ريدلي سكوت: لا تحصل الكثير من الأفلام الساعية لأن تكون متميزة على التمويل اللازم

عمد المخرج البريطاني ذائع الصيت، ريدلي سكوت، إلى تحقيق أفلام سياسية تثير من الأسئلة أكثر ممّا يمكن أن يرضي أي طرف، كما هي الحال في «سقوط (مروحية) بلاك هوك» Black Hawk Down، ومن ناحية ثانية تطرق إلى العلاقات بين الشعوب المتحاربة في «مملكة السماء» Kingdom of Heaven. كذلك فإنه عمد إلى التاريخ أكثر من مرّة منذ أن قدّم في مطلع أعماله «المتبارزان» The Duellists سنة 1977 (الذي كان أول أفلامه مخرجاً) مروراً بـ «أسطورة» ٬Legend عام 1985 ثم «1492: «فتح الفردوس» 1492‪:Conquest of Paradise في عام 1992 وصولاً إلى «غلادياتور» و»مملكة السماء» حتى «آلهة وملوك».
لكن من الخطأ اعتبار المخرج والمنتج سكوت صاحب نزعة صوب الأفلام التاريخية. إذا قلت له ذلك، فسيجيبك مصححاً: «أحب الأفلام بصرف النظر عن اتجاهاتها، بقدر ما أستاء من التصنيف الذي يتضمّنه مثل هذا السؤال».
الأكثر من ذلك، هو أن ريدلي سكوت من المخرجين الذين تعاملوا غالباً والشخصيات الرجالية في المقدّمة: هاريسون فورد في «بلايد رانر»، أندي غارسيا وآخرون في «مطر أسود»، توم كروز في «أسطورة»، راسل كراو في «غلادياتور»، كريستيان بايل في «هجرة: آلهة وملوك».
وحتى في الأفلام القليلة التي أخرجها من بطولات نسائية ظهرت المرأة محاربة: في «ثلما ولويس» (1991) رأينا سوزان ساراندون والممثلة الجميلة المنسحبة جينا ديڤيز وجي، تواجهان مجتمعاً رجالياً بقوة. وفي «آي جين» مع ديمي مور نتعرف إلى إمرأة مجنّدة. وقبل هذين الفيلمين نالت سيغورني الإعجاب عن دورها في «غريب» Alien عن عالمة تواجه وحوش الفضاء.

o سيد سكوت، هل أنت شخص محب للمنافسة؟
n أنا بالفعل شخص تنافسي للغاية! أعتقد أنني أدركت ذلك لأول مرة عندما كنت في المدرسة، فقد عانيت كثيرًا أثناء دراستي. إلا أنني لم أكن طفلًا غبيًا، لكني كنت سيئًا للغاية خلال سنوات الدراسة! فقد كنت الأخير في الصف في مدرستي الإعدادية لمدة خمس سنوات! وحللت في المرتبة الـ 29 من أصل 29 طالبًا في صفي ولم أستطع أبدًا إيجاد حل لتلك المشكلة. ربما لكي أمنح نفسي عذرًا ومبررًا لهذا الأمر، أقول إني عانيت قليلًا من عسر القراءة وصعوبة التعلم: «لا أستطيع التركيز على ما يقوله لي هذا الشخص، إنه ممل للغاية!» (ضحك).
o إذن، ماذا فعلت؟
n حسنًا، بدأت في فعل ما كنت أجيد فعله، ألا وهو الفن. لذا عند أول فرصة أُتيحت لي، التحقت بمدرسة الفنون وكان ذلك هو المكان الذي بدأت منه رحلتي الفنية. فقد مثلت مدرسة الفنون مصدرًا للوحي بالنسبة لي: وكنت موهوبًا في هذا المجال. وهو ما قادني إلى أبعد مما كنت أتصور وبشكل أسرع. عندما التحقت بمدرسة الفنون، أحببت الأمر كثيرًا لدرجة أنه بعد انتهائي من الدراسة في كلية غرب هارتلبول للفنونWest Hartlepool College of Art، التحقت بعدها بالعديد من المعاهد الفنية في كل مكان، مثل: الكلية الملكية للفنون The Royal College في لندن، وكلية سلايد للفنون الجميلة Slade School of Fine Art، وكل أنواع الأماكن. اعتقدت أنه من الأفضل أن أتابع ذلك واستغل تلك الفرصة، لأنه على الأقل يُمكن أن يودي بي إلى عمل أستمتع بالقيام به. انتهى بي الأمر بالالتحاق بالكلية الملكية للفنون في لندن، وقد كان ذلك بداية التطور، وبمثابة نقطة الانطلاق الحقيقية في حياتي الفنية.
