رِهانُ السَّردِ في النص الرِّحلي: «مثل لقلاق… سائح في مدن أوروبية» لعبد المالك المومني

 

لِلأستاذ الدكتور عبد المالك المومني اهتمام واسع بالسرد. فبعد إصداره لروايتين:»الجناح الهيمان بنبع ركادة الوسنان + خضرا والمجذوب»، ولعدد من القصص (المنشورة ورقيا وإلكترونيا)، وكذا لديوان شعر زجلي؛ يطالعنا عمله الأخير، المصنف ضمن النصوص الرحلية: «مثل لقلاق…سائح في مدن أوروبية « الذي أصدرته الجمعية المغربية للباحثين في الرحلة، في طبعة أولى عام 2022. يقع المؤلف في أربعة أقسام، يتخلله حَكِيٌّ لمجموعة وقائع مقرونة بوصف بديع، وارتسامات شخصية، حول سفريات عديدة، متقطعة زمنيا بين فرنسا، إسبانيا، بلجيكا، ألمانيا وإيستونيا .
إن الرحلة بوصفها تصويرا لآثار تُخَلفها زيارة أو سياحة في مكان ما، وكذا باعتبارها مصدرا جغرافيا واجتماعيا ثم تاريخيا، أولأنها تسجيل مرئيٌّ يَخص انفعالاتٍ ذاتيةً متعلقة بدهشة قوية، أقول، إن الرحلة بالتالي، وصف مَشهديٌّ عرفته الآداب الإنسانية وثقافاتُها المتنوعة منذ زمن بعيد. فقد كانت الحاجة ماسة إلى (المعرفة) وإلى (محو الجهل) بأماكن محددة أو بشعوب أو بمناطقَ أو بعناصرَ طبَعِيَّةٍ، يكتنفها الغموض واللبس. ولعل الملاحم الشعرية القديمة خير دليل على ذلك:(الأوديسا عند الإغريق، جلجامش عند البابليين..) مثلما الأمر في التراث العربي؛إذ نعثر على:(رحلة السيرافي) و(رحلة سلام الترجمان إلى حصون القوقاز) و(رحلة المسعودي= مروج الذهب) و(رحلة الشريف الإدريسي= نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) ورحلة ابن بطوطة والبيروني وغيرها، لا يتسع المجال لذكرها.
أما اطلاعي على الكتاب وقراءتي لمحتواه، فقد جعلاني أتوقف عند ملاحظتين اثنتين متعلقتين بالشكل السردي المُتبع، ولا أخالهما إلَّا محاولة في التفاعل الإيجابي مع النص بِرُمته.
*الملاحظة الأولى:
إن الخَطِّيَّة الزمنية المتبعة في النص الرحلي، لا تعترف بالتراتبية الزمنية أو بالتسلسل المنطقي البسيط. وهذا جعل الكتاب في مجمله يعرف الانتقائية المَشهدية المرفوقة بالعَنْوَنَة لكل لحظة، كخاصية تَمْييزية تَميُّزية. وهناك أمثلة كثيرة، منها:(صفحة 84= الغريب)(صفحة 86= الدراجة في برلين)(صفحة 89 = نهار المدينة)(صفحة 90 =جزيرة الطاووس)(صفحة 91 =اللغة في برلين)(صفحة 92= في مدينتهم حيوان)
القصد أن الكاتب هنا؛ وهو سائح في بلاد الجرمان، ألمانيا؛ تستوقفه عناصرُ حياتية بذاتها، يَكتشفُها، فيكشِف عنها بعد أن أدهشَته بعض جزئياتها، ثم ينبري لها  مهتما بما تقدم له من انبهار، واصفا لعلائقها، مُقْبِلا على توثيقها، عبر منهج كتابي تَغَيَّاه وابْتغاه، معتمدا فيه على المقارنة. وهذا ساعد الأستاذ عبد المالك المومني في الانتقال بسلاسة من موضوع/ حالة(مَرئي/ مُشاهَد/ مُعايَن)إلى آخر، دون الحاجةإلى مقدمة. والرابط في كل قوله هو وحدة عنوان القِسم: فرنسا، بروكسيل، برلين،إستونيا (طالين، العاصمة)
*الملاحظة الثانية:
أشرت آنفا إلى أن الكاتب اتخذ سبيل (المقارنة) كنهج مساعد على الاسترسال في الحكي، فعَمَد إلى عقدها بين ما وقف عنده من مُشاهدة أو مَعِيش، وبين ما يعرفه أو يَحياه في الوطن. الأمثلة كثيرة وعديدة أذكر منها: القيم المجتمعية، العلاقة بالحيوان،أساليب العيش في المأكل والملبس، عادات الأسر وأنماط تقاليدها، الاحتفاء ورمزيته، ثقافة الاحترام وأعرافه، العمران وأشكاله،أساليب التحاور، التدين وتمظهراته، السلوك الاجتماعي، مظاهر الحضارة والتمدن…
وقد دفعت هذه الطريقةُ الكاتبَ إلى طرح استفهاماتٍ استنكارية، خلُصت به إلى أحكام قِيمِيَّة. يقول الكاتب:
-»أشياء حديثة لا قِبَلَ لنا بها البتة في وطننا.»(الصفحة 19 من الكتاب)
– « أَمِنْ فِعل الزمن ما حَلَّ بفاس أم من سوء تدبير القائمين عليها؟!»(الصفحة 118 من الكتاب)
أكاد أجزم هنا أن محبة الوطن رغم، القساوة الظرفية المُرافقةِ لها، تظل الاحساس الغالب عند الكاتب؛إذ أن «فَخَّ» عَقْدِ المقارنة ليس غاية في ذاته، بل وسيلة للرفع من شأن المَوطن، لا تخريبا أو تبخيسا له، كما لو أن الفعل مِن عتاب الأحبة.
إن طبيعة النص الرحلي للأديب الأستاذ عبد المالك المومني، تدفعُنا كمُتلقِّين إلى الانخراط الواعي في سيرورة السرد البديع وفي شكله؛ باحثين عن متعة الاكتشاف وجمالية المَقروء في الْتِذاذٍ، مُتنبِّهين لكل غريب ومُدهش، مُستمْتعين بانْسِيابيَّة الحَكِيِّ، تاركين له حُرية اختيار المَصائر.


الكاتب : جواد المومني

  

بتاريخ : 18/12/2023