وحجمها الظاهر. فالكل يتحلق حوله والكل يطلبه. إن العرس حدث تاريخي في حياة الإنسان وتكمن قيمته في الصور التي ستخلد هذا الحدث (…) سينتهي الحفل بعد ساعات وستبقى الصور شاهدة وعابرة لأجيال الأسرة، فالمصور ليس له قيمة رمزية فقط ، بل قيمة مادية وشخصية ساعة الحفل، فالمصور يجلس للأكل في طاولة العريس والعروس مع العائلة حتى نضمن صورا تليق بنا بعد التحميض، ضمان الصور هو ضمان لخلود العرس».(الرواية: 58-59).
أما اليوم ومع انتشار الهواتف وسطوة وسلطة التكنولوجيات الرقمية الحديثة، فلم تعد للصور داخل الأستوديو أو للمصور نفس المكانة، والأمر بديهي، فقد ماتت مهن وظهرت أخرى، حاولت الرواية رصد تحولاتها وأعماقها ودلالاتها.
يجد القارئ نفسه يدخل من حيث لا يدرك إلى استوديو حمرية، زائرا تائها بين عوالم وأحداث وأسماء، قد تكون الصدفة سيدة القرار في لقاءاتها ومغامراتها، ونزقها ونزواتها بين أماكن ومدن متعددة شكَّلت ذاكرة السُّرادِ، وألهمتهم ما بين حانات مكناس وعوالمها الباطنية السُّفلية وكائناتها الليلية التي عاشرت الكأس وتعرف بحق ألمه وندمه ونشوته، فتبدو كطفل صغير مسترسل في الكلام بدون خيوط ناظمة تجمع شتات ما يقول، ومن يدري لعل هذيان السُّكارى هو الصدق، وهو العُقد البشرية تتكلم لوحدها بدون كرسي اعتراف، فهذا خانته حبيبته، وتلك تُعري ما تبقى من صدرها المنهوش علّها تظفر بضحية جديدة، وآخر يبكي وهو يحملق في التيه والفراغ، ولا يدري السبب فكل شيء ممكن في هذا العالم.
إن صاحب عالم الخمر مسكون بهاجس اللحظة ولا يهمه الآتي، يهمه فن صناعة الجلسة، وفي كل كأس يفتح صفحة من ماضيه، علّه يجد فيها سلوى عن حاضر بئيس كئيب، وهو يتوهم أنه قبض على جمر سعادته الحارقة، التي ما يكاد يصل إليها حتى تتحول إلى رماد وفراغ يتلاشى في الفضاء… إنه نسيان مؤقت وحلم مؤجل، أما كائنات الحانات والعلب الليلية فهي تكون روتينية يومية، وقد تغير جلدها حسب الرغبات والزبائن والأولويات، ومن يدفع أكثر يظفر… والأمر أشبه بفن دراسة الزبون في شكله وهيئته ولهجته، تماما مثلما يحدث في محلات بيع الملابس، أو حتى في محلات بيع الخُردة، والأساس هو الرضى الذي يعقبه عطاء باذخ وسخاء (…)
لن تكتمل الطقوس في رواية «استوديو حمرية» بدون موسيقى حالمة أو صاخبة حسب طبيعة اللحظة، وأضوائها وجلالها وجمالها، أو عُفُونَتِها وصفائها التي يختلط فيها المقدس بالمدنس، بل تمتزج فيها الترانيم الصوفية، بالهلوسات والكلمات البذيئة ورائحة العرق والعفن، ونار الشهوة التي يستعر أوَارُهَا بالأعماق، شهوة جعلت المرأة في «استوديو حمرية» الفاكهة المشتهاة، التي كانت محرمة في السماء، وحين نزلت إلى الأرض فعلت فِعلها في البشر، هي الممنوع المرغوب، هي الضوء الذي كلما اقتربت منه أكثر احترقت، هي الكيان والروح اللذان اختصرا فقط في جسد جميل وقوام ممشوق ونهدين وفخذين، وهو التشيء الذي حُكم به على المرأة منذ قرون خلت، وحتى وإن كانت هناك بعض الفلتات فهي فقط الاستثناء الجميل وسط قبح القاعدة.