من أين تعتقد أنك اكتسبت ذلك الإصرار على تحقيق النجاح؟
أمي كانت هكذا أيضًا، كان ينبغي أن تكون سيدة أعمال. إلا أنها كانت ربة منزل بسيطة، قامت على تربية ثلاثة أولاد، وهم: توني سكوت، الذي كان مُخرجًا سينمائيًا أيضًا، بينما كان أخي الأكبر فرانك قبطانًا يقود سفينته الخاصة في سن الثلاثين من عمره. فقد استبق الأحداث بنحو 20 عامًا. عادةً ما تنتظر وفاة شخص ما لتحقيق مثل هذا الإنجاز، إذا جاز التعبير، لكنه عُين في سنغافورة وشنغهاي عندما بلغ الثلاثين من عمره. لقد أبلت بلاءً حسنًا في تنشئة ثلاثة أبناء. وقامت بعمل جيد.
o كيف تغيرت هذه الروح عندما بدأت العمل في هوليوود وصناعة الأفلام؟
n لم أعمل يومًا في حياتي أبدًا، لا أفعل ذلك أبدًا. أستيقظ هذه الأيام كل صباح وأقول «هذا جيد، لقد بدأ يوم جديد».
بالتأكيد كانت هناك بعض التحديات.
حسنًا، على سبيل المثال، في أعمالي المبكرة مثل فيلم بليد رانر Blade Runner، على سبيل المثال، الذي كان بمثابة تجربة سيئة بالنسبة لي على كافة الأصعدة.
o كيف ذلك؟
n كانت تلك المرة الأولى التي أخرج فيها فيلمًا في هوليوود ولم أكن أحمق، ولم أكن طفلًا، كنت قد بلغت من العُمر حينها سن الـ 42 أو الـ 43 عامًا، وكنت بالفعل رجل أعمال ناجحًا. ومُتمرسًا للغاية! لقد بلغت سن الأربعين قبل أن أقوم بإخراج أي فيلم على الإطلاق، لكنني أردت أن أقوم بصناعة فيلم منذ أن كنت في الثلاثين من عمري، ولم تسنح لي الفرصة في ذلك الوقت. لكنني لم ألقِ لذلك بالًا، لأنني حققت نجاحًا فائقًا في مجال الدعاية والإعلان وأحببت كل دقيقة قضيتها في هذا المجال… ما لم أدركه حينها هو أنني كنت لا أزال في طول التعلم، أليس كذلك؟ عندما يأتي شخص يبلغ من العمر الـ 25 أو الـ 26 ويحصل على مبلغ ضخم من المال لصناعة فيلم، ثم يفشل، سيقضي عليه الناس! لا يمكنك أن تعتمد على شخص، اعتاد على إخراج أفلام لا تتجاوز ميزانيتها ثلاثة ملايين دولار، لخراج فيلم تصل ميزانيته إلى 150 مليون دولار. قد تكون غبيًا إذا فعلت ذلك، لأن ذلك ببساطة ليس فعلًا منطقيًا.
o في معظم الصناعات الأخرى، لن يحدث ذلك أبدًا
n بالطبع، تجد نفسك في أحد الأيام، تعمل بميزانية منخفضة، وتقود 12 شخصًا أو 20 شخصًا. ثم في اليوم التالي مع ميزانية قدرها 200 مليون دولار، كأنك تقود بلدة بأسرها، يتوجه كل من فيها إليك ويسألونك ما يتعين عليهم القيام به.
