رواية «ثورة الأيام الأربعة» للروائي عبد الكريم جويطي : الرواية والسؤال المؤرق.. أو الثورة التي تخرج برفقة سلحفاة

بين الفكرة والبذرة

حين تصادف وتقرأ مايتعلق بالحديث عن هذين العنصرين في الرواية، فإنك ستجد نفسك، تقرأ لروائي فيلسوف، أو لفيلسوف ينثر أفكاره ويصنع منها رواية وليس كتابا في الفلسفة ! .. إنه عبد الكريم جويطي الروائي الحفار، مقلب التراب، زارع الكلمات، ناثر الجمال،يضع السكين على الجرح، ليفتحه من جديد. هو الروائي الذي يفتح عين القارئ على الفجيعة وعلى مكمن الخطأ . هو المشغول والمشتغل على طرح السؤال لأنه يلهبه ويحرقه من الداخل. يسأل لماذا حدث الشيء هكذا بينما كان يجب أن يحدث بشكل آخر ؟ لماذا تسقط الأشياء بينما كان عليها أن ترتفع؟. جويطي عبد الكريم الروائي المهتم / المهموم بالسؤال والقلق الحارق، الذي يحاول أن يميط اللثام عن مكان العطب والخلل، عن مكمن الداء وعلة السقوط.. يتحدث فيقول :» نعم لقد سقط. ولكنه كان يحمل أسباب سقوطه وفشله منذ البداية، منذ الإنطلاقة. فتعالوا الآن لننبش، ونسأل كي نعرف لماذا رافقت أسباب السقوط انطلاقته ؟؟ ولماذا حمل معه أسباب الفشل؟ ومن هنا تبدأ معاول السؤال في الاشتغال بالحفر وتقليب التربة لفهم كنه وأصل وجذور هذه الأسباب التي أدت إلى السقوط والفشل … المثل المغربي الدارج والموحي بدلالاته ومعناه العميق يقول :» اباك طاح ! وكان الجواب .من الخيمة خرج مايل» الرواية ص 207.. حين تنتهي من قراءة رواية « ثورة الأيام الأربعة « للروائي المغربي عبد الكريم جويطي، سيتبادر إلى ذهنك السؤال التالي: «هل غادر جويطي أجواء روايته السابقة «المغاربة» حين هم بكتابة روايته الحالية؟ بمعنى أدق وأوضح هل ابتعد الكاتب عن الفلسفة والرؤية، والفكرة العامة التي بنى بها أحداث وعوالم رواية «المغاربة» حين فكر في إنجاز روايته الجديدة « ثورة الأيام الأربعة « التي تمتح من نفس الرؤية ومن نفس الهموم ومن نفس الفلسفة ونفس الفكرة وهي طرح السؤال بعمق وبجرأة، لعل تتجلى لنا أجوبة عن أسباب نكستنا التاريخية نحن المغاربة !. وبالتحديد طرح السؤال المقلق للذات، والذي يؤرقها ويعذبها بقصد النبش في الأعماق وتقليب التربة لرؤية ما تخبئه في باطنها وفي الظلمة التي تملأ جوفها.. لمعرفة لماذا جرى هذا الذي جرى، ولماذ حدث بالضبط بهذه الطريقة؟!.. ومن هنا يكون عبد الكريم جويطي بمثابة ذلك الروائي الذي يحمل المعول/ القلم ليكتب السؤال ويطرحه بصيغ متعددة، لمحاولة فهم ماجرى ومايجري، وليس هذا فقط، بل إن الكتابة عند جويطي هي محاولة فهم لماذا جرى الشيء بالطريقة التي جرى بها؟ بينما كان بالإمكان أن يجري بطريقة أخرى، ويأخذ مسلكا آخر،وتنتج عنه نتائج مختلفة، لو تم قليل من التدبر والفهم والعمل برؤية نافذة، تفهم وتعي ما تفعل..