رولان بارث، أو جدلية النور والعتمة 2/2

 

/ الدقة يدل الوضوح:
الرغبة لا إرادية. ومن ارتاب في ذلك، فليسأل القديس أغسطين كيف جاءه
الانتصاب؟ في كتابات بارث، بون شاسع بين الرغبة كإحساس مادي ينبع من
أشواق الجسد، والرغبة كحكاية انقلبت إلى لعب «نصي». الرغبة الأولى،
تكون فيضا رغبويا لا ينشد سوى عالم «ديونيسيوس»، تتحقق في عوالم سرية
يكتنفها الغموض ويعتريها الشبق المتحلل مما تواضع عليه المجتمع من قيم
وضوابط، والثانية «نصية» لا تنجز إلا عبر مصفاة اللغة واشتراطات الكتابة.
من دون شك أن الكتابة بوصفها تعبيرا عما يخالج النفس والجسد معا متواطئة،
بله متورطة سلبا وإيجابا مع من ينقش حروفها ويفصل بين فقراتها ويبدع
استعاراتها وكناياتها ويحسن طباقاتها وجناساتها. ومن ثمة، فهي منحازة
ولا تملك صك البراءة. في حوار مثير مع الصحافي جاك شانسيل بالإذاعة
الفرنسية، يشير بارث إلى أن «فعل الكتابة يمكن أن يتقمص أقنعة مختلفة
وقيما متباينة. ثمة لحظات، يمكن لفعل الكتابة أن يلعب دور السلاح في المعركة.
لقد تقمصت هذا الدور في بداية مساري. ثم تأتي ومضة الحقيقة. إننا لا نكتب
إلا من أجل المتعة. خارج المتعة لا شيء.»8.
يتعلق الأمر إذن، برؤية للعالم مركبة تنظر إلى الكتابة بوصفه فعلا
إراديا يعيد إنتاج الجسد وفق مقتضيات فنية وفلسفية مخصوصة من جهة،
ومن جهة أخرى، تنظر إلى الجسد باعتباره يحمل قدرا من الإرادة الحرة
، وقدرا من «الحتمية» لا قبل للإنسان بمقاومتها. هذا Le libre Arbitre
التجاذب بين الإرادة والحتمية يفيد كثيرا في استكناه مزاج رولان بارث.
لقد في وجد في فكرة أرثور رامبو «أنا آخر.»، ملاذه الذي سوف يشجعه
على المضي قدما في ترسيخ «الوجود» على حساب «الماهية»، الأسلوب
على حساب اللغة، الكلام على حساب اللسان. الماهية وفق هذا الأفق،
مثل اللغة واللسان مسبقات لا مزية لها خارج الإنجاز الفردي الذي
تحققه الذات في صبوتها إلى التميز والاختلاف. من هنا نلمس شغف
بارث بالكتابة ذاتها كفن يحمل بوح الروح المضطربة بين «الكآبة»
والابتهاج، كتابة تنشد الدقة لا الوضوح، كما يقول بول فاليري. الدقة
تعني حسب بارث الدال لا المدلول. الأول مفتوح على العلامة ذاتها،
وليس على ما تحيل عليه. أما الثاني، ففضلة لا تمنح صاحبها أي مزية. لذا،
كان الوضوح عدو المتعة في منظور بارث، لا يمنح القارئ فرصة إعادة كتابة
النص، يبقى في حدود السطح لا يتجاوزها إلى مرحلة إعادة الإنتاج. أما الدقة،
فتولد بهجة السفر في التأويل المرح. ذلك المرح لم يجده بارث في الصين،
بل وجده في اليابان. لم تلهم الصين بارث، كما ألهمته اليابان، حيث كتب
تحفته الخالدة»إمبراطورية العلامات». في الصين، كانت العلامة تبعث على
الملل. لا تتحدث العلامات إلا على فوائد الثورة الثقافية «الماوية». المنجل
والمطرقة وقبضات اليد المرفوعة إلى السماء وسطوة الأحمر المنتشرة
في الساحات الكبرى، وفي تقاطعات الطرق صريحة في مضامينها ودلالاتها.
لم تغر هذه العلامات الإيديولوجية السافرة بارث، بل سببت له السآمة والملل.
ثمة إذن حسب بارث علامات مملة وأخرى محفزة، قيمتها ليست في ذاتها،
بل فيما تثيره من ملل أو بهجة. من المثير للدهشة في هذا السياق، أن يصدر