o هل هذا ما حدث معك؟
n عندما جئت إلى هنا، أدركت أنني أتعامل مع أشخاص ليسوا على قدر تطلعاتي، ولكنني وجدت نفسي عالقًا معهم وهذا ما حدث. لكني أعتقد أنه من الجيد أن أتصدر وأكون في المواجهة قليلًا، فقد كانت تجربة جيدة لنا جميعًا. إذ يشبه الأمر نوعًا ما ممارسة الرياضة! هذا تشبيه مثير للاهتمام لصناعة الأفلام: من الأفضل ألا تفقد الكرة أبداً وإلا سيُقضى عليك. لا يمكنك أن تحظى برحلة مريحة، فهناك الكثير من الأموال على المحك، ويتعين عليك أن تكون مستعدًا طوال الوقت.
وكما قال المخرج فرانسيس فورد كوبولا إن صناعة فيلم واحد تُمثل مخاطرة كبيرة لأي شركة إنتاج، ولهذا السبب لا تحصل الكثير من الأفلام التي تسعى لأن تكون مختلفة، على التمويل اللازم.
إذا أخذت في الاعتبار طبيعة المشاهدين والعوامل الأخرى التي تُساعد شركات الإنتاج على الاستمرار في العمل، وكذلك إذا أخذت في الاعتبار الشركات الناجحة مثل شركة ديزني والشركات الناجحة جدًا مثل شركة يونيفرسال، أعتقد أنهم يبلون بلاءً حسنًا في صناعة الأفلام ذات الإنتاج الضخم! إلا أنه يجب أن يكون لديهم أقسام خاصة لإنتاج الأفلام منخفضة الميزانية لأن العالم كله يتجه الآن نحو صناعة المحتوى من الأفلام الصغيرة التي تتحكم بها المنصات. وهذا سيغير نظام إنتاج الأفلام بأسره. ولكني أعني، على سبيل المثال تجاوزت ميزانية Gladiator الـ 100 مليون دولار بقليل – وأنا أعلم أن ذلك كان منذ فترة طويلة، ولكنه رغم ذلك حقق الكثير من المال حتى أصبح استثمارًا جيدًا من الناحية الاقتصادية. ولكن عندما تصل تكلفة إنتاج الفيلم إلى 260 مليون دولار ويحقق أرباحًا تفوق الـ 500 مليون دولار، فإن مبلغ الـ 500 مليون دولار لا يذهب بأكمله إلى شركة الإنتاج! فهم لا يحصلون إلا على نصف هذا الرقم، لذا فإن شركة الإنتاج ستخسر في هذه الحالة.
يبدو أن عالم الأفلام ليس لديه حلول وسطى فيما يتعلق بميزانية الإنتاج مُطلقًا
حسنًا، لدينا ذلك بالفعل، إلا أن مقدار الميزانيات المنخفضة قل ليبدأ من 10 ملايين دولار. ميزانيات أفلام في الجزء السفلي من المقياس حيث تبلغ حوالي 40 مليون دولار.
o ماذا عن الأفلام الناجحة الضخمة مثل فيلم بروميثيوس Prometheus أو فيلم إليان Alien؟
n بلغت تكلفة إنتاج فيلم بروميثيوس 106 مليون دولار، لذا فأنا أُعد مُقتصدًا للغاية، مقارنةً بما يحدث الآن في عالم السينما، حتى عندما أقوم بإخراج الأفلام ذات الميزانيات الضخمة. عندما تتخطى تكلفة إنتاج الفيلم الـ 300 مليون دولار، لا يعرف الشخص ما الذي يفعله. أعني، حقًا، أن هذه حماقة – في الواقع هي حماقة بالفعل. إذا كانت الميزانية المقررة لإنتاج الفيلم 250 مليون دولار أو 260 مليون دولار، ويتخطى شخص ما تلك الميزانية بمقدار 50 مليون، فإن هذا الشخص ينبغي أن يُطرد من عمله!