إنها الحيرة، إنها تلك الجمرة التي تبقى في النفس تحرقها وتحفر وتدعو إلى النبش لمعرفة الوقائع والأحداث .. من هنا ذلك الإشتغال في الآونة الأخيرة على التاريخ، لأنه يطوي عبر حقبه وبين جناحيه، مايمكن أن يقدم لنا تفسيرا لعلة وأسباب أوضاع المغاربة التي يعيشونها اليوم وعاشوها بالأمس . إشتغال يعتمد أدوات أخرى في التحليل، وفي القراءة لأن الرواية تكتب بشروط تختلف عن تلك التي يكتب بها التاريخ. ويبقى السؤال المؤرق والمحرك لمشروع الرواية هو « لماذا».. من هنا جاءت العودة إلى بعض الأحداث التاريخية، واستحضارها لمحاولة فهمها على ضوء قراءة متمعنة ومتشككة وعميقة. قراءة تحاول رؤية الأشياء ليس كما تمت روايتها ووردت في وثائق تاريخية رسمية، بل هي قراءة عميقة من منطلق القلق والشك والسؤال وإعادة بناء الأحداث على ضوء قراءة تحاول الفهم بالتدقيق وبالبحث في الأعماق، وعدم الاقتصار على الظاهر..إن الحفر هو ما يأخذنا إلى الأعماق، وذلك ماتحاول الكتابة الروائية عند جويطي أن تقوم به، من خلال طرح السؤال الذي لا يقنع بالإجابة الموجودة والجاهزة التي تروج بين العموم، بل هو سؤال يحمل الهم الجماعي، هموم مجتمع بأكمله للجواب عن: لماذا بقيت الأوضاع هكذا ولم تتغير إلى ماهو أحسن؟ لماذا يكون مصير كل المبادرات البناءة الفشل والخسران؟
إن السؤال هنا هو بمثابة قلق وحرقة تريد أن تنطفئ بالفهم وبمعرفة مكمن الخلل، وفي أية زاوية يكمن سبب السقوط الذي يعمل على هدم كل خطوة تحاول أن تتقدم وتبني؟ فتكون الرواية بمثابة تلك اليد التي تمتد لتزيل الغشاوة/ العصابة من فوق العينين، ليس بتقديم الجواب الجاهز والمباشر، لأن هذا ليس من أدوارها بل لتجعل القارىء يتبلبل، يقلق، يفز، ويندهش، يفتح عينيه من وقع بعض العبارات أو الجمل، ومن أجواء وأحداث الرواية، ليتسرب إلى داخله قلق السؤال، الذي يحرك عجلة الكتابة في الرواية، قلق فهم ماحدث، ولماذا حدث؟.. إنه لمن حسن طالع الرواية العربية والمغربية بالأخص أن قيض لها اسم عبد الكريم جويطي، ليمنحها بعض ماكانت تفتقده عند القارئ العربي، ألا وهو صدق فعل الكتابة. والقرب الكبير من الذين تكتب من أجلهم الرواية. فكان هذا الصدق في الكتابة وقربها الكبير من المتلقي من بين الأسباب العديدة التي تجعل أنه كلما نزلت إحدى روايات جويطي إلى المكتبات إلا وتجد إقبال القراء عليها. إقبالا يمكن أن يشبه ذلك الذي نراه في دول بلدان الغرب التي تنتظم أمام مكتباتها صفوف القارئات والقراء ينتظرون وصول دورهم للحصول على نسختهم من الكتاب المرغوب..صحيح أننا لانرى هذا المشهد أمام مكتباتنا بنفس الصورة، ولكن يجب الإقرار بأن كثيرا من الكتبيين يصرحون أنهم حاليا يبيعون رواية «ثورة الأيام الأربعة « بشكل جيد ومتواتر، منذ صدورها، وهو حدث أدبي تسعد به الرواية المغربية، وهو أيضا عنوان لدخول أدبي تعيشه هذه السنة الساحة الأدبية المغربية ..! في قراءة وتحليل الرواية:.. مالذي ألقى بك في هذا الجحيم ؟ أجبته:» بصدق، لا أعرف، منذ أن خرجنا وأنا أطرح على نفسي هذا السؤال، أنا في كل هذا، كمن زلت قدمه في منحدر كان بإمكانه تلافيه، لكنه وحين فقد توازنه تهاوى،ولم يعد زمام نفسه بيده «لرواية ص 197.
