سؤال المعرفة والأخلاق وتصارع الهويات

 

1 ـ من وهم المعرفة إلى مجتمع العقل؟
(البراطيل تنصر الأباطيل) ـ الزمخشري ـ
كل فرد مجتمعي مطالب بتحصيل معارف جديدة، تنهض على المشاركة والتأثير، على أن تكون أدوات هذا التحصيل ناظمة لمجموعة المؤشرات والعناصر المبدعة، بدلا من مجرد التلهية والتهويم.
كانت أول مبدئية، تقوم عليها منظومة مجتمع المعرفة، هي أولوية تحفيز وإدماج الفرد في مجتمع العقل، واستثمار قواه وإمكاناته للمشاركة القصدية، ومحاولة تقديمه كمركز بديل وبؤرة ضوء متاخمة للحاجة والضرورة.
من هنا، تبرز المعرفة الجمعية، كبوصلة ترتهن عليها أجزاء المعرفة المتعددة والمختلفة، بصفتها سيرورة متوافقا عليها. ومنها تنبع الرغبة في تغيير الملاذات، أو الأهداف المرتجاة، كما هو الشأن بالنسبة، لاعتبار فرضية «عدم الاتفاق بشكل كلي وحصري على تلك المعرفة الجماعية»، ما يفرض منهجيا «التفكير في المتفقات وترك الاختلافات الجانبية»، هروبا من انهيار تقسيم العمل المعرفي الذي تعوزه الوضعية.
استعمل س سلومان وف. فيرنباخ، في كتابهما العميق «وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟»، مفهوم «استراتيجية توجيه النظر»، كحقل ألغام يناط به تحديد سمات انتقاء جودة المعلومات الفورية، وما تتطلبه من جهود فكرية وعقلانية لتوجيهها وتصنيفها وإدراك أبعادها وتحولاتها. وفي سياق قياس منافذ هذه الاستراتيجية وأبنيتها الدلالية والمعرفية، يقاربان سؤال الزمن وسرعته، والتقائية ذلك مع فكرة التحول، حيث يعتمد نظرهما على تأسيس حدود هذا النظر بالقول «لمعرفة اتجاه نظرك، كل ما عليك فعله، معرفة أين هي الأرض، وإلى أين أنت تنظر؟»، علاوة على أنه «لمعرفة السرعة التي يتغير بها اتجاه نظرك، كل ما تحتاج معرفته هو مدى سرعة تحرك رأسك؟».
هناك أبعاد فلسفية كبرى، تجعل من تأطير هذه المسألة المثيرة، أمرا متصلا بما يصفانه ب»حوسبة القطع»، مستدركين أن من بين أهم سبل تواجدنا، هو استعمالنا العالم من أجل إجراء الحوسبة، للتنقل عبر المساحات الضيقة.
ولا يستدعي المثال الأخير لنظرية «وهم المعرفة»، أي جهد للوصول إلى معنى ارتباط «حقل المعرفة» بالطريقة التي ننظر بها إلى مكنوناته الظاهرة، فهي الأقرب إلى واقع «علاقة الضوء الملتقط بالأعين المجردة بسطح الأشياء»، كمثل «انعكاس ذلك على المحيط أثناء الحركة». وهو ما يؤشر على استنتاج فواعل جديدة في «مجتمع المعرفة» وعقلها، مما يشي بتدفق المعلومات الجنونية المتلاطمة، عبر وسائل الإعلام ووسائطها الاجتماعية، بشكل لا يخضع لقواعد محددة، ويرتهن على مغازلتها لأنساق جماهيرية متغلغلة، تبحث عن تقاليد وأنماط غير مسبوقة تتجذر بشكل أبطأ، وتحفر بقسوة، في بناء نموذج قيمي خارج الأخلاق.
