رونيه كاييس: الإيديولوجيا من منظور التحليل النفسي المثاليُّ، والفكرةُ، والمثلُ الأعلى

أصدر المحلِّل النفسيّ الفرنسيّ المعاصر رونيه كاييس( René Kaës ) كتابًا بعنوان: الإيديولوجيا: المثاليّ والفكرة والمثل الأعلى( L’ idéologie : l’idéal, l’idée, l’idole)؛ وذلك سنة 1980؛ وفي سنة 2016، ظهرت طبعة جديدة، مزيدة ومنقّحة. وفي هذه الأخيرة، يحتفظ الكتابُ بأغلب الافتراضات التي وضعها المؤلِّفُ خلال الثمانينيات من القرن المنصرم من أجل النظر إلى مسألة الإيديولوجيا من منظور نفسانيٍّ. لكن السنوات الفاصلة بين الطبعتين قادت المحلِّل النفسي رونيه كاييس إلى تصوراتٍ ومفهوماتٍ فرضت عليه مراجعة المعطيات الكلينيكية والتشييدات النظرية التي كان ينطلق منها في السابق. ومن جهةٍ ثانيةٍ، فالسياق الثقافي والجيو- سياسي قد غيّر من الأشكال المعاصرة لما سماه كاييس قلق – الوجود malêtre داخل الحضارة( وذلك عنوان كتاب أصدره سنة 2012). ولا مبالغة في القول إن لهذا السياق تأثيراتٍ تظهر من خلال التشكلات الأيديولوجية الجديدة، بل هي ظاهرةٌ على فضاء الواقع النفسي، بأشكاله ومحتوياته وسيروراته، عند الأفراد والمجموعات كما عند الجماعات والمؤسسات.
جاء المؤلَّف في سنة 1980 وليدَ حاجةٍ ضروريةٍ إلى إيجاد أجوبةٍ لأسئلةٍ مصدرها طبيٌّ كلينيكيّ( حالات مَرَضية) وعمليٌّ نظريٌّ( التحليل النفسي للجماعة). وما كان يسند هذا العمل هو تلك التغييرات العميقة التي جاءت مع أحداث 1968.
لقد كان المحلل النفسي رونيه كاييس يلاحظ، وقتئذ، كيف يتأسّس الموقف الإيديولوجي، عند الذات الفردية، على أسسٍ هي من تلك التي تقوم عليها نفسيةُ الطفل، وعلى « نظرياتٍ « هي من تلك التي تطوِّرها تلك النفسية من أجل معالجة مجموعة من الأسئلة- الألغاز: الأصل؛ الميلاد؛ الإغراء؛ الاختلاف بين الجنسين..؛ وعلى أساس هذه الأجوبة، وبالقدر الذي تهيمن به تلك القوة الجبّارة للفكرة على تشكيلها، وتلك المقتضيات النرجسية القديمة المتعلقة بما هو مثاليٌّ، وتلك السيطرة المرتبطة بالصنم أو بالمثل الأعلى، تكون تلك الأسس قد ترسّخت انطلاقًا ممّا يسمّيه فرويد ب-: Weltanschauung : أي انطلاقًا من رؤيةٍ للعالم، متماسكة ومهيكَلة بما فيه الكفاية، توفِّر، بطريقةٍ غير ملموسةٍ، كلَّ الأجوبة لكلّ الألغاز التي تواجه الذات.
وكانت فكرة كاييس- وهو يدافع عنها إلى اليوم- هي أن الأفراد والجماعات والمؤسّسات ينتظمون حول ثلاثة مواقف ذهنية رئيسة تتطابق مع رؤى للعالم( Weltanschauungen): الموقف الإيديولوجيidéologique))؛ الموقف الطوباوي utopique))؛ الموقف الأسطورشعري( mythopoëtique ). ولا يتعلق الأمر هنا بنظامٍ تطوريٍّ، فهي مواقف تتشكَّل وتستقرّ في أوقاتٍ معينةٍ من التنظيم الذهني للأفراد والجماعات والمؤسّسات. وكلُّ واحدٍ من هذه المواقف يتألف في صورةِ نسقٍ أكثر أو أقلّ انفتاحًا من أجل تفسير العالَم. وعند الذوات، تكون تلك النظريات الجنسية المرتبطة بالطفولة هي الرَّحم الذي منه تتولّد هذه الأنساق التفسيرية.
وخلال الثمانينيات، كان كاييس يُعرِّف الموقف الإيديولوجي من خلال ما يتشكّل من استيهاماتٍ وتماهياتٍ وآلياتٍ للدفاع تعمل على إنتاج تكوينٍ نفسيٍّ يتميّز بالقوة الجبّارة للفكرة، وبسيطرة وظائف المثاليّ، وبالصورة المستحوِذة للمثل الأعلى( الصنم). وبذلك، يتأسس الموقف الإيديولوجي على ضرورة بناء تفسير كونيٍّ على أساس مبدأ السبب الواحد.