.. « منذ سنوات وأنا أقول لهم إن الثورات الحقيقية تترافق مع حركة أفكار جديدة، البنادق والقنابل والمقصلة لايقتلون الماضي،من يفعل ذلك هي الأفكار الثورية الجديدة، ثورة بلا أفكار تحدث صخبا وتبني أوهاما وتحدث خرابا وتغير وجوها، لكنها لا تمس الماضي، بل تقويه من خلال تجديده وطلائه بلون المرحلة « الرواية ص 199..
كثيرون هم المغاربة الذين عاشوا أو سمعوا بأحداث ثورة 73 «بمولاي بوعزة « بإقليم خنيفرة، وهو حدث تاريخي عاشوه في فترة المخاض السياسي والاجتماعي الذي حدث بعد الحصول على الاستقلال السياسي للبلد (17سنة). وهو الحدث أيضا الذي كتب عنه الكثيرون، وعن المآسي الإجتماعية التي خلفها في نفوس سكان المنطقة، وماجره من ويلات بعد ذلك على المنطقة بأكملها وقد كان عنوان المأساة هو العزلة التامة، والتهميش، والفقر والبؤس المنتشران، واللذان عاشهما سكان الجبل هناك.. وإذا كنا نتحدث عن أن الرواية عند عبد الكريم جويطي، هي رواية القلق، رواية السؤال. فإن السؤال الأساسي والمركزي الذي تطرحه رواية « ثورة الأيام الأربعة « هو لماذا لم تنجح الثورة؟ وهذا السؤال تتولد عنه أسئلة أخرى ذات أهمية مثل هل كان الثوار يعرفون الواقع الذي يتحركون فيه؟ هل تم التهييء وتدبير أمر إشعال الثورة كما يجب؟ هل ثار هؤلاء الثوار على أنفسهم أولا قبل أن يفكروا في إشعال الثورة؟ بمعنى هل تجاوزوا الماضي الذي يجثم على ذواتهم وتخلصوا من أفكار الماضي كما يذكر السارد؟ هل استطاعوا تجاوز أعطاب وثغرات الذات أولا؟ كيف تم تجميع هذا الخليط من الثوار الذي يبدو من خلال أحداث الرواية بأنه غير منسجم، فيه القائد الذي ينتمي للسلطة نفسها والتي يريدون أن يثوروا ضدها. ويبقى اسم القائد هنا لغزا فهل معناه قيادة المجموعة الثورية، أم هو لقب السلطة الذي بقي يرافق الشخص، وحمله معه إلى أتون الثورة؟ هو الشخص نفسه، الذي بدأ في إشعال الثورة حتى قبل إعلان انطلاقتها وذلك بقتل « الكوميسير» وهو الفعل الذي استنكره بعض رفاقه ورأوا فيه فعلا انتقاميا وتصفية حسابات شخصية لا تمت بصلة إلى قواعد وأخلاق الثورة. وقد فسر البعض سلوك القائد بأنه بداية للفوضى والقيام بأفعال غير محسوبة وممقوتة، وهو خطأ لا ينبغي أن تسقط فيه الثورة، خاصة وأنها في بداياتها . والبعض الآخر كان يترك النقاش الجاري بين أفراد المجموعة فيذهب ليقيم الصلاة في وقتها . «التزنيتي» صاحب المكتبة في مدينة بني ملال، يبدو حزينا وكئيبا منذ البداية ويرى أنه أخطأ حين انتمى للمجموعة التي لايصدر عن أفرادها إلا الأفعال المرتجلة، والتي لاتعرف إلى أين ستذهب الأمور. وأن الحديث في شؤون الثورة لم يكن يتم تعميمه سواسية بين الأفراد، بل كان هناك من يعلم أمورا تستجد، ومن كانت تغيب عنه معرفتها. لم يحدث أن اتفق أفراد المجموعة على فكرة.