هل معنى ذلك، أن المعرفة الآن مشروطة بإعادة معرفة فهم التكنولوجيا والتحكم فيها؟
ربما، لكن قطعا، لا يمكن التعويل على تحقيق الامتلاء المعرفي، وإغراءاته في الوصول إلى كمية المعلومات وتشعباتها، دون تطوير المواقف بإزاء حضورها في المجتمع وانتشارها بين الناس، بل وتأثيرها في المسار العام للحياة والعيش المشترك. فالخطر القادم، يظل قائما، ما دام «الذكاء المعلوماتي الفائق والشرير»، يراكم استحقاقاته الخاصة و»اللاأخلاقية» على حساب البشرية، إذ إن «الآلات التي لا تمتلك القدرة البشرية الأساسية، على مشاركة الانتباه والأهداف، لن تكون قادرة أبدا على قراءة أذهاننا، وعلى أن تفوقنا ذكاء، لأنها لن تكون قادرة حتى على فهمنا؟»*.
ستيفن سلومان وفيليب فيرنباخ (وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟» ترجمة، أحمد م احمد ، مبادرة ترجم السعودية 2022 / ص 163

2 ـ الذكاء الاصطناعي وسؤال الهوية ..
«نعم، يضغط الناس على الزناد – لكن البنادق هي أداة الموت. السيطرة على السلاح ضروري، والتأخير يعني المزيد من الموت «. ـ إليوت سبيتزر ـ
«بكل الوسائل خرق القواعد … « ـ روبرت برينجهيرست ـ
السؤال مخيف حقا، ويستدعي ضبط وتحوير أجهزة مفاهيمية ثقيلة، على الرغم من وجودها الافتراضي اليومي، ضمن العلاقات التواصلية الشاسعة بين المتفاعلين والمؤثرين وخلافهم.
المفهوم الإشكالي لـ»الذكاء الاصطناعي»، يتاخم في مدلوله الواقعي والهوياتي، شكل تدبير «إعلام الجمهور» الموسوم بصفات التثقيف والترفيه، متجاوزا بذلك كلاسيكية التواصل المبني على مجال التأثير المجتمعي، وتحولاته التقنية والفنية، وحمولاته السياسية والإيديولوجية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
هذا البعد المركب لظاهرة بروز الذكاء الاصطناعي، في باراديجمات الإعلام ووسائط الميديا، يبرر التركيز الأفقي على ثورة العقل الإعلامي وانحيازه الجديد لنسق مغاير ومتناغم واكتشافات المعرفة وحاجيات المجتمع.
يعتني خبراء المجال اليوم، بكيفية إعادة مفهوم الذكاء الاصطناعي، تعريف النهج الحديث لإدارة المحتوى، وبالضبط مشكلة ضبط استخدام الذكاء الاصطناعي في الإدارة المسؤولة لوسائل التواصل الاجتماعي ، معتقدين أن ذلك سيؤثر بشكل عميق في حياة المستخدمين وارتباطاتهم بالرؤى الحديثة لقطاع الإعلام وتأثيراته على الثقافة والوعي.
وعند رصد أدوات الإنتاج التقني والمعلوماتي، على سبيل استدراج بعض مصادر الإعلام وامتداداته في حياة المواطنين، انطلاقا من الأجهزة المستخدمة إلى فضاءات الشوارع والأماكن العمومية، يظهر أن التأثير الملموس والحتمي على المجتمع المعاصر أضحى أكثر تعقيدا ، بعد أن شكل الذكاء الاصطناعي عموده الفقري وأحد الأصول الأساسية التي تتحكم في هذا التأثير وتحافظ على وسائل الإعلام .
وزاد من تغول هذا التأثير، الإعلان الرسمي عن تأسيس نموذج GPT-3، الذي ساهم في التشكيك في وجود نظام قيمي للذكاء الاصطناعي نفسه، الشيء الذي تضمن حدوث فوارق غير طبيعية في قياس هذه الأخلاقيات، ومدى مواءمتها للممارسة الإعلامية والحس النقدي السليم؟.
هناك دعوات ملحة للاحتفاظ بضرورة السيطرة على المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي. وهذا أمر مستحيل، إن لم نقل معجزة، إذ إن ارتدادات ذلك على وسطاء المحتوى وصناعه، يخالف في التصور العام وجود تباعدات في استعمال خصوصيات الذكاء الاصطناعي، على مستوى السرد الآلي مثلا، وانحساره في بيئة تفاعلية مندمجة بآفاق متعددة، مثل ما يمكن حدوثه في الكتابة والتكنولوجيا والألعاب على وجه خاص.
