(1)
رغم مُضِيِّ قرابة وجع،
ما تسنى لي أن أكتب عنه سوى
على بعد مسافة دمعة.
وها هو بياض الكفن ينتظر من قلبه
أن يملأ فراغات ترابه.
ويتوقع من حزني أن يبكي بعض امتلائه !
بتوقيت حياته مات، وبميعاد موته عاش. تأبط طيف طفولته الثكلى. رحل باكرا، ثم غادر صوب أبديته، تاركا، خلف ضوئه، الكثير من خلوده، القليل من عبوره. وجماع ارتفاعه.
كأني به، وهو يكابد فداحة الانفراد بوارف اتساع ضيقه، وهو يعلو بعزلة ضيق اتساعه، أراد أن يوحي لنا بأن الحياة تنتحب خارج البئر، وبأن العمر يجهش داخل الطفولة !
على قدمٍ وساقٍ،
بكينا طفولته في طفولتنا،
ونحن نحفر نفقا من الشعاع،
كي ننجو من حلكتنا !
(2)
أتراه بكى (نورا)،
حين اشتدت عليه العتمات ؟!
أتراه اشتكى (ألما)،
لما سمع ضجيج حفريات الضوء ؟!
ما تحرر لنسأله.
ولا سألناه لما كان قيد حصاره.
هو توسم فينا إنقاذا – له ولنا – ونحن ما ارتكبنا تقصيرا كبيرا
في انتشال وعينا من بين ركام فداحته. هو انتظرنا بأوصاب الليالي، كل أمل راوده، ونحن انتظرناه بحرقة النهارات، كلما
حَنَّ فينا رجاء القرب منه، منا.
كَزَفِيرِ بحجم عليّاتِ العُلا،
رحنا نصرخ:
لا التخَلِّي عن ابننا من شيمة أبوتنا،
ولا من جبلة أمومتنا،
ولا من سريرة وطننا.
وفي لحظتنا المهتاجة هذه، همس ريان، ملء الْيَقِين، وجاءنا منه نبأ حاله، وتلقى منا أخبار مٱلنا، وسمعناه، بوضوح غامض، يواسي حشود الحب:
من غور بئري،
المضاءة بنور ربي،
أستودعكم لله،
وأوصيكم إنقاذا، وإنقاذا،
لأطفال في مهب ٱبار الوطن !
(3)
بعين نضاحة بدمع الٱبار، يَرَاه قلبي عبر حصار مقيم فِي غٌبَارِ الأيام. من أَعَالِي غيابه، تَجِيءُ إِلَيَّ ابتسامته، تلك التي خَانَهَا حُلْمُ التراب، وخذلها تراب الْحُلْم. وها أنا بأحبار الْيُتْمِ، أكتبني كي أخلو بعذابه، وأنفرد بأساي.
جِئْتُه عَلَى عجل،
وعَلَى مهل جِئْتُه،
بعد أن شب فِينا الْأَمَلْ،
وشاخ فيه الرجاء.
وحِينَ لَفَّت العزلة غياهبها،
وضاق الحجر بالحجر،
أضحى الْمُحْتَمَل نائيا عن تداني المؤكد !
(4)
ريان، ساكن القلوب،
قبل قاطن الجُبّ،
علمنا أن المحبة،
إذَا ثُنِيَتْ أوْ جُمِعَتْ،
هي النجاة من فقد،
لا هي فقدان للنجاة !
هذا درس جهر به، دون صوت، بل عبر همس القاع. ثم، ذهب صوب المكوث في وحدانية انفراده / تفرده، دونما أي صراخ انبعث من قبوه، هناك تحت غياب يتلوه غياب.
وحده جسده، النحيل كالألف الذي يبدأ به اسم الإنسانية، لاذ بمكلوم جروحه / جراحنا. وحَنَّ إلى حضور يمرح، بحرية، في سهول الطفولة، حيث «إغران» شاهدة حية على خطوات عمر توقف عند معدل براءة خماسية البقاء.
(5)
يا لله ! يا لله !
كيف لطفل،
هذا عمره، هذه حكايته، وذاك غمره،
أن يوحد العالم أمام فوهة بئره،
وأن يشعل في العيون حُزْناً كونيا،
فتفيض بِالدُّمُوعِ ؟!
أهو «طفل العالم»، كما قال كثيرون، لحظات قبل انتشال بقاء روحه، لا زوال حياته ؟! أم هو العالم من أصبح طفلا، حسبما قلت أنا، ساعة الإعلان عن نبإ سقوطنا في ٱبار النعي ؟!
لا أملك إجابتي.
إني، فقط، أتأبط أسئلة ألمي. وأبكي طفلا يسكنني أنا، يقطن فيه هو، ويوقظنا نحن جميعا.
(6)
ما حظي بالرُّحْب، وهو في قبضة ظلمات الجُبّ، حيث لا أنس إلا ما بقي من أنفاس النور بداخله. بل نال كل السَّعَة، وهو في مهب أضواء تسطع من ضمير العالم، حيث لا محيد عن الحب الجماعي، كي يحس الطفل أنه في صعود لا في هبوط. أليس
نزوله إلى قعر الأرض، حقق صعودنا إلى علو السماء ؟!
ما مات ريان في البئر.
لقد تم انتشاله بمجرد أن أضحى
رمزا حيا لإنسانية اجتمع ضميرها
على حافة بئره،
وأنقذت ما بقي فيها من ضَمَّـةٍ تَرْوِي يباب الوقت.
تزيل تصحر الإحساس.
وتحتفي بميلادها فوق قبر الصغير !
(7)
جَاشَتْ عَيْنُهُ حُزْناً على أبويه، ثم فَاضَتْ بِدمُوعِنا، حين جاءه نداء الجوار الأبدي. أتخيله يرمقنا جميعا بنظرات اجتمع فيها ما فات من عمره، وما هو ٱت.
ها هو ريان يبتسم دامع الروح، مغتبط المصير، محلق القلب، لا يشغله إلا ذاك الخلد الذي ينتظر صعوده. وما عادت برودة القعر تلسعه. ما عاد الظمأ يكويه. تحرر هو من أوشاب أرض ما عادت تعنيه في شيء.
جُمِعَتْ له جوامع الحب كله،
فارتدى كفنه،
بلون بياض قدت منه سريرته.
(8)
حين كان يوارى الثرى، هناك في مسقط فاجعته، وفي منبت نكبتنا، شعرت ببرد فقدان رهيب، كما لو كنت أنا المدفون، لا هو. وكما لو أنه (حسن)، وأنا (ريان).
ربما لأن ميقات موته،
عبر عن وزر حياتنا.
وربما لكونه رحل عنا،
في أوج بقائنا فيه !
ريان أورام … رحل بعد أن شَبَّ فِينا الْأَمَلْ وشَاخَ فيه الرجاء!
الكاتب : حسن بيريش
بتاريخ : 11/02/2022