بل كان كل واحد يتحرك بمفرده ومنعزلا عن الآخرين، لاسيما حين علم الجميع بأن قد تم تأجيل انطلاق الثورة في الجبل بينما كانت المجموعة قد استولت على الثكنة العسكرية وأسرت الجنود الذين كانوا موجودين فيها أو الذين تم جلبهم من الماخور الذي كان بعضهم يحتفلون فيه بعطلتهم. أما « زياد السمعلي « أستاذ الفلسفة الذي وجد نفسه في مجموعة لاتنتبه لحضوره، ولا تلتفت لوجوده، هو الذي سيختاره القائد ليكون «مؤرخ الثورة» والمكلف بتسجيل كل الملاحظات عما يدور ويحدث في الجبل خارج الثكنة وداخلها ، والذي كان يطرح على نفسه طيلة يوم تواجده مع الثوار سؤال « ماذا أفعل هنا»، لإحساسه بالتهميش، وعدم الانسجام معهم. زياد مؤرخ الثورة تواصل مع أشخاص غرباء في الجبل وأقام معهم أحاديث وحوارات أكثر مما فعله مع مجموعته الثورية، التي من المفترض أن يدور بين أفرادها الحوار وتبادل الرأي والتفكير في ما هم يقدمون عليه.. ثورة في زمن حديث(1973) ،تقوم على عناصر تنتمي إلى الزمن القديم. فكيف لثورة أن تنجح إذا كانت تعتمد في انطلاقتها على الرقاص. الرقاص الذي وصل متأخرا إلى «بني ملال « والذي كان مكلفا بأن يخبر المجموعة بأن هناك تعليمات فوقية وصلت لتأجيل إشعال الثورة، بالإضافة إلى الجهاز اللاسلكي الذي تعطل مع البدايات الأولى لانطلاق الثورة ، فانقطع التواصل بين جماعة الثوار وهم في الطريق إلى جبل «إيرس» لإشعال شرارة الثورة ودعوة سكان الجبل لينضموا إليهم، وبين الذين يخططون ويديرون العمليات، ويتحكمون في سير الأمور ويعطون التعليمات من بعيد دون أن يشاركوا أو حتى يقتربوا من مكان انطلاقة الثور،ة والتعرف على الناس الذين كانوا يقولون عنهم بأنهم مهيأون ولا ينقصهم سوى من يشعل الشرارة الأولى لينضموا للثورة ويشعلوا الجبل بالنضال والمواجهة ويعبروا عن غضبهم على أوضاعهم الاجتماعية المأساوية. وبالتالي إذا كانت الثورة قد حملت أسباب فشلها في جوفها كما يقال،فإن السؤال هو لماذا حدث ذلك؟ هل لأن « العالم بكل شيء « (وهو الإسم الذي أطلقه السارد على المشرف العام والمدبر للثورة) ، لم يكن في الحقيقة يعلم أي شيء؟ أم لأن الثورة برمتها حدثت أو تم التفكير في حدوثها قبل أن تنضج ظروف قيامها؟ من هنا تلك الفقرة في الرواية التي تحدثت بعمق فلسفي عن « البذرة والفكرة» والتي تقول في النهاية بأن لاشيء يحدث قبل أوانه، كل فكرة أو فعل يحتاج لزمن معين كي ينضج، وكذلك لعوامل ولظروف تساعده على النضوج. لا ثورة تقوم بدون أرضية ثقافية وفكرية تسبقها كي تعمل على إنضاج العقل وتهييء مايلزم كي تنتشر الفكرة وتنمو ،كما تنمو البذرة بعد أن يتفتق باطن الأرض وتخرج من ظلمة الباطن كي تتشرب الماء والنور فتكبر لتمنح الثمار.في كل ثورة تبقى الذات هي المعضلة. أي كيف نتجاوز المعيقات التي تسكننا لنذهب إلى التغيير ونتقدم فيه. كيف نستطيع أن نخلع قشرة الماضي فينا كي نلبس لباس الحاضر والمستقبل؟ كيف نستطيع تكسير الأغلال التي تكبل خطونا كي لا نسير إلى الأمام ؟ كيف تستطيع ثورة أن تقوم في واقع خرافي وغيبي لايزال فيه الناس ينتظرون الوهم، بل يرون بأنه هو الحقيقة؟ واقع يشتري فيه الناس ماء مخلوطا بمادة صفراء على أنه دواء فيقبلون عليه بكثرة في أسواقهم. ألم يكن « زطاورو» كما يلقبه أهل المنطقة، اليوناني الشريد والمحتال،والذي خسر ثورته في بلاده اليونان، ففر ليستقر ويعيش بالتحايل على ناس بسطاء،سذج ومغفلين يبيع لهم ماء أصفر على أنه دواء ويلقى الرواج و يأتي إليه من يشكره ويقولون بأنهم قد تعافوا . ألم يكن زطاورو على «حق» حين قال لزياد وهو يحاوره أثناء عملية إخراجه من ماخور « ثوذا» لجلبه إلى الثكنة التي يوجد فيها الثوار، مامعناه « كيف يمكن أن تقنع أناسا لايزالون في الماضي يعيشون على الوهم وعلى انتظار الفراغ « فيقول لزياد أيضا « صحيح خبيبي( يقصد حبيبي) ليس دواء.وهم دواء فقط، هذا مايحتاجونه، الأوهام حين تكون الحقائق بعيدة المنال « الرواية ص 234. لقد كان مشهد حشد سكان الجبل وإحضارهم إلى الثكنة ليخطب فيهم القائد ويخبرهم بالثورة التي سيشعلونها في الجبل أحسن مثال على انعدام التواصل وعدم فهم مايجري من لدن الطرفين، فلا الثوار كانوا يعرفون عقلية وأمزجة وظروف سكان الجبل معرفة دقيقة، ولاالسكان كانوا يعرفون القصد والغاية من كل هذا الذي يجري أمام أعينهم .فلذلك وجد القائد صعوبة كبرى في تمرير مضمون خطابه للحاضرين الذين يجلسون أمامه. فهل كانت لغة الخطاب هي المعضلة؟ أم أن مايسمعه الحاضرون لم يخلف في نفوسهم أي أثر، ولم يمس ماكانوا ينتظرونه. فأحيانا لاتكون لغة الخطاب الذي نوجهه لبعض الناس هي المعضلة، بل إن المعضلة تكمن في مايحمله الخطاب، وما الوقع الذي يخلفه في نفس من يسمعه.؟ وهل أصاب شيئا من انتظاراته في الحياة؟ لماذا وجد القائد صعوبة كبرى في تمرير مضمون خطابه الثوري إلى سكان الجبل الذين جمعهم في ساحة الثكنة؟ هل كانت ترجمة عبارة « الثورة» إلى اللغة الأمازيغية هي المعضلة الحقيقية؟ أم إن حقيقة المشكلة هي أن السكان يوجدون في ضفة بينما مايقوله القائد يأتي من ضفة أخرى لايعرفونها حق المعرفة، ولم تكن هناك جسور تقوم على التقريب بين الضفتين. ولذا ينتهي المشهد بسلوك كاريكاتوري يبعث على السخرية السوداء حين انتهت الخطبة فقام السكان الحاضرون يلتهمون الحلويات ويشربون الليمونادا التي أحضرها الثوار بالمناسبة من مطبخ الثكنة ثم حين انتهوا من الأكل والشرب، انصرفوا. انصرف الرجال إلى حياتهم اليومية والصغيرة، إلى حزنهم وعزلتهم، انصرفوا إلى قعدتهم المعتادة في الوادي يراقبون زوجاتهم اللواتي يكن بدورهن يراقبن ظهور أحد الأبناء الغائبين والحاضرين في الذاكرة على الدوام، وفي معرض الصور الذي يشرف عليه « عدي» ، الرجل الذي يسمي مقر معرض الصور بالمقبرة. ومع ذلك فإنه