رواية «رجال ما بعد منتصف الليل» للروائي خالد أخازي .. رجال ما بعد منتصف الليل والعالم الداخلي

الروائية والناقدة: فيحاء السامرائي
رغم أنهما انطلقتا من كيان مشترك وركائز واحدة، فالرواية المغربية، كما شاعت التسمية، تميّزت عن الرواية المشرقية بخصوصية اجتماعية وفضاءات سرد، وتوشّحت بأساليب ولغة محلية مختلفة متأثرة بكتّاب أجانب، ونتجت عن ذلك تجربة سردية استثنائية شكّلت فرادة الواقع المغربي وتقاليده الشعبية، نراها جليّة في رواية «رجال بعد منتصف الليل» للروائي والكاتب المغربي خالد أخازي، الصادرة حديثاً عن دار لندن للنشر لعام2021.

 

 

تتشعب محاور الرواية لتتناول المدينة والهامش المغربي اجتماعياً، ومواضيع عديدة كالشعور بالعار من الأصل، الرذيلة والفضيلة، الطفولة، فلسفة الموت، الأفكار السياسية، كالليبرالية واليسارية الإسلاموية المتطرفة والمعتدلة، وحملت الثيمات انطباعات حزينة وأجواء قاتمة ملازمة للفضاء السردي.
خرج فضاء السرد من معطف قاع المجتمع، وبدت الدار البيضاء بصورة بانورامية (المدينة المثقلة بقيء الليل الثمل، الغانية والناسكة.. العاهرة والعابدة، والغارقة في يم الخطيئة) والتي (فقدت عذريتها)، مدينة مآسٍ اجتماعية- اقتصادية وعوالم خفية لمهمّشين ومتشردين، لسلطة غرائز وجسد.. فيها استغلال وظلم اجتماعي، فوارق طبقية وحرمان، بؤس وفاقة، حانات وخمر وبغاء، عاهرات ودعارة، سحر وشعوذة، شذوذ جنسي وبيدوفيليا، مخدرات وإجرام، عنف وانحراف، تحرش واغتصاب، فساد وضعف نفوس، وأوى المدينة بشر بملابس متعفّنة متعرّقة، يسكنون في بنايات رطبة عتيقة عطنة.
الوطن، كما ذكر الروائي محمد زفزاف في روايته «المرأة والوردة»، (تحكمه أقلية بيضاء، من المغامرين والقوادين وبائعي نسائهم)، والدار البيضاء (مجتمع متناقض، يصف المهنة- الدعارة- بالحرام غير أن أموالها حلال)، (في كل دار هاربة أو عاهرة) و(اختفى سؤال: من أين هذا يا ابنتي؟)، تكتظ بدور دعارة كلاسيكية، فقيرة متواضعة، وأخرى، معاصرة حديثة، جرّاء (بؤس يفرّغ الناس من الفضيلة والإنسانية)، مما يجعل رجال ما بعد منتصف الليل (باحثين عن المتعة والترفيه)، حتى بعد أن تبدلت المنظومة الاقتصادية والاجتماعية للمدينة.
إبراهيم، السارد الرئيسي، يتوه في المدينة مع عاره (أمي كانت عاهرة ووسيطة للدعارة ومُخبرة)، لا ينفكّ باحثاً عن أصله حتى تتكتشف له الحقيقة.. (مسلم ومؤمن وحداثي)، يسكر ولا يصلي لكنه يصوم، لا يؤمن بالشرك وبالملحدين (خلقنا ناقصين لنعبد الكامل)، ولا بالتطرف الاسلاموي (ضاعوا جهلاً وقهراً)، يمتدح الاعتدال الديني الذي جسّده بشخصية الطبيب سي السماحي.. يستحضر زميله وصديقه جلال على الدوام، قولاً ومناجاة، يجعله رمزاً لشخصية المنافق الليبرالي اليساري، بازدواجيته وبحضور أقواله البرّاقة دون أفعاله، فيصف شخصيته بأنه (يناضل باللغة) وأنه مثقف مراوغ وسكير، يؤيد الاستقرار ويصف التغيير بأنه محض (مسمّيات مغرية، الحرية، الثورة)، (فسّر كل هزة بمؤامرة)، متناقض، يشير إلى أن (الأصل أسطورة) و(العاهرات مناضلات)، لكن أفعاله لا تبرر ذلك، فانتهى ابراهيم الى رفضه واعتباره (جزءا من حاضر عفن ومستقبل مزيف)..أما ربيعة، أم ابراهيم، فهي المرأة والمدينة والأصل والتراث والطيبة، إنها (عاهرة لكنها أم صالحة).. وظهرت شخصيتا جوزيف وكاميليا كرمز لموضوع التعلق بالمكان وخلط مفهومي الوحدة والوطن العربي، نسمع عنهما في الفصلين (2 و3)، ثم يختفيان بعد ذلك ليظهرا بلا دور، في صفحة (190) فصل (18).

