سردية الجبل «ثورة الأيام الأربعة» للمغربي عبد الكريم جويطي نموذجا

 

«تسلّق الجبال وأخبرهم»
جون موير

بداءة، دعونا نتفق أن للأمكنة في العمل الروائي المتخيل مكانة لا يمكن تجازوها، فهي تحتوي الأحداث الشخصيات بأحلامها وأفراحها وأتراحها، ومن خلالها تتجسد» وحدة الأثر وتتشكل ملامح الرواية التي بها يتنزل العمل الروائي في سياق الأنساق الحافة به آن إبداعه وآن قراءته 1».
ومن هذه الأمكنة الموغلة في القدامة، نستحضر الجبل عنصرا طبيعيا ورامزا للأنفة والشموخ والأعالي ، فبالرغم من أهميته داخل وخارج العمل الأدبي، فإنه ظل قليل الحضور ولا يشفي الغليل، سواء في المقاربات النقدية أو البحوث الجامعية والدراسات الأكاديمية حتى .
وعطفا على ما سبق، ارتأينا أن نخصص هذه القراءة العاشقة لدلالات الجبل في رواية « ثورة الأيام الأربعة « الصادرة عن المركز الثقافي العربي للروائي المغربي عبدالكريم جويطي ، بعد روايته الأولى « ليل الشمس « الحائزة على جائزةَ اتحاد كُتّاب المغرب للأدباء الشباب، ف»زغاريد الموت»، و»رمّان المجانين»، و «زهرة الموريلا الصفراء» ، ثم «كتيبة الخراب» ورواية «المغاربة»، التي كانت ضِمن القائمة الطويلة للبوكر وحازت جائزة المغرب للكتاب.
ولعل المقبل على الدفة الأولى لغلاف « ثورة الأيام الأربعة « ، يلاحظ أن عنوانها الرئيسي جاء جملة إضافية تتكون من «ثورة « و»الأيام « ف» الأربعة «.
وهكذا، تكون « الثورة « مصدر ثار أي هاج واستطار غضبه ، وفعلا عنيفا نحو تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية تغييرا أساسيا، و»الأيام» تشكل أزمنة مِقدارُها من طُلوع الشمس إِلى غروبها، أما «الأربعة» فاسم عدد أصلي فوق الثلاثة ودون الخمسة.
وفي حال قراءة العنوان وربطه بالمتن الروائي، فإن المقصود ب»ثورة الأيام الأربعة « هو تلك الثورة التي قامت بها مجموعات مسلحة، صغيرة مستخدمة العنف في محاولة إسقاط النظام المخزني، ثم تأسيس نظام جديد وسلطة حاكمة جديدة في البلد :» نحن بصدد بناء طلائع الصدام الأولى مع عدونا الطبقي ورعاته الامبرياليين ولن ننجح في ذلك مالم نجعل جماهير العمال والفلاحين والرعاة وحشود الثوار تدرك أن العنف الثوري هو الحل « ص38.
وعليه، تحكي رواية «ثورة الأيام الأربعة» أحداث مارس 1973 بالمغرب، وخصوصا «كوموندو « بني ملال بوادي ايرس في الجبل، ومن أعضاء خليته الأساسيين «بومحند البزيوي، حماد الفكيكي، جيمس دين، الأستاذ، الفيتنامي، جاك بريل ، مول الشمعة ، مول الفاخر ، ر. ب. م ، كما كان يلقبهم السارد المشارك في هذه الوقائع الذي وجد نفسه متورطا في خضم ثورة مسلحة لا علم له بها ، والتي ستنتهي بالفشل لأن المشروع الثوري الذي جاءت به هذه المجموعات كان قافزا على الواقع، نحو رؤى غارقة في الأحلام، لتتبخر منذ الأول اليوم الأول ، ولتقبر بعد أربعة أيام عصيبة وواهمة .
وتبعا لهذا، يكون الجبل مكونا روائيا مثيرا للانتباه في العوالم السردية لـ «ثورة الأيام الأربعة» وتيمة رئيسية للحكي، وليس أدل على ذلك حضوره والإشارة إليه في أغلبية فصول المحكي الروائي، بدءا من القبض عليه في الجملة الأولى من الفصل الأول ، يقول السارد : «سمعنا طلقة رصاص تردد صداها في تجاويف الجبل وفجاجه» ص « 9، وانتهاء بالفصل الأخير من الرواية :»ومثلما يملأ الماء الحفر والشقوق بسرعة قبل أن يسيل، يملأ ليل الجبل الأودية قبل أن يصارع القمم» ص: « 377.