يدرك بأنه بهذا العمل يحرس الذاكرة الجمعية للجبل وأهله. ويحافظ على وجود واستمرار وجود الأبناء الغائبين/الحاضرين في ذاكرة الأمهات والمكان. عدي كان حصيف الرأي، لما قال لمؤرخ الثورة زياد السمعلي، بأن أهل الجبل أنهكوا واستنزفوا على مر التاريخ، وقد تعبوا من ويلات الحروب، ومن فقدان أبنائهم وأحبابهم فيها، وهم الآن يريدون فقط أن يستريحوا من حزن الفقد وتعب وقهر العزلة التي يعيشونها في الجبل. لذا يرى عدي أن المراهنة على انخراط سكان الجبل في الثورة تقدير خاطىء ولن يحدث.فهو يتساءل مع زياد، كيف أن هؤلاء الثوار جاؤوا إلى هنا لإطلاق شرارة الثورة،وجعل سكان الجبل ينخرطون فيها ويعملون على مساندة الثوار، وكأنهم لايعلمون شيئا على أحوال الناس وظروف عيشهم؟ ثم هل تقوم ثورة في مجال غير ناضج وغير مهيأ لاستقبال شرارتها وشعلتها؟ ومن هنا يؤكد عدي على أن الثوار أخطأوا في حسابهم وتقديرهم، وأنهم لن يجدوا من ينضم إليهم من سكان الجبل، ليس لأنهم يخافون البارود والرصاص ولكن لأنهم تعبوا وهم الآن في استراحة ممتدة في الزمن لايريدون سوى أن تمر أيامهم في هدوء وسكينة. ولأن زياد رأى أن كلام عدي هو عين العقل، فإنه لم يتوان في التعليق على كلامه قائلا:» هاهو صوت حصيف من أصوات الجبل لايقول إن الأمور لم تهيأ بشكل جيد، وإنما ماكان لها أن تهيأ أصلا لأن الجبل متعب ويلزمه وقت طويل ليتعافى» الرواية ص323.
أن يتعافى من العزلة والفقد.الفقد الذي تصبح وتمسي نساء الجبل يجابهنه ويقاومنه لأنه ليس حقيقة بالنسبة إليهن، بل إن الحقيقة هي الإصرار على البقاء والحضور الدائم. الأمل والرجاء، هي الرسالة القوية التي تبعثها صورة الأمهات في الجبل وهن يذهبن كل يوم ولمدة عشرين سنة وتحت تبدلات وتغيرات الطقس على طول السنة، فيجلسن جماعة على الربوة ينتظرن ظهور أبنائهن من بعيد. فأية قوة كن يحملنها في الأعماق وفي روحهن تجعلهن يحافظن على نفس الأمل ونفس الرجاء في ظهور الأبناء الخمسة الذين أخذتهم سلطات الحماية الفرنسية بالقوة وحملتهم في الشاحنات للدفاع عن فرنسا في جبهات القتال داخل أدغال آسيا. إن هذا الإصرار اليومي الذي لايخبو، ولايفقد شيئا من عزيمته،هو عنوان ضد النسيان. ضد المحو. ضد الغياب، وهو قبض بقوة على رجاء الحضور،البقاء والوجود. إنها معركة شرسة بين قوة تريد أن تمحو وينسى الناس بمسح ذاكرتهم ، وبين قوة الإصرار على الوجود، على التذكر،على الثبات في المكان مهما كانت شراسة وقهر القوة التي تعمل على المحو والتغييب . كانت الأمهات ينهين عملية الإنتظار والترقب مساء، بالذهاب إلى معرض صور الغائبين، للنظر في وجوههم التي تحضر أمام أعينهن كأنهم هنا، حاضرون،باقون، ينطقون من خلال عيونهم المفتوحة على المكان، ويؤكدون على أنهم ينتمون لهذه التربة، لهذا الجبل، ويتشبثون به ، فلا شيء، ولا أحد يستطيع أن يقتلعهم ويلقي بهم إلى غياهب الغياب. وكانت الأم « طموش» رمز القوة والإصرار والتمسك بالأمل والرجاء، حتى في يوم جاء العسكر الفرنسي ليقتلع إبنها «إيعزا» مع أقرانه الآخرين من الجبل لم تستسلم ولم تستكن.