زجاج الترجمة

أمر غير متوقع تماما أن يتعامل المترجم مع الكلمات بوصفها كيانات خاملة. فلكل كلمة قوة مدهشة ينبغي أن يعثر عليها، لأن الكلمات تتوفر على طاقة مثيرة ومتحولة، ولا يمكن “توقع” حمولاتها على وجه الدقة. هناك دائما شيء يختبئ أو يخادع، وينبغي التعامل معه “الوضوح”، تبعا لذلك، بغير قليل من التوجس، وأن تجعله دائما يلعب دور الميت الذي ينبغي تشريحه ورفع تقرير بذلك لفائدة الشك.
ليس المترجم سفيرا للنوايا الحسنة، بل قوة وانتباها لا شاغل لهما إلا النص واستقطار معانيه ومقاصده وأشكاله وبنيته اللغوية. الترجمة ليس شرحا أو تفسيرا. إنها رهان بعيد لجعل لقاء المبنى والمعنى ممكنا. ذلك أنه من المستحيل أن تقول الترجمة كل الحقيقة، إذ لا بد أن تترك بعض السقط في الطريق، ولابد أن تعتمد على الحدوس القوية والإلهامات المفاجئة، خاصة حين ترتبك السمات الدلالية وتختلط الإشارات اللغوية.
إن الترجمة تواجه دائما نوعا من العمى. هذا هو التشوه الذي يجعل المترجم على أهبة دائمة لتفادي “غبار” الكلمات أو “إشعاعها” أو كل ما يؤذي العين. ذلك أن عدم التسليم بأي احتمال ضرورةٌ، كما أن إخضاع كل الاحتمالات للاختبار هو مسافة الأمان الوحيدة التي تتيح القدرة على الإبصار وعدم الابتعاد، بل تجنب المزاج العكر للكلمات في علاقتها بالقاموس، مثلا.
لا بد من إعداد خطة صالحة للحفاظ على التحفز الوثاب وعدم الاندفاع العشوائي، خاصة أن رهان كل ترجمة هو الحفاظ على التماسك الشكلي والانتصار لامتلاء القول بالمعنى (ما يريد أن يقوله النص). فالترجمة، في العمق، لا تتأسس على الاستحواذ على المعنى وامتلاكه مع الحفاظ على وحدة الشكل (الأسلوب)، ذلك أن المعنى في ترجمة النصوص لا يتأسس إلا على تمايز الشكل. لكل نص حقيقته الشكلية، ولكل كاتب أسلوبه، ولهذا فالشكل في الترجمة ليس عرضيا، بل هو صلب المعنى. ومن ثم، لا يمكن ترجمة النص بالجملة نفسها، ولا بالمعجم نفسه. وهو ما يسمح لنا بالقول إن الترجمة لا تتحقق إلا بالمترجم الموسوعة، أي المترجم الذي يرشد كلماته إلى أصلها، ويمنعها من الوثب الطولي والعلوي على ما لا يجري في معناها. ولا تتحقق الترجمة أيضا إلا بالمترجم المرتاب الذي يجد متعة في الشك الذي يعتريه أمام الكلمات. كل كلمة لا تكشف عن وجهها إلا وهي حاملة لإشارات ملتبسة ينبغي عليه أن يفك خيوطها، وأن يميز بين ظاهرها ومضمرها. كل كلمة تفشي حقائق أخرى مشدودة إليها في السياقات الثقافية التي أنتجتها، وهذا يتطلب ألا يتركها المترجم لتصرفاتها الغريبة، ولا أن يقع في شباكها.
ليست الترجمة مجرد ترحال مكوكي بين لُغَتَيْن، أو أكثر، ما دام كل مترجم، وهو يمارس ذلك التنقل، يعيش لغات متعددة في اللغة، كما أنها ليس فقط “تحد” للتطابق مع الأصل. ولهذا يحق لنا أن نقول إنها تفكير في الكلمة بنوع من الصدق الوحشي، أو بتعبير بول ريكور، إنها “تأويل”، أي تلك العملية التي تجعل الكلمة التي جرى اختيارها تكشف كل أسرار “الأصل”.