هذا التمييز عن مفكر «ثوري»شديد الإعجاب بالفكر النقدي والجمالي الذي
صدرت عنه الفلسفة الماركسية. الصين بثروتها الباذخة وثورتها «الماوية»
لم تثر مخيلة صاحبنا «الماركسي»، ولم يكتب عنها سوى مقال صغير، لا
قيمة له، واليابان الرأسمالية التي تحالفت مع الشيطان/هيتلر بغاية هزم «العالم
الحر»، أغوته أيما إغواء، لقراءة علاماتها والاستمتاع بتحليل أسرارها وتفكيك
خطاباتها الضمنية، فكانت النتيجة مؤلف مرجعي حول سيمائيات العلامات.
ربما أن هاته الدهشة ستتلاشى، لو تمعنا قليلا في الخيط الناظم في كتابات
بارث، والمتمثل في الصلة «الصوفية» إن جاز التعبير بين الكتابة والجسد و رغباته. ثمة رغبات لازمة وأخرى متعدية. الأولى تكتفي بذاتها، والثانية،
لا قيمة لها إلا في إحالاتها.
على هذا الأساس، يمكن القول إن افتتان بارث بعلامات اليابان هو الافتتان
نفسه بمسرح برتولد بريشت الملحمي. الولع بفن هذا الأخير لم يكن
صدفة إذن، بل كان معللا بتصور هذا الأخير لطرق «المسرحة» الفنية
في تأدية وظيفة المسرح وليس العكس. فأن يكون بريشت ماركسيا، لا
يعني لبارث أي شيء. سحر بريشت وفتنته الجمالية يكمنان في تفكيره
في العلامة والشكل والدال، وهي الأسناد التي ميزت صاحب «الأم الشجاعة»
عن أتباع «الواقعية الاشتراكية» الفجة. هو تعبير آخر للقول إن هاجس بارث،
كان البحث عن كتابة تحرر من كل أشكال التسلط والإكراه، كتابة «مختصرة»،
«شذراتية»، تشبه «الكابوكي» و»الهايكو». في الدرس الافتتاحي الشهير الذي ألقاه
بارث في «الكوليج دو فرانس» عام 1976، بانت معالم هذه الكتابة المندرجة
خارج الدرس الجامعي السائد. بارث الذي يتجرد من الألقاب الجامعية (لم يناقش
-لأسباب صحية-أية رسالة جامعية، وأخرى تتعلق برفضه الامتثال للقواعد)،
ولكنه ألف كتبا مذهلة حسب هواه على درجة عالية من أطاريح كثيرة لم تغادر
قط أسوار الجامعة، مارس حقه في «الكلام» أمام ثلة من ألمع المفكرين الفرنسيين
يتقدمهم ميشال فوكو وغريماس وألن روب غرييه وجوليا كرستيفا، وجمهور
عريض تابع الصوت العذب في أروقة المؤسسة. صدح الصوت العميق لبارث
مميزا بين «اللسان «القاهر و»الكلام» المحرر. القهر لا يكون اجتماعيا فقط.
يبدأ القهر وينتهي باللسان. يتجلى القهر اللساني حسب بارث ليس في ما يمنع
من القول، ولكن في ما يجبر عليه. ولذا، فاللسان في ذاته، ليس لا رجعيا ولا
تقدميا. من سخرية القدر وإنصافه أحيانا أنه يجود بفرص لا يمنحها غير
الخيال. بارث «الهيد وني»:
يحاضر بشذرات خطاب عاشق في مؤسسة «حرة» و»مستقلة»Hédoniste
عن ضوابط وقوانين البحث الجامعي. هل أنصفت الحياة أخيرا رولان بارث؟
جزئيا وعلى صعيد رمزي يمكن الإجابة بنعم. فبعد اعتلائه منصة المؤسسة
المرموقة، وإدلائه بدرس ضمنه حدوسات لا تحفل بالنسق، وأمام جمهور
نوعي، أصبح بارث نجما لا يشق له غبار. كما أصبحت مؤلفاته الأكثر مبيعا
في فرنسا وتستهوي دور الترجمة في العالم بأسره. أما على صعيد الحياة،
فإن سؤال هوى الجسد بقي هو هو لا يبارح مكانه. غموض ورهبة وتردد و
كآبة وملل لا حدود له. في آخر لقاء جمعه بفيليب ريبي غول بسفارة فرنسا
بتونس عاما واحدا قبل موته، سأله السفير والصديق المخلص عن هذا العناد