o من ينظر إلى أعمالك التلفزيونية في الستينات، يجد أنها أساساً بوليسية وتشويقية. القليل منها يختلف. هل كان هذا اختيارك أم اختيار «بي بي سي»؟
n معظمها كان بوليسياً وتشويقيا بالفعل، وهذا المنهج كان نتيجة تجربة أولى منحتها الشركة لي، ونجحت بها، فأعادت الكرّة مرّة بعد مرّة. كان هناك نوع من التنميط في ذلك؛ ريدلي يعرف أكثر في البرامج التشويقية والحكايات المثيرة، ما يجعله صالحاً لمثل هذه الأنواع. هذا ليس غريباً ويحدث حتى الآن على نحو طبيعي. المخرج الذي يبدي نجاحاً في نوع ما تريد استثمار نجاحه في النوع ذاته.
لكن حتى بعد انتقالك إلى السينما، حافظت على هذا الاتجاه
تستطيع أن تقول ذلك، لكن أفلامي ليست بوليسية كما كان حال بعض المسلسلات التي قمت بها؛ إنها – وأخمّن أنك تعرف ذلك جيداً – مختلفة منها التاريخي والتشويقي، وكذلك البوليسي. المواضيع التي تثيرني أكثر من سواها تكمن في هذه الأنواع.
لكنك تركت تلفزيون «بي بي سي» في أواخر الستينات، وأسست شركة تصوير إعلانات.
نعم. وجدت أن ذلك أجدى من الناحيتين المادية والمهنية. حررني من الاتكال على إيراد محدود في عملي السابق، وجعلني أقترب أكثر من فعل الابتكار. هذه هي مدرستي الفنية كما قلت أكثر من مرّة.
o كيف قررت إذاً أن الوقت حان لكي تتحوّل إلى مخرج سينمائي؟
n كانت النية موجودة دائماً، لكني أعتقد اليوم أنني كنت مرتاحاً في تأسيس نفسي في العمل مخرجاً ومصمماً إعلانياً. الشركة كانت – ولا تزال – ملكي، وكانت شركة ناجحة مكنتني – كما ذكرت – من الاستقلال مادياً. كذلك منحتني فرصة التعرّف إلى منتجين كثر. كانت هناك أكثر من رغبة في العمل مع أكثر من منتج، لكني التقيت سنة 1976، المنتج ديفيد بوتنام، وتباحثنا في عدد من الأفكار إلى أن استقرّ الرأي على «المتبارزان» الذي كان اقتباساً لرواية جوزف كونراد عن ضابطين متنازعين، عملا تحت إمرة نابليون، لكن حقد كل منهما على الآخر امتد لـ 16 سنة.
في البداية فكرت في ممثلين بريطانيين، لكني عندما بدأت التقليب بين الأسماء المتوافرة، اقترح ديفيد أن نستخدم ممثلين أميركيين، لكي نتيح للفيلم توزيعاً أفضل في الولايات المتحدة. كان الحق معه في ذلك، ولو أن الفيلم لم يوزع جيّـداً في أميركا الشمالية.
o الممثلان كانا كيث كارادين وهارڤي كايتل…
n نعم.
o هل انتقلت بغرض تحقيق «غريب» إلى هوليوود؟
لا؛ كان من المقرر أن أقوم بإخراج فيلم آخر قبل هذا الفيلم، لكن ذلك لم يتم.
قرأت أن المخرج وولتر هِـل، كان المرشّـح الأول لهذا الفيلم
كان أحد المنتجين، وأحد المساهمين في كتابة هذا المشروع، وأعتقد أنه كان مطروحاً لإخراج هذا الفيلم، لكنه آثر البقاء منتجاً وتسلّمت المهمّـة عنه.
o هل توقعت النجاح الذي حالفه؟
n نعم؛ ولكن ليس بالقدر الذي حدث. قيل في بعض الصحف آنذاك إن نجاح «ستار وورز» أدّى إلى نجاح «غريب»، لكن هذا ليس صحيحاً؛ كل منهما مختلف جداً عن الآخر. «ستار وورز» كان فيلماً للترفيه، و«غريب» كان أبعد ما يكون عن الترفيه. كان فيلم رعب في الفضاء، وكان من المفترض به أن ينجح بين هواة النوع المرعب فقط، لكنه نجح بين فئات كثيرة من الناس. هذا ما لم يكن متوقعاً.