ويميّز رونيه كاييس بين الموقف الإيديولوجي الذي يتأسّس على مثاليِّ الأنا والإيديولوجيا التي تتأسّس تحت تأثير الأنا المثالية:
الموقف الإيدبولوجيّ الأول يتبلور داخل الأنا بوصفه شكلا عليه أن يتحقّق بواسطة التماهي مع أشخاص محبوبين؛ ودورُه الحاسم في تشكيل التكتّلات والجماعات والمؤسّسات سجّله فرويد سنة 1921 في دراسته( Psychologie des masses et analyse du Moi )؛ وهو موقفٌ مفتوحٌ على التحول وعلى التوافق مع مبدأ الواقع. ويُعَدُّ أندري غرين( André Green ) من المحلِّلين النفسيين القلّة الذين تخلّوا عن ذلك التصور السلبي في كليته من الإيديولوجيا، فهو يركِّز في تحليله على الرغبة التي تسند الإيديولوجيا أكثر من التركيز على طابعها الضارّ والسلبيّ والتخريبيّ.
الموقف الإيديولوجيّ الثاني هو موقفٌ جذريٌّ راديكاليٌّ يخضع لنداءاتٍ ملحاحةٍ صادرة من تلك القوة الجبّارة التي تأسّست على النرجسية الطفولية. وهو موقفٌ إيديولوجيٌّ يفرض نفسه ضدّ اللايقين وضد المجهول، وذلك بوصفه فكرةً ضدّ فعل التفكير، أو بوصفه عجزًا حقيقيًّا عن التفكير. ومن أهمّ خصائصه أنه موقفٌ يأمر بفعلٍ ويبرّره، ذو طبيعةٍ أمريّةٍ، تشكيكيّةٍ، لا يَقبَل بأيِّ اختلافٍ ولا بأيِّ غيريّةٍ، ويعلن أشياءً ممنوعٌ التفكيرُ فيها. وبعبارةٍ واحدةٍ، فالموقف الإيديولوجيّ الراديكاليّ هو تنظيمٌ نرجسيٌّ قائمٌ على رفضٍ جماعيٍّ لأيِّ إدراكٍ للواقع لصالح القوة الجبّارة للفكرة، ولصالح تمجيدٍ للمثاليّ، ولصالح تثبيتٍ للمثل الأعلى أو الصنم.
ويسجل رونيه كاييس أن هناك في التحليل النفسي غيابًا لهذا التمفصل بين حقلَيْ الواقع النفسي للذات والواقع النفسي للجماعة، مع أنه في هذا التمفصل تتشكّل وتتبلور تمثّلات العالَم؛ ويوضّح أنّ المتن النظريَّ الخاصَّ بالتحليل النفسي للفرد لم يُستثمَر بعد في مقاربة الإيديولوجيا نفسانيًّا، وأنْ ليس هناك من تمييز كافٍ بين الإيديولوجيا بوصفها خطابًا نوعيًّا حول واقع العالَم خاصٍّ بمجموعةٍ اجتماعية وبين الموقف الإيديولوجي الذي أسّسته ذاتٌ فرديةٌ ومجموعةٌ معينة.
في الطبعة الجديدة للكتاب( 2016)، يؤكّد رونيه كاييس على فكرة استمرارية الإيديولوجيا بوصفها موقفًا ذهنيا؛ وبوسائل جديدة، يحاول استكشاف ما فيها من أبعادٍ جديدة، مركِّزًا على السؤال الآتي: كيف يستمرُّ الوهمُ بأن الأوهام قد ماتتْ؟
أواخر السبعينيات، كنّا لا نزال تحت تأثير ما فعلته تلك الإيديولوجيات الخطيرة بالإنسانية( النازية؛ الفاشية؛ الانحرافات المتوحشة للماركسية – اللينينية والماوية..)؛ لكن الإيديولوجيات الكبرى، التي تأسّست أواخر القرن التاسع عشر وخلال ثلثي القرن العشرين، قد بدأت تسقط وتنهار) سقوط جدار برلين سنة 1989). ولكن، بالمقابل، ومع انطلاق العولمة، ستبدأ مجموعاتٌ إيديولوجيةٌ جديدةٌ في الظهور: وهي ذات نزعة ليبرالية أو قومية أو أصولية دينية.
ومنذ الثمانينيات، كان رونيه كاييس من الباحثين القلائل الذين يدافعون عن فكرة أنه إذا انهارت الأنساق الإيديولوجية الكبرى التي سادت لقرنين من الزمن، فإن ذلك لا يعني إلا موتًا سطحيًّا للإيديولوجية. ويفترض المحلّل النفسي أن الموقف الإيديولوجيّ هو استعدادٌ دائمٌ من الفكر الإنسانيّ، وأن إظهار ذلك الموقف يكون تبعًا لثوابت نفسية في علاقتها بسياقاتٍ اجتماعية محددة. والفكرة هنا هي أن الموقف الإيديولوجيَّ يبقى موجودًا حتى عندما تتغيّر محتوياته، وهو يَظهر في شكل ذرّاتٍ وشذراتٍ متفرقةٍ من دون تنظيم نسقيّ قبل أن يجتمع في أنساقٍ إيديولوجية جديدة.