ملاحظات عامة عن الرواية

* قد نتساءل: ما علاقة العنوان بمضمون الرواية؟ لماذا الرجال، رغم انّ النساء هنّ المحور؟ أمه والبتول ورقية، المكرّسة للإنجاب والبيت والخدمة، وتعامل الزوج معها (سيعوض الطاهر ما لا يجده فيها في أسرّة العاهرات)، فالمرأة إذن هي (خريطة للجنس والقهر)، ويعود سبب ذلك إلى أنّ المجتمع ذكوري بحت، إنهم رجال عالم الليل، (الليل عالم خاص) في المدينة.
* استخدم المؤلف الوصف الحسي بصورة ملموسة، البصري والسمعي وحتى الشمّي، وجعلنا نشمّ عبره روائح تخصّ المدينة وناسها وأشياءها.
* انتقل في سرده، من المناجاة بضمير المتكلم، الى ضمير المخاطب بسلاسة: (يا جلال.. يا جوزيف)، واستخدم الجمل الطويلة، لكنه أخفق في ضبط التنقيط.
* أكثر كذلك من الاستعارة، (يرتفع بوق النصر فوق هضبة الغفوة.. تسكن روحي عربة قديمة.. بسيجارة اغتالها) ويمكن أن نلمس حضور الزمن الماضي والمضارع في نفس السطر، وتبدأ أحياناً الجملة بـ (نعم، آه)، ويظهر السجع كثيراً في لغة الرواية، (الريح والشيح، والحقد وزيف المديح)، (التماس الاعذار في الأقدار)،
* استخدم المؤلف مفردات نادرة الاستعمال مثل: (وكنة، رحض، غايا)، وبدت التقريرية واضحة في شرح العلمانية، صفحة (187)، مع تقنية التكرار لبعض الجمل والعبارات في بعض الصفحات: (أمي كانت عاهرة ووسيطة للدعارة ومخبرة).. (جلال زميلي، جلال صديقي، جلال حكيم في الحانات، جلال يسكنني، جلال يسكن عقلي، جلال محام بارع، جلال مثقف، جلال عربيد)، فيذكر اسم جلال 8 مرات في صفحة (111) وربيعة 7 مرات في صفحة (113).
وختاماً، كان المؤلف متعاطفاً مع من يمارسن الدعارة لمبرّرات إنسانية، ومع من يمتهن الوساطة كشخصية رجل اسمه الجن(يعول الأرامل واليتامى)، مع أنه لم يصف مشهداً إباحياً وجنسياً مسيئاً بتاتاً ولم يعتبر المرأة موضوعاً للجنس بل كان يحس بالدفء والأمان معها، في مدينة قيل عنها، وربما مبالغة، بأنها (تبيع نساءها كنشاط اقتصادي، من أجل تنمية السياحة)، ولو أن الرواية انتهت في صفحة (195)، قبل الفصل (19)، لكانت كافية ووافية.. إلّا أنها تواصلت لفصلين آخرين، لإثبات زيف جلال، الذي تغير فجاًة دونما سبب واضح، ليثبت لنا المؤلف بأن أفكاره باطلة ويكشف عن زيف شخصيته.

(النصوص التي بين قوسين للكاتب من الرواية)


الكاتب : فيحاء السامرائي

  

بتاريخ : 24/11/2021