رواية «من الداخل.. كلام آخر! » لعبد العالي أناني قراءتان في قراءة واحدة

هناك روايات، بمجرد ما تشرع في قراءتها، تجد أنها تفرض عليك المنهج، عندما تود دراستها؛ وكمثال على ذلك رواية الكاتب عبد العالي أناني ( من الداخل.. كلام آخر! ).
سعيد بطل الرواية، إلى جانب شخصيات أخرى، تؤثث الفضاء الروائي، بطلٌ إشكالي حسب الناقد لوسيان ﮔولدمان، يمتلك وعياً شقياً، يتجلى في تشكيل نقابة العمال، وتكوينهم، في مجتمع يقف أربابه سدا منيعاً، ضد كل إشعاع، وضد العيش الكريم، ولا يدرك ذئبية التيار السلفوي الإرهابي، حيث يقع البطل ضحية فراغ، وعدم شغل، وتتم المحايثة بين الخير والشر، لينتصر الخير في نهاية المطاف، بعد حضور( Immanence ) وغياب، وصراع مرير.
هناك رواية أخرى، يكتبها كل متلقٍ وفق قراءته، وتجاربه في الحياة، حينما ينتهي ( من الداخل.. كلام آخر! )، فمن صلب الرواية، وجريان أحداثها، يمكن أن نمنطق التأويل، تبعاً للإدلاء بحجج من الصندوق الأسود للرواية، ولذلك يمكن النظر إلى هذا العمل من زوايا متعددة : سياسية وثقافية واجتماعية، غير بعيد عن أحداث العصر، وأمواجه المتقلبة بين المد والجزر.

النظرة الكلية :

أي الشمولية للعمل، والتي تمزج كل الخيوط كتلة واحدة متراصة ومطردة، من حيث تشكل الوحدات السردية الكبرى، وانبثاق الوحدات السردية الصغرى، في تماسك بعيد عن الصدف، بل يؤكد تمكن الكاتب من شروط وأدوات كتابة الرواية، دون حذلقة، زيادة على براعته في صوغ العنوان بشكل مثير، يجعل المتلقي، يقلب العنوان في ذهنه يميناً وشمالاً، أفقيا وعمودياً، لأنه بمثابة عتبة نصية تفتح الأبواب بعد لأي، وتجعل خيوط القراءة متماسكة، إذ يجعلك مرافقا لكل التصورات، حتى لا نقع ضحية سراب وخداع العنوان.
« من الداخل.. كلام آخر! « : علامة التعجب، لم تُوضع جزافاً، إنها إشارة صامتة، أو شاهد يحيل على علامة قانونية، تجعلنا نلتزم الحذر، ونحن نلج سراديب الرواية، وحسب تصريح الراوي- الكاتب – صائغُ الأحداث، يؤكد بأنه « في شهر مارس جاش صدري.. « إذن هذا الشهر هو شهر الغرس والبذار، وانتظار المحصول، والكاتب – معنويا – زرع حروفه، ليحصد أوراق الرواية / الروايات آنياً ومستقبلاً، وشهر مارس يحيل على ما يسبقه من فصول، راكمت آلاما ومواجع كثيرة، تبعاً لحالات سعيد، حتى الوصول إلى الصيف، فصل الأفراح، ونسيان الهموم والأحزان، وما يعتمل داخل الصدر مع سعيدة، زينب داخل معطف المأساة. ثم استدراكاً لتمجيد العزلة، كمسعف للكتابة، وبدايتها حينما يشرع سعيد في بث أحزانه وهمومه «لم أعد أحتمل شيئاً، جاش صدري غيظاً، ولم أنبس ببنت شفة « ص 7؛ هكذا يبدأ في إقناعنا بعملية الدخول والخروج : الدخول إلى الذات، والخروج منها، حين يقتنع الكاتب بخطوات سعيد، وما يعترضه من هموم وعراقيل، أي حين يندمج الكاتب مع الراوي، ويفسح المجال لبث قضاياه، إنه بمثابة قناع، يسرد من خلاله الكاتب مواقفه ووجهات نظره المتعددة، حسب مسار الرواية، ووفقاً للزمان والمكان. المساء والأضواء، والنوم فوق رمال البحر، هو ملاذ للفكر والعزلة. برغم الضجر والقلق، وطرده من العمل، لأنه كبش الفداء، والبحث عن عمل جديد دون جدوى، مما جعله يعود إلى التدخين من جديد، والتعود على الراحة داخل البيت، والخروج إلى المقهى، يحمل كتباً أو مجلات، مع قراءة الجرائد، كبقية زوار المقهى، لكن سرعان ما يقتحم خلوته شخص يسمى عمر، يرغب في صداقته ومع الاستمرارية يصحبه ليلاً إلى مقهى (الحلم الأزرق)، ويلبسه بالمقلوب، كما نقول في عامـﱢيتنا، مع تواصل الحدث، تأتي نادلة المقهى مخاطبة إياه ب : « اسي حمزة «، إذن تغير الأسماء، وتغير الأماكن، وتغيير طبيعة الحديث، من الثورة إلى غضب سعيد، وربط الثورة بالقيم والأخلاق، مما جعل عمر يغير دفة الحديث، ويصمت ليطرح مسألة السفر رفقة سعيد.
كل هذه الجزئيات، تؤثث عوالم الرواية، لتهيئ القارئ، قصد الانتقال إلى فضاء آخر، أشد قتامة، وسوداوية، حيث تتغير طرائق السرد.
بعد تردد البطل الإشكالي يجيبه عمر «متى تريد أن تغادر؟ =» ص 34، وبعد انقضاء الفسحات، بدأ كقائد يأمر، ويرتدي لباس التنمر والمؤامرة، وتجلت الحقيقة المرة، ويتعرف سعيد على صديقه هيثم ابن درب الوردة بالحي الحسني، حين اكتشاف وهم الحقيقة وزيفها، بدأ التفكير في التخطيط للهروب، من مخالب السلفوية الدامية، والخروج إلى فضاء أرحب، فضاء الحرية، « من الداخل إلى الخارج، أو من جوف الصدع إلى شساعة الفضاء الممتد أمامنا « ص 95، وما بين الداخل والخارج تنصب حبال الموت، أو تزول، وستستقر رصاصة « بحجم قلم الرصاص، لم تخرج من أي مكان آخر، مما يؤكد أنها استقرت بالداخل « ص 122، ولكنها غيرت مجرى حياة سعيد مع بقية الناجين من مخالب الأفاعي. إن قراءة « من الداخل.. كلام آخر! « تستوعب كل الفضاءات، وتجلوها أمام القارئ، ليكون على بينة من كل ذلك، حيث الأسئلة والقراءات والتأويلات، سواء من داخل العمل، أم بموازاته، ليكون لنا ( كلامـ ـا ) آخر! بعد ( كلام آخر! ) للكاتب عبد العالي أناني.


الكاتب : محمد عرش

  

بتاريخ : 22/02/2021