بطلته امرأة … ولا كل الرجال.
(يضحك) صحيح. لكن هذا لا يعني أنني أصنع أفلاماً حسب جنس دون آخر. أحب الأفلام بصرف النظر عن اتجاهاتها.
o لكن البطولة كانت معقودة لرجل. المرأة كانت ذات دور ثانوي؛ هذا قبل أن يتم تغيير السيناريو، هل هذا صحيح؟
n نعم؛ الذي حدث هو أن السيناريو الأول نص على أسماء موحدة جنسياً، مثل دالاس وريبلي وباركر، هذه وحدها لا تنصّ على جنس الممثل، ذكراً أم أنثى. الدور الذي لعبته سيغورني ويفر كان ريبلي، وكان مكتوباً على أساس أنه رجل. اخترت أن أعطيه إلى امرأة، لأنه لم يكن متوافراً في سينما هذا النوع، أفلام من بطولة نسائية.
o لكنها ليست مجرد أنثى هي امرأة قوية.
n نعم.
بناءً على ما تقوله، فإن قيام الوحش بمحاولة زرع بويضاته في الأنثى، كان سبباً آخر في اختيار امرأة لقيادة الشخصيات الأخرى.
ليس ضرورياً من هذه الزاوية التي تتحدّث عنها. الوحش كان قادراً على زرع بويضاته في أي شخص آدمي، لكن زرعها في جسد امرأة، يبدو منطقياً أكثر لنا.
في كل الأحوال، هذه كانت واحدة من المرات القليلة التي منحت فيها البطولة لامرأة؛ لكن نساءك هم كالرجال: أقوياء ويجابهن التحديات مهما كانت عنيفة.
نعم؛ لكن المسألة ليست بهذه السهولة. حين تقول أقوياء كالرجال، فإن ذلك يعني تحبيذ الرجل على المرأة، وهذا ليس وارداً عندي. لكنهن نساء قويات في الواقع هذا صحيح. من هذه الزاوية، فإن الوضع هو الذي يفرض من يتولّـي البطولة؛ أقصد بالوضع القصّـة المتاحة.
هذا لا ينفي أن معظم أفلامك من بطولة رجال، رغم ذلك الأفلام القليلة التي حققتها من بطولة نسائية كانت جيّـدة. خذ مثلاً «ثلما ولويس»، امرأتان منكوبتان بوضع اجتماعي كابت، تقرران الانفلات منه، وفي النهاية الهرب إلى الأبد منتحرتين.
هذه هي الحكاية، كما وضعتها كالي (كالي خوري، المؤلّـفة). هي التي أبرزت العامل النسائي أساساً. في هذه الحال، لا يمكن لمخرج أن يقلب الأدوار، ويسندها إلى رجال، لكنني كنت حذراً من أن أنزع عن سوزان (ساراندون) وجينا (ديڤيز) الأنوثة.
قبل هذا الفيلم أنجزت فيلماً من الخيال العلمي أيضاً، هو «بلايد رانر» Blade Runner الذي يبدو أنك ستعود إليه في جزء جديد.
الأمر وارد، لكن المسافة ما زالت بعيدة حالياً.
الفيلم تعرّض لمشكلات كثيرة في التصوير. وهاريسون فورد، بطله، كرر آنذاك أنه «أسوأ تجربة خاضها في حياته». ما القصّـة الحقيقية هنا؟
حسناً؛ كانت هناك خلافات في العمل، هاريسون لم يكن مرتاحاً خلال التصوير. أعتقد أنه كان يطمح إلى تقديم شخصية كثيرة المغامرات، لكني كنت أريد له أو لأي ممثل يلعب هذا الدور، أن يجسد شخصية أكثر واقعية، ولو أن الفيلم خيالي بالطبع. كانت له وجهة نظر لم أستطع الانسجام معها. في النهاية أنا المخرج، لكني أعتقد أنه غيّـر رأيه فيما بعد. لم يعد يقول إن «بلايد رانر» هو أسوأ تجربة مرّ بها.