علاوة على ذلك، يطرح مشكل استلهام نصوص سردية من روايات وقصص رقمية مبتكرة بمساعدة الذكاء الاصطناعي، وتمكين تجزئة الصوت والتجارب التفاعلية والافتراضية متعددة الوسائط بالسبب ذاته، في مرحلة إنتاج المحتوى، (يطرح) تأويل البعد الأخلاقي والقيمي في الإعلام الحديث، وتطبيعه الشاذ والانتقادي لفواعل التطوير وتبرير المحتوى المنظور ، وهو ما يطرح فعلا قدرة الذكاء الاصطناعي على «نمذجة» سلوك الإعلامي ومهاراته وحالته العاطفية. واستتباعا، تفكيك بنية الدال الأخلاقي في أسلوب النشر واختيار التيمات الأكثر تداولا وتفاعلا.
صحيح أنه أصبح انتقال الذكاء الاصطناعي، من تدبير قوة الحضور كأداة لتحقيق محتوى واع بالقيمة والاعتبار، على مستوى وسائل الإعلام الإخبارية، على اعتبار تسهيل التحقق من الوقائع والأحداث المتوصل بها، بالاضافة إلى إمكانيات التحليل والفحص المتقاطع لمصادر المعلومات. لكن بموازاة ذلك، هناك أيضا توتير إبدالات المحتوى، وما تستثمر بإزائها علاقات التقابل بين دوال التزييف والبحث عن الحقيقة، وأيضا تحليل الشبكة الاجتماعية (اكتشاف المعلومات المضللة)، والتوليد الآلي لملخصات إخبارية موثوقة.
ويعتبر هذا النهج المحدد لأدوار وخلفيات الذكاء الاصطناعي، مشتلا لتوجيه ملفات تعريف المستخدم وأنظمة التوصية المدرجة ، والحلول الذكية لتقييم مصداقية المعلومات في الأخبار، والأدوات لتحسين جودة الصحافة التشاركية. وهو ما يسهم في تمكين آليات تجميع الأخبار الآلي مع تلخيصها وإعادة صياغتها بالشكل المطلوب، وجها مركزيا في صناعة الإعلام الإخباري المدعوم بالذكاء الاصطناعي.
إن انتشار المعلومات المضللة والتطرف والكراهية والعنف عبر الإنترنت، يكرس لدى الجمهور وصناعة الأخبار وقطاع التكنولوجيا، نوعا من التصادي مع أخلاقيات العيش المشترك والتلقي الآمن للمعلومات، ينتج عن ذلك كله، صراع وجود وتفكيك خصوصية المجتمعات، واندثار آثار الثقافة والأعراف على قاعدة تاريخ البناء الإنساني والعمراني.
ورغم تشكل معالم فلسفات مفارقة لمؤسسات صحفية تعمل على ابتداع أساليب ومبادئ متفق عليها، تنحو إلى البحث عن الحقيقة والدقة والموضوعية والحياد والتسامح والمسؤولية أمام قرائها ومهتمي الميدان. إلا أن أنظمة احترام الأخلاقيات في الإعلام لازالت تؤمن بمبدأ «إلحاق أقل ضرر»، هروبا أو تدافعا أو قطعا للطريق، وهو ما يبرز كعقبة كأداء لتغول الغامض في فائض «الذكاء الاصطناعي» ومخلفاته التي تعني من ضمن ما تعنيه، تدمير الذات وتشويه صورتها، في مقابل تدوير وجودها كصفة مغلقة وليس كوحدة مستقلة.
