رواية « دفاتر الوراق » للروائي الأردني جلال برجس

 

شخصيات تكتب أوجاعها ومصائرها في دفتر واحد

 

 

تنتهي من قراءة رواية « دفاتر الوراق» فتشعر كأنك لم تقرأ رواية كتبها مؤلف وصاغ عوالمها المركبة والمتشابكة. بل قرأت حكايا وقصصا في دفاتر كتبها أشخاص عاديون ومختلفون، ودون كل واحد منهم في دفتره ما يخالج صدره وما يعانيه في الحياة. هم أشخاص يلتقون في المعاناة وبؤس الحياة، ويختلفون في الجهات التي أتى منها كل واحد منهم. لكن الأقدار جعلت مصائرهم تتلاقى وتتشابك أحيانا، وتفترق أحيانا أخرى. لقد كانت مضامين هذه الدفاتر هي الأساس أو العامود الذي قامت عليه رواية « دفاتر الوراق». أما المؤلف فقد اكتفى بمنح الحرية لكل شخصية كي تكتب وتتحدث عن أوجاعها وأوضاعها، ويقوم بتجميع كل ماتم تدوينه وتحبيره في أوراق كل دفتر.
رواية تشعر معها وكأن المؤلف توارى، واقتصر دوره على إفساح المجال أمام كل شخصية من شخصيات الرواية كي تقول وتروي حكايتها أو حكاياتها ويكتفي بتجميع الأوراق والعمل على تنسيقها ومجاورة كل حكاية مع أخرى تليها، تكون تتناسب معها في السياق وفي بناء عالم الرواية. وقد كان تعدد الأصوات وتناوب الشخصيات على الكتابة في دفترها الخاص من التقنيات التي اعتمدها الكاتب في إنجاز روايته.
وإذا كانت هذه الدفاتر التي يدون فيها كل واحد حكايته ويرويها وهي تحمل في طياتها أوجاعا وهموما تبدو شخصية وتتعلق بذات كاتبها، فإن هذه الأوجاع والهموم في الحقيقة هي أوجاع جماعية يشترك فيها عديد من الناس يعيشون في مجتمع يتخبط في مشاكله اليومية ويعارك الحياة من أجل البقاء والإستمرار فيها. لذا يأتي ذلك الصوت المحرض الذي يلازم الراوي ولايفارقه في جميع الظروف والأوقات. صوت يحضر ليدفع بصاحبه إلى الفعل، إلى المواجهة، إلى الرفض وعدم التسليم بكل الأشياء، سيما تلك التي تنغص عليه الحياة.
صوت قوي محرض لصاحبه على الخروج من السلبية والخوف اللذين يلازمانه في عيشه. «دفاتر الوراق» هي رواية محرضة على الفعل الإيجابي وعلى المواجهة وعلى فعل التغيير بامتياز. رواية ترفض الخنوع والسلبية وتدفع إلى تجاوز حالة الضعف والاستكانة.
فقد فعل الصوت المحرض كل مايستطيع للدفع ب «إبراهيم» كي يتجاوز حالة الطيبوبة التي هو عليها، ليكون قاسيا بل ويرتكب جرائم ليثبت بها نفسه في عالم قاس لايرحم الطيبين. فقد كان الصوت المحرض يطلب من إبراهيم أن يلبس ثوب شخصيات في روايات عديدة أخرى ويصير مثلها في السلوك وفي ما فعلته في أحداث تلك الرواية. «هيا يا سعيد، عليك أن تتجاوز إبراهيم الطيب وتمضي» ص 208
استدعت رواية «دفاتر الوراق» شخصيات شريرة وقاسية من روايات أخرى كما حصل مع إبراهيم حين رأى نفسه،أنه هو « سعيد مهران» في رواية « اللص والكلاب « لنجيب محفوظ وما جرى له مع « عليش» وزوجته نبوية.