كانت لك متاعب مع مصمّمي المناظر، لكنها لا تبدو على الفيلم إطلاقاً.
هذا كان تبعاً لاختلاف وجهات النظر أيضاً. أنا لم أكن أريد أن أمنح الفيلم ملامح سبق لأفلام أخرى أن قدّمتها. هذه لوس أنجلوس في عام 2019: مدينة مكتظة وتبعاً لتلوث البيئة وعوامل طبيعية أخرى تمطر بشدة طوال الوقت. داكنة. كذلك فإن المشاهد الداخلية أردتها مختلفة؛ هذا منظوري الخاص للعمل. نعم غيّـرت أفكاري أكثر من مرّة، لكن النتيجة على الشاشة كانت لمصلحة الفيلم. مصمّمو المناظر تمّ ترشيحهم للأوسكار نتيجة هذا العمل.
الأفلام التي حققتها منذ «بلاك هوك داون» تتناول قضايا سياسية. «بلاك هوك داون» عن أحداث حقيقية وقعت في الصومال. «مملكة السماء» عن الحملة الصليبية، وبعده «كيان من الأكاذيب» عن «السي آي إيه» وملاحقة الإرهابيين، واخيراً «هجرة: آلهة وملوك».
«آلهة وملوك» فيلم سياسي؟ يمكن تفسيره كذلك بسهولة..
إنه يلقي نظرة على أسباب أخرى للصراع بإسم الدين، لقد كتب كثُر أنه فيلم ديني، لكني لا أعتقد ذلك، وفاجأتني بالقول إنه فيلم سياسي، هذا أقرب إلى الفيلم من القول إنه فيلم ديني. لم أكن في وارد تحقيق فيلم عن النبي موسى، ولا أن أتحدث عن رسالته الدينية، ولا أعتقد أنني فعلت ذلك. ما قررت القيام به هو استخدام ذلك الصراع بين دينين واحد قديم وآخر جديد، دار بين طرفين متحاربين، للإيعاز بأن الحروب كلها تتمحور حول أسباب أخرى غير الدين، ولو أنها تتمسّـح بالأديان كثيراً.
o أهذا ما أردت الوصول إليه في «مملكة السماء»؟
n أعتقد أن ذلك جليّ فيه أيضاً. ذلك فيلم سياسي، لكن ليس بالمعنى المتداول بسهولة. الحملة الصليبية كانت دوافعها مختلفة، فيها قسط من الدين، لكنها لم تكن لأجله. كانت لأجل الاستعمار في الواقع. الوصول إلى أراض بعيدة تحت ستار استعادتها من الكفار المسلمين، لكنها كانت اقتصادية وسياسية، كما الحال في معظم الحروب حول العالم.
o كيف اخترت ممثليك لهذين الفيلمين تحديداً؟
n لا تقلق على الممثلين؛ هم لا يفعلون أكثر من حفظ الأسطر. اقلق عليّ أنا؛ اسألني كيف كان عليّ الاهتمام بكل تفصيل من أشرطة الأحذية إلى كيف سيتمّ إخراج الفيلم للجمهور.
جزء من تحقيق الغاية هو التمثيل، قد يكون مقنعاً أو لا يكون.
لكنه يعود إلى عاملين مرتبطين بالمخرج: هو من عليه أن يختار الممثل، لمعرفته بما إذا كان يناسب الدور أم لا. إذا كان يصلح للتمثيل في هذا الإطار وفي تلك الشخصية. وهو من عليه أن يديره، ليتأكد من أن هذه الصلاحية ممارسة جيّـداً.
o بعض أفلامك الأخيرة تتواصل والعالم العربي؛ هل تقرأ عنه؟ هل يثيرك تاريخه أو حاضره؟
n يثيرني العالم بأسره وما يمرّ به اليوم. ما يمرّ به اليوم، هو ما مر به بالأمس أيضاً؛ أقصد أن أقول إننا اليوم هنا، وهنا هي أي مكان وأي ظرف تريد، لأننا سرنا في دروب أوصلتنا إلى هذا الحاضر. ما يقع عندكم الآن هو جزء من رحلة طويلة اشترك فيها الجميع. العالم بأسره متورط بكل رحلة تؤدي إلى قلاقل وحروب، لأن هناك رغبات كثيرة تتوالد عند الكثير من الأطراف، وعندما تقع حرب ما، أينما كان، يكثر الذين يريدون الاستفادة منها على نحو أو آخر.