أما الحب في «استوديو حمرية» فهو ذلك النصيب الأوفر والحظ الأكبر الذي فاضت به أوراق الرواية، ما بين حب تقليدي، أشبه بواجب ثقيل، في زيجات بدوية الشكل والمعنى، تجعل الجنس واجبا وطنيا ميكانيكيا، يردد بمناسبة أو غيرها، أشبه بأناشيد قديمة أكل الدهر عليها وشرب، ولكنها تترك أثرا وشيئا في الوجدان، هو أقرب إلى الأخوة منه إلى العلاقة، وبين حب في نسخته «المتحضرة»، حب أساسه عُنف اللقاء وحرارة الأشواق، وتحرر من سجن الذات، وانفلات من التفكير في الماضي والحاضر والآت. ويقول وفي سياق حديثه عن شخصية فاطنة يقول: «تفوقت في الدراسة وفشلت في دروس الحب، التقت بعمر الإدريسي، المناضل بالحزب الاشتراكي، أحبته بسرعة وتزوجت به، كان زواجا أليما وعسيرا (…) عاشت معه ثلاث سنوات من الجحيم اليومي المتواصل الذي أدمى قلبها ودمر كيانها، قبل حصولها على الطلاق. كان ألما يعادل قلع ضرس مسوس. (الرواية:99).
إن تيمة الحب في الرواية تعاقد على جمال اللحظة وتعاون مشترك على صناعة اللهفة، وإضافة توابل وطقوس تجعل من القراءة والموسيقى والتشكيل والسينما والفوتوغرافيا ملح اللقاء وأمله وألمه، ونشوته وفجعته، تجعلنا كقراء ننظر جميعا إلى ما ينظر إليه السارد، لكنه لوحده يرى ما لا نرى، وهو حينما يُعري شخصياته بالدخول إلى أدق تفاصيلها النفسية، فهي استراتيجية ولعبة ذكية، يُوهمنا بأنه قال كل شيء، في حين أنه أخفى علينا الحقائق واكتفى بالتلميح بدل التصريح، يقول السارد: «تجلس جنبي ينسدل شعرها، تضع ساقا على ساق، فإلى ربك المساق، تنفرج فتحة اللحم، أختلس نظرة، ثم أنظر إلى الأستاذ اليعقوبي، أركز على صلعته، يتكلم، لا أحد ينتبه إليه، لا أحد ينظر إليه، فقط بعض الطلبة الذين ما زالوا يثقون في هذا الكلام الذي يسمى فعولن مفاعلن، والذين يحلمون أيضا بأن يصبحوا معلمين مبرزين ولكنهم المساكين عندما سيخرجون سيبحثون فقط عن موعد مباراة رجال الدرك أو الشرطة». (الرواية:66).
إن الرواية كائن ورقي، يتحكم السارد في خيوطه ولعبته – كما هو معلوم-، يُظهر ما يريد ويخفي ما يريد، هي جدلية الخفاء والتجلي، إذن، والتي أثثت العالم الروائي عند بوسلهام الضعيف، والتي تمتح عمقها من الموروث، ومن المخيال الشعبي المغربي في تعدده وتنوعه وتفرده، في طقوسه المرورية في الولادة والموت والحب والزواج، بل في يومياته التي يعيشها في بساطتها وتعقدها، وفرحها وحزنها، والكتابة عنها من باب السهل الممتنع، صحيح نأكل ونشرب وننام كل يوم… إلا أن السارد جعل من ذلك فرصة ثمينة لتمرير أفكار فلسفية وصوفية وثورية ودينية وفنية… لا تقدم أجوبة للقارئ بقدر ما تعمق عنده هاجس السؤال وقلق المحال.


الكاتب : زهرة الخطابي

  

بتاريخ : 24/12/2021