يصرخ فيه الصوت إلى أن يلبس جميع الحالات، وأن يضع كثيرا من الأقنعة، وتكون له كثير من الوجوه إذا أراد أن يعيش في هذا العالم بسلام «حتى لايفتضح أمرك، أنت الآن «زيفاكو»، وفي المراحل القادمة ستكون شخصا آخر. في هذه الحياة عليك أن تكون ألف شخص لتعيش» ص274.
هذا الصوت، إنه صوت الغضب النائم في الأعماق، صوت ينهض ويخرج إلى العلن ليعبر عن نفسه بكل ما يتوفر عليه من أسلحة، حتى لو كانت سلاح السرقة والسطو بدعوى استرجاع ما أخذه اللصوص وسلبوه. إنه الوسيلة لأخذ الحق بالعنف في مجتمع يرى نفسه يغرق في البؤس ولا يتحرك لتغيير أوضاعه وظروف حياته البئيسة.
يأتي الصوت الغامض والمحرض من وراء رأس إبراهيم فيحدثه يقول « لم آت إلا جراء شروخ وندوب وضعف يعتري روحك، هذا العالم يراد له وحش يخرج في الليل، ويقتنص طرائده، وفي النهار يظهر للناس مافيه من حمل وديع « ص 300.
إن معظم الشخصيات في الرواية، هي شخصيات بدون أب، أو بدون أم أو بدونهما معا. شخصيات ينتحر آباؤها ويموتون فتبقى معلقة بدون سند تلتجئ إليه وقت الحاجة. وموت الأب هنا أو جميع أفراد الأسرة، يترك الشخصية عارية. تعيش الهشاشة والفقد. تفقد الأمان في الحياة، وتفقد من يؤويها ويرعاها. لذلك تجد نفسها مضطرة إلى أن تسيح في دروب المدينة أو في جهات وأماكن مختلفة، مادامت تفتقر إلى جذور تشدها وتعود إليها حين تحتاجها، أو تعود إلى مأوى وبيت تسكن فيه وتستقر تحت رعاية الأهل. لكن الذي يثير في الرواية هو هذه القدرة على كتابة الألم والوجع ليس بالدموع وبالبكاء، بل بكتابة تخلق المفاجآت والدهشة وغير المتوقع في سردها للأحداث. إنها رواية غير المتوقع مكتوبة بلغة تنفذ إلى عمق المأساة وتبرزها كثيرا بنوع من الضحك الذي يشبه البكاء! كما نقول عادة عن أشياء مؤلمة لكن تكون بإخراج مدهش يثير الضحك الأسود. وكما يقال أيضا:» من كثرة الهم يولد الضحك !». ففي الرواية تلتقي مع معالج نفسي يحتاج لمن يعالجه! الطبيب النفسي يعيش أزمات ومشاكل. إنه الطبيب المريض، الذي يجد المرء نفسه يتساءل مع حالته « كيف لطبيب مريض أن يعالج مرضى آخرين يقصدون عيادته؟!». أليس هو أولى وأجدر بالعلاج؟. من هنا يأتي مبعث السوريالية والسخرية من وضع يبعث على الأسى والحزن. لكن المرء لايملك أمام هذا النوع من الحالات سوى أن يسخر سخرية سوداء وينتظر الصوت الغامض ينبعث من الفراغ الذي حوله ليستنهضه، ويرسم له خطة مواجهة الموقف.!.
في زمن الرواية، كلما تقدمنا في سرد أحداثها كنا في الحقيقة نكتشف ماضي السارد. وهذا معناه أنه كلما تقدمنا في زمن الرواية نكون ننزع الغطاء عن الماضي. كما أن هذا معناه بأن الذهاب إلى الأمام والتقدم في سرد الأحداث، يجعلنا نعود إلى الوراء، إلى الزمن الذي نبتت فيه أولى بذرة الأحداث، ثم صارت مع مرور الوقت تنمو وتتشابك. ونحن كلما قلبنا صفحات الرواية نسير إلى أمام، كنا في الحقيقة نحفر على جذور البذرة في عمق التراب، ونكتشف ماجرى في الزمن الذي مضى.

(الرواية العربية الفائزة بجائزة البوكر للرواية العربية للسنة الماضية 2021)


الكاتب : ادريس أنفراص

  

بتاريخ : 08/04/2022