ذكرت أنت ذات مرّة، أن العالم هو أعنف من السينما
جداً. لا مجال للمقارنة؛ ما تراه على الشاشة تعرف أنه خيالي. تستطيع أن تترك الفيلم وتخرج منه، وتستقبل حياتك الحقيقية. العنف الذي يقع في تلك الحياة لا يمكن الخروج منه. في السينما هناك ممثل يسقط قتيلاً، ينهض بعد التصوير ويكمل حياته، في الواقع من يسقط قتيلاً لا ينهض بعد ذلك مطلقاً.
o هل يثيرك التاريخ مادةً للدراسة؟
n طبعاً.
o والحاضر؟
n كل يوم في الصباح أشاهد 15 دقيقة من CNN. في اعتقادي أنها كافية لتضعني في اتصال مع الواقع الحاضر، تكفيني لمعرفة ما يحدث اليوم، لأن ذلك متصل بالماضي الذي لا يبدو أننا نتعلم منه أي شيء.
o لا شيء؟
n لا شيء على الإطلاق. عندكم في الشرق الأوسط ما يحدث اليوم هو نفسه ما حدث قبل 3000 سنة.
o في المدّة الأخيرة، وقبل خروج «هجرة…»، كثرت الأفلام الدينية التي تدور في رحى الماضي، أو تلك التي تدور في الحاضر. هل تعتقد أن ما يحدث في العالم العربي من حروب سبب أساسي في هذا الانتشار؟
كل الأديان تشترك في إيمانها بالحياة بعد الموت. كلها عن الحياة بعد الموت. حتى الأديان القديمة قبل اليهودية، حتى الدين عند الفراعنة، كان عن الحياة بعد الموت. وهناك الكثير من الشواهد على ذلك. أعتقد أن الحياة المعاصرة، بما فيها الكاثوليكية، والكنيسة عموماً، تعايش وضعاً صعباً، لأن الناس تغيّـرت. ما عادت تفكر في الحياة بعد الموت. هذا تأثير مهم ناتج عن التقدم التقني الذي نعيشه.
o هل تنظر إلى أعمالك نظرة مخرج سينما تاريخية، أو سينما خيالية أو سواها؟
n لا أوافق على هذا التقسيم؛ أحب الأفلام بصرف النظر عن اتجاهاتها، بقدر ما أستاء من التصنيف الذي يتضمّنه مثل هذا السؤال‪. نعم هناك مخرجون كثُر تخصصوا بنجاح (جون) فورد في سينما الوسترن، هيتشكوك في سينما التشويق، لكنّني من الذين ينجزون أفلاماً مختلفة، كما ذكرت أنت طابعها الجامع تشويقي وحركة، لكنها جميعاً سينما مفتوحة على أنواع مختلفة لا حدود لها. هذا اختياري الخاص.
o أنت صاحب أكثر من 140 فيلماً من إنتاجك، من بينها أفلام لك مخرجاً، ألا يأخذ الإنتاج من وقتك مخرجاً؟
n طبعاً، لا ريب، لكني لا أفرق كثيراً بين الناحيتين. المنتج اليوم هو أكثر من أي وقت مضى على صلة بالإخراج، هو من يحدد وجهة الفيلم النهائية.
لكنك عانيت من تدخل بعض الشركات في أعمالك، عندما كنت مخرجاً فقط؛ «بلايد رانر» مثالاً.
(يضحك) نعم؛ كان هناك خلاف في وجهة النظر، هذا طبيعي، لكن لهذا السبب أمارس الإنتاج بحب، وأهتمّ بما يريد المخرج تحقيقه. هو لا يزال فيلمه، لكن دوري التأكد من أنه لا يمارس هذه الملكية على نحو قد لا ينجز النجاح المطلوب.


بتاريخ : 30/03/2019