ولا يعتبر بورخيس، النَّصَّ “أصلياً إلَّا من حيثُ كونه إحدى المسَوَّدات الممكنة التي تُعبِّد الطريق لنصٍّ سيُكتَب بلغة أخرى. فهو لم يكن يريد أن يُعلي من شأن النَّصِّ-النسخة، لينتقصَ من النَّصِّ-الأصل، كما لو أن نصَّ الترجمة هو النَّصُّ المهذَّب المشذَّب، النَّقيُّ الطاهر propre، في مقابل الأصل الذي ليس إلَّا مُسوَّدة brouillon تنتظر أن تلبس لغة أخرى، كي تجد صفاءَها وطهارَتها”.
ومع ذلك، فإن هذه الرؤى في شقها التقني، تخفي قضايا مهمة، لعل أخطرها قضية “الهيمنة الثقافية التي تركز عليها المركزيات اللغوية”. ومعنى ذلك أن الترجمة تطرح، دائما، أسئلة جديدة، في علاقاتها بالتلقي، والتأثير الأدبي، والإشكالات التي يطرحها الأدب المقارن بين اللغة الوافدة وطرق استقبالها وتحويلها، وإخضاعها، دلالة وتأويلا، للمعنى الأصلي داخل لغة أخرى حاضنة. إنها شرح وتفسير وتعليق، وتكريس قسري لذلك النص الموازي الذي نطلق عليه الحواشي والهوامش، ذلك أن “هناك أصعدة غير قابلة للترجمة مزروعة في النص، والتي تجعل من الترجمة مأساة حقيقية، ومن تمني إنجاز ترجمة جيدة رهانا يجب كسبه”، ناهيك عن استحالة التوحد اللغوي في سياق ألسنة متعددة، كما يذهب إلى ذلك طه عبد الرحمن؛ “إذ تختلف الاستعمالات اللغوية داخل اللسان الواحد حتى انقطاع الصلة في ما بينها، فلا يفهم المتكلمان باللغة الواحدة أحدهما الآخر، كما لا يتفاهم المتكلمان بلغتين مختلفتين”. ولعل هذا، يحيلنا على صعوبة المطابقة بين لغة وأخرى، وخاصة حين يتعلق الأمر بترجمة الأعمال الأدبية. إن الأمر، بهذا المعنى، يتطلب انتباها ثابتا للكلمات والسياقات، والتعامل معها كشيء بالغ الإثارة والتعقيد.
ومهما يكن، فإن الترجمة، رغم صراع النظريات واستشكال الرؤى، تظل مجالا خصبا لقراءة غير القراءة المجهرية، ومحاولة للاقتراب من “الأصل” (المعنى) عبر آليات النقل والتحويل والاستطلاع. وتبعا لذلك يصبح المترجم مهندسا لنص يقرؤه عن نص آخر بلغة أخرى، ويقيس توافقه وانسجامه وطروسيته، مما يجعله منفتحا، بحق، على أفق موسوعي يمتد من هذه اللغة إلى تلك، ومن هذه الثقافة إلى الأخرى. ذلك أن ملاحقة المعنى تقود المترجم أثناء عملية الترجمة إلى الاستكشاف والاسترجاع، وقياس الحاضر على الغائب، ووضع روائز الدحض واختبارات القبول. فـ”الحقول الدلالية لا تتطابق فحسب، بل التراكيب أيضا ليست متعادلة، وأساليب الجمل لا تحمل نفس الموروثات الثقافية”.
انطلاقا مما سبق، يتضح أن الترجمة تطرح العديد من الإشكالات التي تتعدى النص، لتشمل الثقافة بمعناها الواسع. ومن بين هذه الإشكالات التي لا يمكن القفز عليها: هل النص الأصلي ثابت حقا أمام تعدد الترجمة؟ هل النص الموازي للترجمة (الهامش) يمليه شعور بقصور الترجمة؟ هل هو فعلا عار المترجم؟ وإذا كانت الترجمة مستحيلة، فهل معنى ذلك أن فهم اللغة مستحيل أيضا، وأن التأويل هو الثابت في سائر اللغات؟
ليس على المترجم أن يقول لأي نص: “احتفظ بأفكارك ومعانيك لنفسك !”، عليه أن يتذكر فقط أن عليه أن لا يسلم بأي شيء، وأن يحتاط على نحو صارم من كل كلمة تحدث ضوضاء، حتى لو كان خافتا، وقبل ذلك عليه أن يكون بالغ التركيز، وأن يدخل في شجار طويل ومركز وعالي النبرة مع ما يتيحه القاموس من تسهيلات.. أليس المترجم مثل السائر في طريق من الزجاج المكسور؟


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 29/04/2024