رواية «قناع بلون السماء» لباسم خندقجي: سردية مقاومة فلسطينية

«أنا لا أرتدي قناعا، أنا أرتدي مسخا .. بل أنا هو المسخ الذي ولد من رحم النكبة والأزقة والحيرة والغربة والصمت .
أنا المسخ ياصديقي، فهل من رحم تلدني مرة أخرى إنسانا ؟ «!
باسم خندقية « قناع بلون السماء « ص :229

مبدع فلسطيني يكتب رواية من ظلمات السجن الإسرائيلي ، ويرشحها لجائزة البوكر فتفوز من بين أكثر من مائة وثلاثين رواية قبلت في تصفية المباراة المحتدمة في جنس الرواية ، فأوراق الرواية خرجت من السجن بطرق ملتوية لتصل إلى نور النشر بل وتظفر بالفوز، والكاتب سجين فلسطيني سلخ في السجن عشرين سنة ، وحكم عليه بالإعدام ثلاث مرات من مواليد سنة 1983معتقل منذ عام 2004

الكاتب والشاعر الأسير الفلسطيني باسم خندقجي، درس الصحافة والإعلام في جامعة النجاح الوطنية في نابلس، من أعماله الشعرية « طرق على جدران المكان «، « شبق الورد إكليل العدم»، « أنفاس قصيدة ليلية «. أما مدونته الروائية في خمس روايات « مسك الكفاية « ، « نرجس العزلة»، « خسوف بدر الدين «، « أنفاس امرأة مخذولة « ، « قناع بلون السماء « ، وتعتبر الرواية الأخيرة ضمن رباعية مرايا الأسير .
ترتكز الرواية على انتحال هوية، فيلج شراكا ملتبسا، بين شخصيتين متباينتين يتلبسان شخصا واحدا ، فهو»» نور» بأصول فلسطينية و»أور» شخصية يهودية صهيونية إشكنازية ، في سوق الخردة والملابس المستعملة، اشترى معطفا ومن باب الصدفة وجد فيه بطاقة هوية زرقاء ترجع لشخص باسم «أور شابيرا» ، فقرر أن يلبس هذه الشخصية ويستغلها من أجل خبرة معرفية تتعلق بعلوم الآثار، سرعان ما ينضم إلى فريق عمل من بلدان غربية مختلفة، ومكنته البطاقة من حرية الحركة والتنقل في ظل القوانين والإجراءات الصارمة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي.
نور مهدي يعيش لاجئا في أحد مخيمات رام الله ، وهو باحث في مجال التاريخ تمكن من الالتحاق بفريق عمل مشكل من جنسيات غربية مختلفة من بينها « أيالا شرعابي « إسرائيلية عضو من بعثة التنقيب على الآثار ، و»سماء إسماعيل « فلسطينية من حيفا وتنتمي لعرب الداخل وهي بدورها عضو بعثة التنقيب عن الآثار، وكلا الفتاتين تميلان للشاب أور الجميل بملامح أوربية ونزوع إشكنازي .
يعيش نور بين هويتين متناقضتين: هوية الفلسطيني الدونية المهمشة والمقصية وهوية أور الأشكنازي الشرقي المتمتع بكافة الامتيازات داخل صفوف شرائح المجتمع الصهيوني تسود التفرقة العنصرية والتمايز حيث أن هناك مراتب للهوية والانتماء .
بحكم تخصصه في التاريخ كان منشدا لمسألتين تأخذان باهتمامه، الأولى سعي اليهود الصهاينة لأسطرة « الهولكوست « وهم الذين عاشوا خلال الحرب العالمية مجتمعات المخيمات أو الغيتو وعانوا من الظلم والإقصاء والإلغاء والإبادة حتى ، يعتبرون مقاومتهم عبر التاريخ مشروعة في حين يكيلون بمكيال الدونية وعدم الاعتبار إلى حد وصف الشعب الفلسطيني بالحشرات والطفيليات الضارة الواجب محقها وقتلها .
والأمر الثاني الذي يشغل الذات الكاتبة هو السردية الإسرائيلية الغربية المتعلقة بمريم المجدلية. فقد اشتغلت رواية « قناع بلون السماء « ووقفت على دحض ما جاء به وجع