3 ـ عَـــولــمٍيــات مُـتــلقِّــطة
«في التحليل النهائي، يجب أن تتماسك الوسائل والغايات. لأن الغاية موجودة مسبقًا في الوسائل، وفي النهاية، لا يمكن للوسائل الهدامة أن تحقق غايات بناءة» ـ مارتن لوثر كينج الابن ـ
انقلبت مفاهيم الاتصال والتواصل اليوم، وأضحت تشكل مأزقا سوسيولوجيا بالغ التعقيد، خصوصا في ما يتعلق بأنساق ضبط العلاقات الملتبسة، التي تتأطر بإزائها أدوات عولمية جديدة، أوثقت حبال تأثيراتها على أنماط الحياة وسلوكيات البشر.
وإذا كانت هذه المفاهيم الواعية بثقافة الاتصال والتواصل تمثل نوعا من التمكين لاحتلال أحواز العوالم الحديثة المحيطة بعولميات الشركات والاقتصادات والثقافات والتكنولوجيا، وجزء من صناعة كيانات استهلاكية بديلة، فإن استعارة العصر الرقمي وفق وضعيات الاتصال تلك، تشكل نوعا من الصراع الإنساني (conflit humain)، الذي تذوب فيه ومن خلاله قيم المجتمعات، دون أن تفقد عصب تفاعلها وتشاركيتها، وإن بطرق محدودة وغير مندمجة.
لقد اشتبكت المرائي العولمية بما يعكس نوعا من البحث عن هويات كونية متلاطمة، في أتون تحطيم الأعباء التي ما فتئت تكرسها أثلام الحضارات وأيديولوجياتها، حيث صارت القرية المربوطة بأسلاك لا مرئية، هي جوهر تلك المرائي، ونبضها الذي تقوم عليه الكينونة والمصير. ثم استبدلت الاتصالات الكلاسيكية العتيقة بوسائل تقنية أكثر حضورا وتأثيرا وانكشافا وسرعة وتوسعا وراهنية. ما أسهم بالانفتاح تواصلا مع الناس في جميع أنحاء العالم، بأقل التكاليف، حتى دون أن نحافظ أحيانا على إحساسنا بالخصوصية.
هذا ما يمكن استيعابه عند الحديث عن أسرار العولمة وآثارها على وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا يعني، من ضمن ما يعنيه، أن الأصدقاء المحتملين الجائلين عبر الفضاء الأزرق، يمكنهم التعايش معك عبر الإنترنت بنسبة 28٪، كما أنه يمكن أن تزداد فرصك في العيش بالقرب منهم، عن طريق مشاركتك نفس الاهتمامات إلى أكثر من 50٪، وفق دراسات ميدانية موثقة. وهو ما تترجمه بالفعل، الرؤية التي تقوم عليها اتصالاتنا على خريطة بناءً على المواقع الجغرافية، التي تمكننا بالفعل من الاستفادة من قوة الشبكات على الصعيدين الظاهري والمادي، وذلك من خلال التطبيقات المتطورة الجديدة التي تستعمل في هذا الإطار.
وعلى الرغم من أن العولمة، في عمق حضورها الثقافي والنفسي، لا تمثل البديل الواقعي والمعرفي للخصوصية المجتمعية والقيمية، فإنه وللأسف الشديد أعادت توسيع الفجوة بين الأنماط الثقافية والاجتماعية لمختلف الشعوب والحضارات، وهو ما يطرح مشكلة تغول وسائل التواصل الاجتماعي وفشلها الذريع في سد الفجوات بين البلدان.
وبغض النظر عن اقتدارية العولمة في الحصول على معلومات حول الثقافات المختلفة من خلال التواصل مع أشخاص من جميع أنحاء العالم، عبر جسر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ما عزز دورها في الانفتاح على الثقافات والشعوب، وتقليل سلبيات الصور النمطية للثقافات الأخرى ، فإن تمة ما يتسلل من خلال الشقوق، ويرهن القيم والأخلاق، علاوة على كميات المعلومات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي ، المتحيزة أو المضللة ، وهو ما يؤثر سلبا على مستوى الوعي والتحصين ضد الرداءة وفساد الذوق، والأخطار الناجمة عن أفعال وسلوكيات منبوذة، كالتنمر والكراهية والجريمة والعنف. بالإضافة إلى التكيفات الشاذة بنطاق المشاركة المستمرة حد الإدمان، المؤدية إلى الاكتئاب وتدني احترام الذات.
