رولان بارث، أو جدلية النور والعتمة

 

لا يخلو أي كاتب عظيم من الهشاشة. الهشاشة صفة ملازمة للإنسان سواء كان مبدعا أو مجرد كائن يحيا ضمن الجموع. الهشاشة بهذا المعنى، إكراه موضوعي لا حول ولا قوة للإنسان لتجاوزه. الهشاشة بالنسبة للمبدع حافزللمجد والبحث عن رهانات الكمال. هي دعوة إلى التحليق خارج مدارات ماأرغم الجسد على قبوله من مسبقات (اللغة/اللون/الجنس/الدين/الجماعة/الأرض…). قد يتكلل هذا البحث وهذا التحليق بالفوز بإعادة تشكيل الهوية وفق معاييرمنبثقة من رحابة الحلم والرجاء، وقد يقودان المبدع إلى حافة اليأس واللاجدوىوالرغبة في الانتحار. حالة بارث في هذا السياق جديرة بالانتباه والتأمل.
هل يمكن الزعم أن ” مثلية” بارث كانت نقصا “أخلاقيا” سبب له نقصا مماثلافي طريقة تفكيره ورؤيته للعالم؟ هل يمكن الحكم على الكاتب على أساس الهوىأم انطلاقا من جدارته ككاتب ليس إلا؟ كيف يمكن لجسد عليل خبر محنة الحجر الصحي وقساوة الإحساس بالهشاشة وسخافة النظر إلى الجسد كبؤرة موبوءةقد تعدي الآخرين، أن ينخرط طواعية في نعيم “التماثل” مع الجموع دون أن
يرف له جفن الشك؟ هل البيئة الناعمة (غياب الأب/الحضور القوي للأم) التي تربى فيها الطفل رولان كان لها الوقع الكبيرعلى ميولاته اللذوية (من اللذة) على صعيد الجسد، ونفوره من القوالب النمطية على صعيد الكتابة؟ إلى أي مدى يمكن للميل الجنسي “المثلي” أن يكون سؤالا معرفيا ووجوديا يستطيع طرح معضلة الجسد خارج الأحكام المسبقة، وبعيدا عما يسمى “رهاب المثلية”؟ لم هذا التناقض بين الجرأة في إعلان مبادئ ومفاهيم ثورية لا تهادن قيم الثقافة البورجوازية السائدة، والتكتم الغريب عن “المثلية” والحرص الشديد على اعتبارها شأنا خاصا لا يسمح حتى للمقربين باقتحامه؟ كيف تعايش بارث مع هذه الازدواجية القاتلة: شخصية رجل نبيل، ذي لياقة وأناقة لافتتين تفرضان الهيبة قبل الاحترام من جهة، وشخصية رجل يتسكع في الشوارع ليلا بحثا عن صبيان تائهين لإرضاء نزواته الجنسية “المنحرفة” من جهة أخرى؟ هل يمكن اعتبار هذه “الازدواجية” سببا جوهريا في رفضه القاطع للسيرة الذاتية “التقليدية”، التي يتماهى فيها السارد والشخصية والمؤلف؟ هل يمكن المجازفة بالقول إن “مثلية” بارث كانت التعبير الأسمى عن “الحرية الفردية” التي وجد فيها خلاصه المنشود؟ ثم ما الصلة المحتملة بين مقولة “الحياة بوصفها نصا”، والكتابة “الشذراتية” والنزوع المفرط نحو “اللانسق” و”اللاتماثل”؟
بالنسبة لبارث، فسؤال الهوى لم ينفصل قط عن سؤال الكتابة. كلاهما يحيلان على سؤال أعظم، هو سؤال الهوية. في جل كتاباته، صدر بارث عن الجسد، سواء في اللغة أوالصورة أو السيرة أو الأسطورة. كانت للكتابة عنده غاية هي سبر أغوار الجسد. كابوس بارث، لم يكن –كما لاحظ لويس جون كالفي-1 في “اعتباطية العلامة اللسانية كما هو الحال عند دي سوسير، بل كان في التماثل”. التماثل إرغام سلطوي يفضي إلى تثبيت الأحكام وإرساءAnalogie الحدود وخنق الأنفاس. افترض بارث أن للمعنى ثلاثة مستويات: مستوى إخباري، وظيفته تكمن في تجسير التواصل فقط، ومستوى رمزي، يتصل بقصدية “الباث”، أو الدلالة المحتملة التي يبنيها المتلقي، ومستوى ذو صلة ب أي “التدليل” وليس “الدلالة”، حيث المعنى فائض، لا يمكن« Signifiance » استيعابه. المعنى الأول دعاه” الأبفي”، والثاني سماه “الأبتوس”. وبناء على التمييز، اختار بارث المعنى الثالث، لأنه يحمي من ابتلي بالكتابة من “التماثل”.