سيرة مريم المجدلية الشخصية الأكثر جدلا في العالم. فقد وردت قصتها في مختلف المراجع التاريخية والدينية وكذا الأناجيل بطروحاتها المتباينة بما في ذلك ما ورد في رواية « دان بروان « الشهيرة « شفيرة دافنشي « تعددت الرؤى الدينية والفلسفية والغنوصية تحديدا وكلها تجانب الحقيقة المنفلتة وقد سادت المغالطات والتلاعبات.
الروائي باسم خندقجي يعارض ما يذهب إليه الطرح الإسرائيلي والغرب، الذين غربوا سردية مريم المجدلية. ليست غربية بل شرقية وفلسطينية على وجه التخصيص وعليها أن تعود تاريخيا ومرجعيا لأصولها .
الحقيقة التاريخية محل صراع، والصهاينة يشتغلون على الأرض وتاريخها ويلبسون كل المظاهر والآثار حسب رؤيتهم ومصالحهم وقد سعوا إلى طمس قرى فلسطينية كاملة، وزرعوا بدلها غابة لكي يطمسوا كل أثر يدل على الهوية الأصلية « أنا أكتب رواية تاريخية عن مريم المجدلية .. وبيئة الرواية هنا في هذا السهل وقرية اللجون المهجرة . ولا يمكنني الوصول إلى هنا بحرية مستخدما هويتي الفلسطينية، فانتحلت هوية صهيونية « ص : 223 .
فبقدرما كانت جاذبية « أيالا» الإسرائيلية آسرة، فقد كان ميله لسماء إسماعيل الفلسطينية ببطاقة هوية إسرائيلية، وقد كشف لها عن حقيقته معريا اسمه الحقيقي وقد تخلص من هويته الإسرائيلية المزيفة « سماء أنا لست يهوديا .. أنا عربي مثلك « ص : 222
« … فلسطيني يهرب من الأزقة، والمخيم، والاحتلال ، والالتباسات ؛ ليكتب رواية يرد بها على دان بروان صاحب رواية دافنشي.. أي هراء هذا ؟
أي تفاهة متقوقعة هذه ؟
لأكتشف الآن أكثر من أي وقت مضى أن سماء إسماعيل هي مريم المجدلية النورانية ، وأما أنا لست بيسوع المخلص « ص: 226
تتكون الرواية من أقسام ثلاثة يتصدرها القسم الأول (نور ) ويتضمن الفصل الأول ( الأزقة ) القسم الثاني (أور ) يتغير الضمير الراوي إلى الغائب العالم بكل شيء في الفصل الثالث والرابع، ثم يليه القسم الثالث ويتضمن الفصل الخامس والفصل السادس والفصل السابع ،الرواية من القطع المتوسط في حدود ص.239
تهيمن على الرواية الحوارات الداخلية والمونولوجات ، بين نور وشخصية العاكسة لأور الشخصية الإسرائيلية الصهيونية الإشكنازية مع استحضار تسجيلات صوتية على شكل بطاقات موجهة للمعتقل مراد ، فقد لجأ الكاتب إلى تقنية الميتا – نصية حيث يتعاقد مع القارئ على كتابة رواية .
الرواية تروي سرديتها المتميزة ، وهي تأتي كرد فعل في زمن مناسب والرأي العام الدولي بدأ يشهد حراكا ووعيا جماهيريا وطلابيا عند الشرفاء في كافة أنحاء العالم . وبما أن الرواية فازت بجائزة البوكر وستترجم لا محالة لعدة لغات حية ، فستكون وسيلة فنية ناعمة ترفع صوت الإنسان الفلسطيني المقهور ، وما يعانيه من ويلات الدمار والتهجير وإبادة وتعد سافر على الكرامة ، فكاتبها رغم الحراسة المشددة نجح في إخراجها لعالم الناس حتى تقرأ على أوسع نطاق وتعبر بعمق عن واقع ما يعيشه الشعب الفلسطيني من عسف وإهانة وعناء . فبمجرد أن دخلت الرواية القائمة القصيرة للبوكر ، عزل الكاتب باسم خندقجي في زنزانة منفردة إمعانا في تعذيبه وحرمانه وإذلاله.
الرواية جديرة بأن تقرأ ، فهي تعري حقائق وقضايا هامة وتبرز مدى همجية النظام الصهيوني الجائر الوحشي الذي يرجع المجتمعات الإنسانية إلى المربع الأول، ولأن المقاومة لها عدة واجهات وفي الصدارة المقاومة الثقافية والأدبية والفنية ورواية « قناع بلون السماء « تعبر عن ذلك بجلاء .


الكاتب : المصطفى كليتي

  

بتاريخ : 24/05/2024