والحجة على أن الإيديولوجيات تموت لتعود من جديد هو ما وقع من الأحداث بعد ذلك(11 شتنبر 2001 بنيويورك؛ 11 مارس 2004 بمدريد؛ باريس 2015..) ما سمح بتشكّل إيديولوجيات يبدو أن الأصوليات الدينية هي أهمّها..هناك مخاوف قديمة استدعت دفاعات صارمة وعنيفة وقاسية: الخوف من الإخصاء، القلق من التأنيت( féminisation)، الهجرة الخارجية المرفوضة، واكتساح الإسلام المرفوض ، هشاشة الهوية، تمجيد العنف.. والأحداث الإرهابية التي شهدتها الألفية الجديدة هي من تمظهرات الإيديولوجيات التي تسندها وتدعمها؛ ولابد أن نفهم كيف ترتبط هذه الأحداث الدموية بتلك الإيديولوجيات الراديكالية، وأن نستوعب محدداتها وسيروراتها النفسية، وأن نتساءل: ما سبب هذا الرعب كلّه؟ ولماذا يبقى هذا الشرّ الراديكالي المدمّر للإنسانية داخل كلّ كائن إنسانيّ من أجل تلك الفكرة ذات القوة الجبّارة، من أجل ذلك الشيء المثاليّ العنيف، من أجل ذلك المثل الأعلى الديني؟ وأن نحاول أن نتمثّل كيف يكون اللاوعي أمام هذا الرعب الذي يثيره الإرهاب: كيف يكون ردّ فعل اللاوعي، كيف يكون فعله، وما هي الدفاعات التي يستثيرها داخل الذات وداخل الجماعة؟
ومع ذلك كله، يبقى الافتراض الأساس عند رونيه كاييس في الطبعة الجديدة من كتابه: الموقف الإيديولوجي، سواء كان شذريًّا أو نسقيًّا، لابد له من ثلاثة مكونات: القوة الجبّارة للفكرة؛ شيءٌ مثاليٌّ نموذجيٌّ؛ مثلٌ أعلى مهيمنٌ( صنم).
منذ أبحاثه خلال الثمانينيات، بدأ تحليل رونيه كاييس يغتني بمفهومات عديدة: يحتلّ فيها مفهوم الترابطات اللاواعية( alliances inconscientes ) مكانة مركزية؛ وعمل على استعارة مفهوم الرابط الاستبدادي( lien tyrannique ) من التصورات التي وضعها د. ملتزر( D. Meltzer ) سنة 1968. وقد أخذ منه بالأخصّ تلك الفكرة التي تقول إن الاستبداد هو دفاعٌ ضدّ مخاوف الإحباط والاكتئاب. والإيديولوجيا، بوصفها شيئا استبداديًّا، تعمل على تنظيم أمرين: الأول علاقات الخضوع للشيء الاستبدادي، والثاني روابط السيطرة على الفرد والجماعة الخاضعين لهذا الشيء الاستبدادي، وذلك من أجل مقاومة تلك المخاوف.
في طبعته الجديدة، كما في طبعته السابقة، هدف هذا الكتاب ليس هو تحليل إيديولوجية محددة، بل إنه يحاول أن يؤسِّس بعض العناصر التي تساعد على القيام بتحليلٍ نفسيٍّ للذهنيات؛ وهو يحاول، فوق ذلك، التوسع من أجل مقاربة المواقف الثلاثة( الموقف الإيديولوجي؛ الموقف الطوباوي؛ الموقف الأسطورشعري)، وهو في كل ذلك يضع صلاحية تطبيق التحليل النفسي على الذهنيات الجماعية موضع سؤال.
وتبقى مجموعة من الأسئلة تفرض نفسها: ماذا عن هذه العلاقة الإشكالية بين التحليل النفسي والإيديولوجيا؟ هل نملك ما يكفي من التحليلات النفسية للإيديولوجيا؟ هل هناك من تحليلٍ نفسيٍّ لإيديولوجيةٍ من الإيديولوجيات الكبرى في مجتمعنا وعصرنا؟ وماذا عن إيديولوجية التحليل النفسي ذاته؟ هل يمكن أن نتحدث عن التحليل النفسي في علاقته بالمواقف الثلاثة التي حدّدها كاييس: ما الموقف الإيديولوجي للتحليل النفسي؟ وهل شهدت محتويات هذا الموقف الإيديولوجي للتحليل النفسي تحولات وتغيّرات؟ ماذا عن الموقف الطوباوي والموقف الأسطورشعري للتحليل النفسي؟


الكاتب : حسن المودن

  

بتاريخ : 29/07/2022