وهناك دراسات في الميدان، تذهب إلى أن المشكلة تلك تزداد سوءًا عندما ترى مقدار الوقت الذي يقضيه المراهقون على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ما يقرب من نصفهم يتصفحون Facebook مرة واحدة على الأقل كل ساعة خلال ساعات الدراسة. يقضون حوالي 30 دقيقة من كل فصل في تصفح مواقع مثل Tumblr ومشاهدة مقاطع الفيديو على YouTube. وهو ما أكدته أرقام تقول إن 77٪ من هؤلاء المدمنين على الأنترنيت يقضون ست ساعات أو أكثر يوميًا في استخدامه في كل شيء من الألعاب إلى البحث، دون الاهتمام بالمحتوى الذي يستهلكونه أثناء التمرير، دون دراية بالعواقب التي تترتب على وضع الكثير من المعلومات الشخصية على الإنترنت، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالأطفال والمراهقين، ومن دون أي مراقبة أو تحفيز إيجابي أو مواكبة نفسية وثقافية. حتى إنه أصبح من الصعب على الآباء مراقبة سلوك أطفالهم بسبب الوصول غير المحدود الذي يأتي مع الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية.
هناك اتجاه فكري أوربي حديث، ينظر إلى العولمة كبنية أفقية متقاطعة، ترهن الوجود البشري بالسيطرة والقوة، والتركيز المباشر على الثروة على اعتبار التفاوتات الدولية بهذا الخصوص، إذ لا يمكن أن تنسجم والمواقع السيادية للعالم جنبًا إلى جنب. وهو ما يفرض بالضرورة تكثيف التبادلات الاقتصادية الدولية التي أصبحت ممكنة بفضل تقنيات الاتصال الجديدة وعملية التحلل، ثم إعادة تشكيل العلاقات بين المتفاعلين، وهو ما يصفونه تحديدا ب»العولمة المقنعة»، حتى إنه لم يعد البحث عن المبادئ العامة لتوجيه العمل الفردي وفكرة التنظيم الأخلاقي للمؤسسات بديهيًا. وهذا يمنحنا فرصة لإعادة قراءة «التناقضات الرأسمالية» كما هي ضمن نتاجات العولمة وثقافاتها المبثوثة، بعيدا عن بروبجاندا «العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان» كما يروج لها لدى الغرب. وهو ما يعبر عنه الفيلسوف الكندي دومينيك ديسروش بالقول إن «عبادة الأداء، والهوس بجعل وقت العمل مربحًا، والإدمان الإلكتروني، على سبيل المثال، يشهد على تقييم الإجراءات على حساب المحظورات، مما يزعج علاقاتنا الاجتماعية».
إذا كان من الممكن أن يؤدي الاقتصاد الافتراضي الجديد إلى الاعتقاد بأننا سننتشر بحرية أكبر في القرن الحادي والعشرين، فإن حجم خساراتنا الأخلاقية والثقافية سيكون ثقيلا وأليما، لأن عتبة انفلاتنا من بوتقة الخصوصية المجتمعية والثقافية، وتخلينا عن التقاليد والأعراف المنذورة للهوية والتاريخ، سيضعنا أمام مآزق استرداد الطريق الضائع، وهي قضايا مرتبطة بأبعادها العولمية بالعدالة الاجتماعية والفضيلة والأخلاق غير المنمطة والعقلانية المتنورة.
إن زمنا تتيه فيه كل هذه الوشائج الدامغة والمناقب السابغة، لن يكون بمقدوره الصمود في وجه الأرياح العصرية العاتية، حيث تعسر الحلول وتشقى به المحاذير والخطوب، وتشرد السياسات والتخرصات الواجمة المحصورة. على أنه ليس من مخرج سوى التشبث بحبل الله والتحوط بحواكم الحق دون مخالفة العدل. فالعولميات المتنطعات ترمي القشور لمزابل التاريخ، ولا يصح في نهاية المطاف إلا الصحيح.


الكاتب : مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

  

بتاريخ : 08/09/2023