سؤال المسرح وبلاغة الألم في رواية «حين يزهر اللوز» لمحمد أبو العلا

اختار الكاتب محمد أبو العلا لروايته عنوانا ملغوما راشح بأثر الزمن في أول تجربة له مع الرواية، فالكاتب مؤلف وناقد مسرحي راكم تجربة كبيرة في الدراماتورجيا. ذلك أن جملة العنوان « حين يزهر اللوز»، توهم القارئ بفعل الإزهار ونقيضه عبر الانتظارية الشرطية التي يحملها الفعل في ارتباطه بالزمن، أو ما تشي به الدلالة في عملية الإزهار في الحاضر والامتداد إلى زمن المستقبل ليتحقق الشرط. ولا يَتَكَشَّفُ المعنى إلا حين يَفُكُّ السارد طلاسم السرد حول إزهار موسوم بالتردد. حيث لا يزهر إلا الإسمنت في السهل، في مقابل اللوز الذي أزهر في الجبل، جاء منغرسا في أتون موسم لوز مؤجل على الدوام، محاصر بفيض سماوي من ندف الثلج حتى التخمة، وطقس بارد مغلف بشتاء كابي يتمطى بين الفصول يقُـدُّ منها ما يشاء. وكدا ربيع منتظر حتى وإن حَلّ، حَلَّ ربيعا يشبه «ربيع براك» في توسد المآسي والعذابات المتوالية والمتتالية بلا سند إلا من عزلة قاتلة في الجبل.
لذلك تتواشج الطبيعة مع الزمن في حفر أثرهما على المكان/ بلاد المنجم ومن خلاله الجبل ككل. بلدة يرهنها الحاضر في أغلال البؤس وألوان الإحن والمحن التي تتداول الناس بلا رحمة. في ما يستبد بها الماضي المنفلت الموسوم بالإزهار في ثقوب الذاكرة، حتى وإن كان مغموسا ببؤس عمالي، حين كان ذات زمن يومض المنجم بحركة دؤوبة ونشاط يومي، رغم أنه كان يمتص الحيوات ويأسر إنسانية الإنسان، ويحولها إلى مجرد هالة تهش الحياة بعصا ألم الوقت الذي يتماهى في الإزهار مع شجرة اللوز وموسمها المرتحل على الدوام. لذلك فالحياة العمالية التي يغزلها المعدن اللعين، هي جزء من الحياة العامة في البلدة، وهي عنوان للتضحية من أجل إزهار مؤقت. وهو ما يفسر أن الذاكرة لم تَعُدْ تقْوى على مجابهة الحاضر إلا باستعادة الماضي.
تشتغل الذاكرة على حد تعبير بول ريكور بجميع الضمائر في صيغ الجمع أو المفرد، أي بشكل تعددي حين تمثل هذا الماضي1. أليس الجبل تعبيرا عن الضمير الجمعي في مساحات فراسخ الأطلس المتوسط. فالعودة إلى الماضي ارتحال من أجل البحث عن جسر يودي إلى لحظة حتى وإن كانت عابرة أو وقتية، فهي تشحذ الهمة لاستنفار الذوات لكي تنوء بالأثقال على كاهلها بجلد. هذا المنحى العبوري هو الأمل في محو الراهن والبحث عن ملاذ، حتى وإن كان ربيعا كاذبا موسوما بالصدق كتوافق اجتماعي في ربيع لوز مزهر دون شروط الإزهار المطلوبة، بعدما فغر المنجم فاه وتحول إلى ركام يغمس أنفاسه في الصمت وطلقات الجبلي التي تشبه حرب دون كيخوت للطواحين.
لذلك أضحت بلاد المعدن ومعها إدريس «الفاكتور»، البطل والسارد الذي يبحث عن فجوة مع أناس البلدة، تزيح غمامة القتامة وتفسح المجال لجرعة من المتعة وإن كانت لحظية، بعدما أتت الطبيعة ومعها يد المخزن المُنكلة على كل شيء جميل، وكذا المنجم القاتل الذي أفل نجمه وأفلت معه الحياة بكل معانيها بعد أن غاضت بئر المعدن ورَحَلَ الفرانسيس.
لقد أضحت بلدة المنجم مجرد حطام عمالي وهياكل بشرية بئيسة تؤثث الفضاء، بعدما كانت إلى حين قريب جسر حب وعفوية وضياء بعيدا عن الظلمة القاتمة القاتلة، إذ يقول السارد في ص 1049- 150 « الزمن الذي يطغى شتاء فيطوح بمن يدب نحو مخابئ كئيبة… الزمن الذي جار فهَجَّر سلالات تباعا نحو براري لا يحجب شموسها غيم، تاركين رسائل ممهورة بأسماء حالمة خذلها منجم غادر، فارق على إثره الخِلُّ خلَّه، وسدَّت آخر المسالك كانت إلى حين جسر حب..» .