هكذا نلاحظ أن الجسد والكتابة عند بارث وجهان لعملة واحدة. بل إنه اعتبر الكتابة منبعا من منابع “اللذة” التي تستثير الجسد وتشعل الشبق في كيانه. وهي اللذة التي لا تكتمل سوى ب “فردانية الكلام” وخصوصية التجربة، والتحرر من “فاشستية” اللسان. الإحالة على المرجع أو المؤلف أو الشخصية لا معنى له في هذا السياق. ما ينبغي التفكير فيه هنا هو “دينامية النص” التي تتحقق تداخل النصوص وتفاعلها ضمن “تناص” لا يحيل على “حقائق”، بقدر ما يحيل على “ممكنات” يمتزج فيها الخيال والواقع، ما وقع فعلا، وما كان ينبغي أن يقع. هنا تتجسد عظمة “الأدب” حسب بارث. فإن كان “لا يساعد على السير، فإنه يمنح على الأقل القدرة على التنفس.2.
كثيرا ما ردد بارث هذا التحذير، خصوصا بعدما أصدر “رولان بارث بقلم رولان بارث.”: (كل هذا ينبغي التعامل معه، وكأنه صادر عن شخصية روائية). وهو تحذير نابع من الشغف بالمفارقة، لا المطابقة: سواء في الكتابة أم في الحياة. فعل الكتابة يتم إذن عبر Uniformité إجرائيين: خرق “اللسان” بوصفه نسقا للأمة، واجتراح “الأسلوب” بوصفه نسقا للذات.
لقد كره بارث أن تتماهى “أناة” المرجعية ب “أناة” المتخيلة. كما كره المطابقة بين الواقع والخيال، وكان يرى في الدمج بينها بؤسا نقديا ومغالطة فكرية لم يغادرا بعد مغارة سانت بوف. الحل إذن حسب صاحب “أساطير” هو الفصل المنهجي بين الضميرين “أنا”و”هو”، “الحياة” و”الكتابة”، حتى يتسنى التحقق من المسافة المفترضة بينها، أي إدراك بمعنى آخر، الفرق بين من يعيش في حمأة الحياة، ومن يعيش في ثنايا النصوص. ثمة، بطبيعة الحال، وشيجة بين الكاتب والحياة، بين الجسد وما تصوغه اليد، أي روابط و قرابات تمنح المؤول نقط ارتكاز لفهم حكاية وتاريخ النصوص ووشم الزمن على أجساد أصحابها. تلك الوشيجة هي مناط المقاربة النقدية المرتجاة. ما يلفت الانتباه في سيرة بارث الفكرية والجسدية معا أنها ذات خطين غير متوازيين:
خط صريح لا يهادن رجعية الثقافة البورجوازية، وتخلف الخطاب النقدي الجامعي، الذي لا يستطيع التمييز بين الكتابة والاستكتاب، وبين اللسان والكلام، وبين “اللفظ” و”المتلفظ”، وبين “الملفوظ” و”التلفظ”، أي إنشاء الملفوظات، وخط موارب، غامض يعجز فيه بارث عن الرقص بوجه مكشوف. لم يكن بارث بهذا الاعتبار، كرفيقه في الهوى ميشال فوكو، الذي لم يجد حرجا في كشف “مثليته”، بل إنه أكثر من ذلك، رافع عن حق “المثليين” في العيش المشترك كأقلية، على غرار باقي أقليات الهامش. يرجع كاتب سيرة بارث جون لويس كالفي ذلك إلى عدة أسباب: أولها تاريخي، يتمثل في أن المجتمع الفرنسي آنذاك لم يكن متسامحا مع “المثلية”، والثاني ذو صلة بالعائلة، حيث كان بارث مدركا تمام الإدراك “خطورة” جنوحه، وتأثير ذلك على أمه. والثالث شخصي، يخص بارث نفسه، ولا يعني الآخرين.3. ينذهل قارئ بارث من هذه المفارقة العجيبة التي جعلت منه كاتبا ألمعيا يستطيع كشف “أساطير” العالم الحديث، والإمساك بالتعسف الأيديولوجي الذي تمارسه البورجوازية