غير المفهوم في التكتم عن «مثليته»، حيث العالم الغربي أظهر تسامحا ملموسا
إزاء «المثليين»، أجاب بارث بدقة أن من مبادئه عدم حجب أي شيء، وفي الوقت
نفسه عدم إظهار أي شيء للعلن. إننا هنا إزاء وضعية «الحياد» التي طالما أثارها
بارث في كتاباته وحواراته، حيث الصمت خير من الكلام، وحيث «المعنى»
مراوغ، زئبقي، بعيد المنال يصعب الإمساك به. هي صيغة أخرى للتعبير عن
متعة «الحياد»، أي في عدم الرغبة في الفهم والإدراك واستنتاج الأحكام.
يحكي بارث في مؤلفه السيري-الروائي «شذرات من خطاب عاشق» .9.
عن اندماجه في الحياد: «وحيد في تأملي، أفكر في الآخر بكل هدوء كما هو.
سوف أعلق كل تأويل محتمل. سوف ألج ليل اللامعنى: الرغبة ماتزال تواصل
اهتزازها (الظلام أكثر ضياء وشفافية). لا أريد فهم أي شيء: إنه الليل المجاني
حيث الاستهلاك حذق وخفي في نفس الآن. أنا هنا قاعد في سلام، في المنطقة
المظلمة للحب.»
الوحدة والليل والتأمل والحب والغوص في دهاليز الجسد واستطابة اللامعنى،
وعدم الرغبة في الفهم، أو ما يدعوه بارث:
مفاهيم من معجم «الغرفة المعتمة» فاجأت العديد من Le Non-vouloir-Saisir
محبي بارث، لكنها لم تنل من التقدير العميق لصاحب «درجة الصفر في الكتابة»
الهشاشة لا تعني الضحالة. والهشاشة في حالة بارث، قد تساعدنا على فهم
هشاشتنا نحن أيضا. في «العهد الجديد»، نجد يسوع يصدح ملء فيه « من كان
منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجر.». خطيئة بارث كانت في هواه، والهوى غير
متحكم فيه. هي عتمة والسير فيها يغري ويحبط في نفس الآن. في ليالي بارث
كانت «السعادة» طيفا مرتحلا، وسفرا نحو المجهول، وغالبا ما كان يسفر ذلك
عن كآبة وبرم لافتين. سعادة بارث الحقيقية كانت في «غرفته المضيئة»، حيث
ينير حبه الكبير للأم «هنرييت» عتمة جسد غارق في وحل «العربدة». تجسدت
بهجة بارث أيضا في «القراءة» و»الكتابة» و»الصداقة» و»التعليم» و»السجالات»
و»العزف على البيانو» وأن يكون محبوبا من طرف الجميع. «غرفته المضيئة»
كانت مذهلة في تواضعها. لم تدع أية نظرية أو نسق أو تيار. كانت مجرد
نظرة وصوت وأسلوب. «غرفته المضيئة» كانت وهذا مصدر قوتها وفرادتها
في «روحها» النقدية التي تصدت بمهارة غير مسبوقة للكثير من مظاهر الزيف
الذي تختفي وراء أساطيرنا المعاصرة.

الهوامش:
1 Louis-Jean Calvet (ROLAND BARTHES), éd Flammarion, 1990, p.14.
2 Vincent Jouve (La littérature selon Barthes), éd- de minuit, 1986, p.90.
3 Louis-Jean Calvet, op.cit., p.217.
4 رولان بارث (رولان بارث بقلم رولان بارث) ترجمة ناجي العونلي، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، بغداد/بيروت، 2018، ص: 78.
5 R. Barthes (La chambre claire), éd du Seuil, Paris, 1980, p.84.
6 Louis-Jean Calvet, op.cit., p.218.
7 Abdelfattah Kilito (La langue d’Adam), LES EDITIONS TOUBKAL, Casablanca, 1995, p.84.
8 Radioscopie, 17 février1975, cassette Radio France K1159.
9 R. Barthes (fragment d’un discours amoureux), in Œuvres complètes, tome V, p.213.


الكاتب : د. محسين الدموس

  

بتاريخ : 09/09/2022