إنها بلاغة الألم التي يمثلها المنجم ومعه البلدة التي تحمل أنقاضه، وأناس الهامش الذين يدبون على أرضه صباح مساء دون كلل في انتظار أمل مفقود وربيع لوز موعود. حيث اشتغلت الرواية على الجغرافيا كخيط ناظم يرسم هوية الأفضية والشخوص معا في تواشج تام.
لقد نحت السارد من الطبيعة الجغرافية الأبعاد الهوياتية لشخوص الرواية، من خلال ثنائية السهل والجبل في شكل تناظري، فالسهلي ومعه الجبلي شخصيات فاعلة في الأحداث وفي الأمكنة. وهي البنية المكانية التي ترجمت إلى بناء تقابلي بين الأسفل والأعلى، ومن خلاله شخصية العالية التي تمثل قيما أخلاقية عالية ورفيعة، تستمد جذورها من ماضي المقاومة وحاضر النضال. يقول السارد في بداية الرواية في فصل بريد الجبل: « فتحت العالية مصراعي الباب المهترئ …، تمتمت بضع كلمات أمازيغية فهمت منها بعسر أن شتاء هذه السنة قاس، فعلي بالأغطية في حين ستتكفل هي بالحطب.»، وفي ص 16 «ظل الجبلي حارس المنجم الوحيد يلوك نفس الكلمات..».
لذلك فالسهل فضاء سفلي للبطالة والتهميش ولإزهار الإسمنت وتحنيط البشر. يقابله الجبل بعلوه ولكن لا يخلو من بنى سفلية يمثلها المنجم كحيز هندسي ومكاني موغل في الانحدار ومقامات الدرك الأسفل القاتم والقاتل الحامل لكل معالم البؤس والتهميش والعذاب والمرض والموت المخاصر للعمال بجانب ثروات يجنيها الرأسمال الاستعماري من هذا البؤس المأساوي الملون بمعدن باطن لأطلس المتوسط. يرويها فصل خص به السارد ما سماه محكي منجم يقول في ص 28:» للمناجم محكيها الخاص، محكي عميق عمق لمسافة الواصلة بين الأعلى والأسفل، بحثا عن معدن مكلف، محكي صاعد من ثلمة في الأرض يتصاعد منها الموت والحياة سيان، أرزاق معلقة في ضربة معول، وأحلام ثروات شركات عابرة للقارات..».
لقد جعل الكاتب من الجبل رغم علوه فضاء لغضب الطبيعة والحزن المنسرح في تلابيب الإنسان الجبلي البسيط، في شتاء كابي ورصاصي ممسود ببياض ثلج وعزلة للمكان. إلا أن السارد اختار للجبل فضاء أكثر سموقا وعلوا حيث الشموخ والسمو والصفاء والنقاء، وحيث حياة الرحل الموسومة بالشراسة. وتلك حياة أخرى، لا تقل ألما عما عليه الجبل. كما أن ساعي البريد هو جزء من التركيبة البشرية الجبلية بعد أن طوحت به الأقدار من السهل إلى الأعالي في بلدة المنجم. فقد شارك أهل الجبل في كل شيء بما في ذلك أسرار رسائلهم وحيواتهم، وأضاف أحزانه إلى أحزان الجبل، وحيدا يقاسي العزلة، إذ لم يظفر بخيط من فسائل الحب بعد أن أتى عليها السهل، فاختارت محبوبته مهاجرا لتنسرح من بين يديه مستغلة غيابه، أما ياسمين فقد قدحت نار الصبابة في قلبه،
ولم تكن سوى لحظة عبور لنكء الجراح، فقد ظل فؤادها متعلقا بمحمد السهلي حتى نهايته المأساوية. لينتهي إلى الفوز بالهباء المنثور في الجبل، بعد فورة نضال غير محسوبة العواقب، فقد على إثرها مصدر رزقه بالوكالة البريدية بعد إعفائه من طرف الإدارة. حيث عاد به شريط الذكريات البائسة إلى أيام البطالة والعطالة وما يعني ذلك من منتظر مأساوي بدرك السهل الأسفل من جديد. يقول في ص 222 « وإلى جواره ( المنجم ) بدا الجبل أعلى، الجبل الذي تحدى شامخا من اعتلاه كمن اعتلى حذوة فرس جامح قبل أن يطوّح بالراكب مهشما مثلي ومثل ياسمين أو مثل السهلي جثة هامدة.».
