رواية عبد الكريم جويطي «ثورة الأيام الأربعة»

تاريخ ومتخيّل قصة انتحار جماعي..

من الطبيعي والضروري أن يطرح موضوع الرواية والتاريخ الكثير من الأسئلة المتعلقة بحدود وعلائق التاريخ التاريخي (الفعلي..كما كان..)، الذي بدوره يطرح أسئلة متشعبة حول مهنة المؤرخ (وليس الأراخ..) وما تنطوي عليه من إشكالات الموضوعية..والحقيقة.. والأحكام..والتوظيفات..ثم الشواهد بكل أنواعها وسياقاتها الظرفية..ونوازعها..من جهة. ومن الجهة الأخرى التاريخ الروائي المتخيل وما يستوجبه من معرفة وإحاطة تاريخية بالموضوع المكتوب، ومن صنعة أدبية تعبيرية لغوية جديرة بالسردية الأدبية جمالا وإمتاعا.. العلاقة بين التاريخ والرواية، أو الرواية التاريخية، لاتزال عندنا دون الآفاق والفتوحات الإبداعية التي تحققت في الغرب والشرق الأقصى وأمريكا اللاتينية..ولعل العلة الرئيسية عندنا تكمن بالأساس في البحث التاريخي نفسه، الذي رغم التحولات والتجديدات الملحوظة التي عرفها في العقود الأخيرة منهجيا وموضوعاتيا، فإنه لا يزال دون ( القبض) على المظاهر التفصيلية لتاريخنا الاجتماعي والاقتصادي والذهني والثقافي..نسبيا بالطبع. ولا بد أن ينعكس هذا (القصور/ التاريخ) على كتابة الرواية التاريخية..لذا قد نراها تتلفع ب (حق التخييل) و(حق مباشرة الوثائق كما المؤرخ) لسرد عوالم لاتاريخية..أو أنها ترتكن لشواهد تاريخية مبتسرة معزولة وغير سياقية لرفد وخدمة الموضوع الذي تختاره..وهذا لا يعدم، عندنا، وجود أسماء روائية محترمة أبدعت في هذا الصنف الروائي. ويبدو العطب جليّا أكثر في السينما والدراما التاريخيين، لما تتطلبه هذه الوسائط السمعية البصرية من تفاصيل وجزئيات تهم اللباس والأكل والسكن واللغة واللون والفضاء وغيرهم..وهذا ما قد يفسر، مثلا، تلك الهلامية الفضفاضة، والأجواء الغريبة البلا ملامح في الدراما السورية التاريخية.. وتزداد العلاقة بين الرواية والتاريخ صعوبة وتعقيدا كلما صعدنا إلى الوراء في عصور التاريخ للأسباب الفارطة، على عكس التاريخ المعاصر، والراهن، أو الفوري، الذي هو تاريخ قريب حميم ومعيش، وثائقه وأحداثه ووقائعه ورواياته وافرة وغنية ومتنوعة..وفي متناول المهتم مؤرخا أو روائيا أو هما معا في نفس الآن.. ولعل رواية «ثورة الأيام الأربعة»، أو بالأحرى اليوم الأول من هذه الثورة من صنف رواية التاريخ الراهن..أو الرواية التاريخية للراهن..إنها تركيب تاريخي تخييلي للحظة تاريخية أليمة ودرامية، هي أحداث الثالث من مارس عام 1973 المعلومة بأحداث مولاي بوعزة بالأطلس المتوسط. ووسم هذه الأحداث ب (الثورة) كما في عنوان الرواية ومتنها، لهو من السخرية المحبطة الأسيانة لتعبيرية السارد الذي ساقته صدفة ساخرة، هي أيضا، للمشاركة في هذه الثورة البليدة الخاسرة منذ مطلعها..( والنهار الجميل يظهر من صباحه..). وقبل الحديث عن هذه الرواية/ الثورة، نشير إلى أن هناك من تناولها سياسة وشهادة ومآلا تراجيديا..