بل قاومت بشدة وبشراسة لافتكاك ابنها من يد الجنود الفرنسيين الذين يقتلعون الشبان ويلقون بهم في الشاحنات، لحملهم إلى جبهات القتال الهند الصينية للدفاع عن فرنسا. لم تضعف عزيمة طموش يومها وتعلقت بالشاحنة رغم أعقاب البنادق التي كانت تنزل على صدرها ورأسها، لم ترخ يدها،فبقيت مجرورة تقبض على طرف صغير من غطاء الشاحنة إلى أن تعبت يدها وانسلخ جلدها، لكنها لم تستسلم للأمر فبقيت ترقب كل يوم من فوق الربوة ظهور « إيعزا». إشارتان: « ثوذا» المشرفة على الماخور في الجبل، والتي أراد الثوار حين دخولهم إلى الثكنة أن تكون بداية مبادرتهم الثورية هي إغلاق الماخور ليكون لذلك صدى حسن وطيب، بين سكان الجبل، وهي تعترض على القرار الصادر عن الثوار،وتحتج أمام زياد المبعوث لإخبارها بذلك، فخاطبته بما معناه «لماذا بدأتم ثورتكم بحجور الناس؟ لماذا تنظرون فقط إلى الأسفل، ولاتنظرون إلى فوق، أي إلى مايحتاجه السكان في تنوير أدمغتهم، و الصحة والشغل وفتح المسالك في الجبل، والمدرسة…؟» فجابهته تقول «أنا تاريخ» فأخرجت تضع أمام عينيه، قفة من الأوسمة والنياشين التي رهنها لديها من مروا وقضوا ليالي عندها في السهر ولم يجدوا مالا يؤدون به! فأنهت مواجهتها مع زياد بإخباره بأن فرنسا كانت كلما بنت ثكنة تبني بالقرب ماخورا حتى لاتقع جرائم الاغتصاب والاعتداءات والعنف، فقالت إن فرنسا تفكر أحسن منكم !.. السلحفاة «سرمد» من أهم الشخصيات في الرواية، لأنها العنصر الذي رافق أحداثها ، و»راقب» مجرياتها، وكان عنوانا لحالها ومآلها لأن السلحفاة في المخيال الجماعي، هي البطء وعدم الاكتراث بما يجري، والانكماش حين يداهم الخطر والدخول تحت القشرة. وكانت السلحفاة سرمد قد «أصرت» على مرافقة زياد الذي كان يبعدها من حقيبته لما كان يتهيأ للخروج واللحاق بالمجموعة، والتي كانت تعود وتختبىء بين الحاجيات في الحقيبة فوجدت نفسها تشهد فصول ثورة سلحفاتية مرتجلة ومتذبذبة، ولاتعرف الواقع الذي تتحرك فيه…
وفي الأخير، لقد جاء الحديث عن فشل الثورة واندحار الثوار، في هذه المقالة، ولكن الرواية في الحقيقة تتحدث أحداثها عن اليوم الأول فقط لإعلان انطلاقة الثورة ، ولاتتحدث عن فشل الثورة وسقوطها، بل تركز على الارتجال الذي عاشه الثوار خلال خطواتهم الأولى لإشعال شرارة الثورة. الارتجال الذي تجلى أساسا في سوء تقدير الأمور وعدم معرفة الواقع الذي يريدون إطلاق الثورة منه. لكن مع ذلك كان كل شيء يوحي بسقوط الثورة وفشلها، لأن كل الأفعال التي تجري وتحدث هي عناوين ومقدمات لنكسة كبيرة ستحدث لامحالة.


الكاتب : إدريس أنفراص

  

بتاريخ : 05/11/2021