إذا كانت الجغرافيا حاسمة في تشكيل هويات الشخصيات ومآسيهم على امتداد أحداث الرواية. فإن المرجع المسرحي خلخل هوية النسق السردي للرواية، وجعل لغتها تخاتل وتلوذ بالقارئ إلى عوالم المسرح وأنساق الصراع الدرامي الموجهة للحكي في النص. حيث جعل السارد من فصول الرواية لوحات مشهدية وإشارات عبارة عن بورتريهات للشخصيات، وحَوَّلَ الحكي بين القوى الفاعلة بما في ذلك الشخوص إلى نسيج للتشخيص مطعّم بمعجم يمتح من الحكي ( الركح، الخشبة، الستار…) وتوظيف حوارات درامية، ومقاطع تشخيصية أثناء السرد في قوله في ص 60: « أواحد النهار ( أغمض عينيه ثم فتحها عاصرا دمعا غزيرا) توقف المعدن… ( يبتسم) بقينا حنا فيها خدمة بلا خدمة ( يصمت ثم يواصل).».
بل إن الراوي أسند حوارات حكاية مشهدية، تستعيد بها الشخصيات أدوار مسرحية وهي تحكي في الرواية بقوله في ص 66 : « طويت المكتوب لأتابع موحى الدرامي، وقد أجهد نفسه قبل الاندماج في الدور بتسخينات عنيفة، أتبعها استنشاقا وزفيرا، ثم ختمها بقفزة كادت أن تهوي به في الممر الفاصل بين المقاعد وحافة الخشبة…». بل إن السارد اعتمد على تشخيص مقاطع من مسرحية انتجون لبريشت في مسرود الرواية. إضافة إلى اعتماده على استشهادات تمتح من معين المسرح في قوله في ص62:» كما قال كارسيا ماركيز( ولم يبق سوى ذلك الأسى الغريب الذي لا يعرفه سوى كناسي المسرح بعد خروج آخر الممثلين).»، مع اعتماد تقنيات الوصف المتعالق مع المشاهد المسرحية سواء للمكان أو الشخصيات في الصفحة نفسها يقول : « فنضح حكيه بتفاصيل المكان وبحسرات دفينة أفشاها تنهيد متواتر عند دنوه من بوابة مقوسة، تطل من جانبها رسوم محفورة على جبص باهت..».
كما أن السارد لم يفوت الفرصة في الإشارة إلى ماضي البلدة مع العروض المسرحية، حيث كان المسرح شامخا وبجواره قاعة السينما، بعدما استحالت قاعة العرض المسرحي إلى مجرد أطلال يبكيها البطل مع السارد، ويستعيد معها الحنين إلى هذا الماضي التليد بعد أن تفسّخ كل شيء إلى ألم مضمخ بعزلة قاتلة. لقد انفتح النص على المسرح إلى درجة مسرحة الرواية، في نص جامع ينسج خيوط أحداثه من المسرح إلى الرواية، ومنها إلى المسرح في مرونة حوارية سلسة عكس الكاتب من خلالها رؤيته الأصيلة لمفهوم المسرح باعتباره نصا حياتيا بامتياز. فمسرح الحياة هو مسرح الرواية بكل أحداثها، وكأنه عرض على خشبة الحياة بين الخيال والواقع في نصية ثرية تمتح ليس من المسرح فقط، بل من مرجعية فكرية وثقافية تفاعلية مع نصوص متنوعة أخرى تلقح جنس الرواية ( عنَّ لي سؤال السارد في قصص بوكماخ الذي انتظر طويلا بعد شتاء كئيب – فقفزت محاكيا زوربا- سارحا مع ثلج شتاء جورج تراكل .. في ص: 90 – 91- 93 ). وكأن النص يحاكي تجربة إميل زولا في «جيرمينال».
لقد راهن الكاتب في بناء متخيله على لغة سردية تمتح من معجم اللغة العربية ومن العامية للاقتراب من واقع الشخوص والأحداث. بانيا بذلك متنا حكائيا ومحاورا نصا هجينا بمرجعية تمتح بالدرجة الأولى من جنس المسرح، مكسّرا بذلك فكرة استقلالية الأجناس وخصوصيتها الأنماطية، دون أن ينفرط عقد السرد الروائي من بين يديه. وذلك في توازٍ من نظيمة تمتح من الجغرافيا في بناء هوية الأفضية والأحداث وكدا الشخصيات بما يطابق الأسماء بالمسميات بين الجبل والسهل وبين العلوية ودركها الأسفل.
المراجع :
رواية «حين يزهر اللوز»، نشر دار الفاصلة، طنجة، 2020
1ـ بول ريكور، «التاريخ والذاكرة»، مقال ضمن الكتابة التاريخية، ترجمة محمد حبيدة، ، ط1، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2015، من ص 92 ص 115.

(°) كاتب وشاعر
مغربي


الكاتب : محمد رفيق (°)

  

بتاريخ : 29/01/2021