من خلال ما يسميه “الفرجة التجميلية للبديهي.”، ويستطيع في الآن نفسه، تنسيب الجد، واعتبار «Ce-qui-va-de-soi» فعل الكتابة “لعبا” يمنح الذات فرصة التحرر من قيد البديهيات، ومن جهة أخرى، يجد القارئ ذاته أمام كاتب غير قادر على الوضوح مع نزوات جسده. قبل مؤلفه “وقائع” الذي نشر بعد وفاته بسبع سنوات، والذي ظهر بجلاء الجانب المتهتك من شخصية بارث، خصوصا في مروره العابر في المغرب (التسكع ليلا في شوارع مراكش الحمراء بحثا عن خدمات جنسية مؤدى عنها/ فنتازيا الحمامات البخارية في طنجة…)، لمح بارث إلى هذا الهوس بالمتعة /الطابو تلميحا خفيفا لا يخلو من الشعر: “الآلهة هاء: القدرة على الاستمتاع بشكل من أشكال الإضلال (ولاسيما الذي للهائين: جنسية مثلية وحشيش) لا تقدر حق قدرها. لا يريد القانون والدوكسا والعلم أن يفهم أن في الإضلال على التبسيط سهم السعادة، أو لكي ندقق القول قدما، أنه ينتج فائضا. أكون أشد إحساسا، أكثر إدراكا، مهذارا، شاردا بكيفية أفضل، إلخ. وفي هذا الفائض يسكن الفرق (ومن ثم، نص الحياة، الحياة نصا). أنها إداك آلهة، شكل لا يمكن التضرع إليه، سبيل شفاعة.”4. بوح يتيم جاء عرضا لا يثبت شيئا على النقيض من “وقائع” الذي سمى فيها بارث الأسماء بمسمياتها.
قد نحكم على بارث بقلة الشجاعة، وهو يداري هشاشة جسد رجل يحمل في أعماقه روح امرأة، كما ظن ذات زمن مفقود مارسيل بروست.وقد نرجع ميله إلى التكتم إلى التقدير العظيم للأم “هنرييت” الذي بلغ حد القداسة. لنصيخ السمع لهذا القول البليغ في حق الأم:
” يمحو الزمن الشعور بالفقد (لا أبكي موتها) بكل بساطة. أما ما يتبقى، ثابت لا يتغير. ما فقدته ليس صورة (الأم)، وإنما كائن حي. ليس كائنا بحصر المعنى، ولكنه قيمة (روح). ليس الضروري، ولكن الذي يستحيل استبداله …ما تبقى لي من الحياة بعدها لا قيمة له.”5. قيمة هذا البوح الذي يمزق نياط القلب تكمن في أنه يمنح صاحب “الغرفة المضيئة” كل الذرائع لتبرير سلوكه في إخفاء بلواه. “المثلية” ليست فخرا يمكن التباهي به أمام أم محافظة كهنرييت.
“المثلية” قضية معقدة تتطلب تسامحا وتفهما ورحابة صدر، كما تستوجب معرفة عميقة بخبايا الجسد والوسط واللاشعور. “المثلية” كما بين أندري تشيني، لم تكن لتجلب بارث “لا فخرا ولا عارا”6. ولذا، لم تكن أولوية لديه. كانت نزوة ليل يمحوها ضياء الصباح. هي تعبير آخر للقول إن في مسار حياة بارث غرفتان وليس غرفة واحدة. غرفة أولى كانت مفعمة بالنور، هي “الغرفة المضيئة” التي أضاء فيها بارث عالم العلامات، وبين الكثير من زيف الأساطير والأيدولوجيات، وغرفة معتمة ومدلهمة، فيها الكثير من “الوقائع”، حيث ينشغل الجسد لا العقل بأفراحه الصغيرة، وحيث الشبق يخالط الألم. في الغرفة المعتمة، تظهر حقيقة بارث كرجل، وقد تحرر من الرقابة. رجل مجرد من رجوليته، مهان وحزين، يسترعي الشفقة لا الإعجاب. مهما يكن من أمر، فلا شيء متصل بشخص بارث دون العالمين. ف: “داخل كل فرد منطقة مظلمة، لا يمكن التحكم فيها، هي منبع الرغبات، حيث يعمل العقل على قمعها.7.


الكاتب : د. محسين الدموس

  

بتاريخ : 02/09/2022