ولعل الفاعل السياسي مبارك بودرقة ( الملقب بعلبة وأرشيف هذه الأحداث) خير من شهد ونقد هذا المنحى الثوري البئيس في مذكراته الحوارية المكاشفاتية ( بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة) بمصاحبة ومحاورة مؤرخ محترف هو الطيب بياض. وأظن أن موهبة وفطنة وإبداعية عبد الكريم جويطي، كروائي ومؤرخ محلي ورسام وسياسي، استفادت واسعا من المتن الشهاداتي المكتوب والشفوي لهذه الأحداث في بناء عوالم هذه الرواية. يقوم لوجيستيك وطاقم كتيبة ثورة الجبل على ما يلي: * بغال تقوم بواجبها الطبيعي في الحمل ومعرفة المسالك (وقوة البغال في قوائمها وليس في عقلها..)، لكن الأدهى والأسخر والأمرّ أن البغال تلك لم تكن، فقط، وسيلة لخوض الثورة، بل كانت محطّ تفقّه وتعالم في صفاتها وطبائعها..وكأن هذه المعرفة البغالية لدى الثوار (وخصوصا الأستاذ الفكيكي) هي البرنامج التليد للثورة..ولعلها بالنسبة للسارد دليل ومؤشر على « اليتم الثوري « في مبتدئه وخبره.. * بغالون يسوسون البغال ولا يعرفون ما يحدث ..وما هم فيه.. * جهاز اتصال معطوب، كناية عن فقر تكنولوجي ثوري فادح، بضع مسدسات، و زاد من خبز وعلب سردين.. * وبمشاركة سارد وفاعل ثوري (هو سالم) ضد النظام، وهو الذي لم يسبق له أن ضرب عصفورا بحجر كما يعترف، فاعل لا يعرف ما يفعل هنا في الجبل؟؟، فاعل غريب لا يميزه عن البغالين سوى أنه أكل « من فاكهة المعرفة اللعينة « (ص 17)، فاعل معزول ضائع بين الثوار..فاعل سيحوز لقب « الجنرال « بخفة تسمية مخاتلة من الأستاذ/الكادر الثوري، كقط يحاكي صولة الأسد..فاعل هو نشاز الثورة..فاعل هو ( زياد السمعلي) بالاسم الرسمي، و( زوزو) بالبيت، و( ولد الحارس، وولد دوكول) في الدرب، و(ولد دار الدباغ) في الدروب الأخرى، و(الملالي) في جامعة ظهر المهراز بفاس، وطبعا (الجنرال) في ثورة الجبل..هو كل هذه الأسماء وهو اللا اسم..هو الحاضر الغائب..كيف لا يكون نشازا في هذه الثورة وهو في « مقام طائر يتدبر قوته فوق ظهر جاموس « (ص130)..وهو في مقام « انتحار ناموسة حين تواجه فيلا « (ص134)..لقد سيق (الجنرال) إلى الثورة بضربة صدفة ماكرة ساخرة مريرة جرّتها عليه أغنية ( يا ناسي العهد) لإبراهيم العلمي نشّطها مع التلاميذ احتفالا بعيد العرش في الثانوية حيث يعمل مدججا بالحيوية والدينامية..، فسقط في فخّين: فخ سلطة سلطوية سادية ساذجة رعناء، أوّلت الأغنية العاطفية هذه على هواها المخزني الأجلف..وفخ خلية ثورية بادلته المؤازرة، وكأن لها نفس تأويل السلطة للأغنية، أو هو تأويل (ملتزم) يتوجه تورية إلى الحاكم الأكبر ( ناسي العهد)، فانجرّ فيما يشبه العزاء، بغتة، إلى لحظة ثورية لا عهد و لا قبل له بها وفيها..فوجد نفسه في قعر الهاوية..وهذا لا يمنع من القول أن وراء هذه الورطة المهلكة وعي/ ميل/ كيمياء سياسي صامت ودفين..ولكم كانت هذه الثورة سخيّة معه، وهي ترتقي به من جنرال من خشب، إلى مؤرخ الثورة ووزير داخلية جمهوريتها الفتية في شؤون وادي إيرس.


الكاتب : محمد الحاضي

  

بتاريخ : 22/07/2022