هذا الاستدعاء اللافت للجبل في الرواية، له ما يبرره، وليس حضورا مجانيا. فالجبل حاضر برمزيته في عاداتنا وتاريخنا الموغل في عراقته ، فهو أحد العناصر المرسومة في ذاكرة المقاومة المغربية ، لأنه رمز الشموخ والكبرياء والاستقلال وتعزيز البطولات، ونستدعي على سبيل المثال دور الجبل في مقاومة المستعمر الفرنسي الغاشم ، وجبل العياشي ، ومعركة بوغافر التي دارت في قمة جبل بوغافر بمنطقة آيت عطا ، ومعركة الهري في جبال الأطلس .
وبخصوص هذا الفضاء العالي الذي يخفي ذاكرة نفيسة من الأحداث التاريخية ، يقول عبدالكريم جويطي في أحد حواراته بصحيفة الشرق الأوسط ،بمناسبة صدور روايته « ثورة الأيام الأربعة : «لايمكن أن نفهم تاريخ ونفسية وردود فعل المغاربة دون استحضار الدور الذي لعبه الجبل، وهناك مادة روائية هائلة تدخرها الجبال المغربية».
وعليه، يتجاوز الجبل في « ثورة الأيام الأربعة « حدوده الجغرافية، ليصبح وعاء سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، يحتوي شخصيات تنجز في ما بينها وقائع وأنواعا من العلاقات المتباينة، أحيانا متعاونة وحميمية، وأحيانا أخرى متصارعة وعدوانية ، إذ لم يعد الجبل ذلك العلو الذي نتسلقه رغبة في التريض، أو رغبة في الراحة والاستجمام ، بل استطاع الكاتب أن يحوله إلى مسرح للأحداث المتباينة، وذاكرة للحكايات،ومن خلاله يصاغ المحكي الروائي ودلالته في الماضي والحاضر .
هكذا ، يعدو الجبل رمزا للصراع القائم في المجتمع المغربي بين السلطة ممثلة في الجماعة المسلحة، مقابل النظام المخزني، إذ هيأ الجبل كل الظروف لهذا « الكومندو»، لا سيما أن الفضاء العالي وكما اشرنا الى ذلك سابقا، كان مسرحا للصراعات والمعارك والثورات في تاريخ المغرب .
وتبعا لذلك، توصلنا إلى أن الجبل في الرواية يحمل دلالات سياسية يجسدها القاموس السياسي من قبيل :» الديمقراطية، الاشتراكية، عدونا الطبقي، تصفية حسابات ، التنظيم السري، الصدام، الكفاح المسلح ، قواعد حمراء، التنظيم الثوري، تحطيم العدو …» ، مما يعطي انطباعا عن فكرة الخلفية السياسية للجماعة الصغيرة التي تشير إلى ممارسة القوة والعنف والإكراه المادي ، المؤديين إلى العنف والقتل . نقرأ على لسان « مول الشمعة « بعد قتل القائد للكوميسير :»كان عليه أن لا يقتله ، لا ينبغي أن نبدأ الثورة بجريمة، أنا لم أكن متفقا، هذا للتاريخ» ص82.
هكذا ، وباستكناهنا لطبيعة الجبل في الرواية، نلفيه رمزا للصراع القائم في المجتمع المغربي بين السلطة ممثلة في الجماعة المسلحة، مقابل النظام المخزني، إذ هيأ الجبل كل الظروف لهذا « الكومندو « ، لا سيما أن الفضاء العالي وكما أشرنا الى ذلك سابقا كان تاريخيا مسرحا للصراعات والمعارك والثورات في تاريخ المغرب .
وأمام هذا الخطاب العنيف لم يعد المكان أليفا، بل إلحاق التدمير بالأشخاص والممتلكات و»مكانا للكراهية والصراع « كما يذهب إلى ذلك باشلار، وفي مقابل هذا العنف الثوري الواهم تجاه الآخر المختلف ، نتعثر بالعهارة السياسية للخونة في الماضي، نقرأ على لسان « تودة « صاحبة الماخور :» لن أحدثك عن البارود الذي لعلع بين الباشوات والقواد من اجل تمضية ليلة واحدة معي ولا عن ابن الصدر الأعظم الذي اختطفني شهورا بقصرهم في الرباط وكان يقبل هذه الرجل ) ص 115.
وإضافة إلى ذلك، يرمز الجبل في الرواية إلى دلالات اجتماعية أراد الكاتب أن يمررها للقارئ من خلال الشخصيات والأحداث المحكية، حيث يطالعنا البعد الاجتماعي من خلال ما صوره السارد المشارك من صور ومشاهد، تعكس الأنفة و البساطة والدونية والحرمان ، في أحضان هذا الفضاء الذي ينتصب عاليا في الهامش.
يطالعنا البعد الاجتماعي في ما يفرزه التفقير وواقع الحال في الجبل ، من انتشار للدعارة والمواخير: «الصباحات سيئة في المواخير لأن ما تراه يشبه مناظر ساحة معركة بعد صمت المدافع والبنادق، دخان وأنين وتصدع ووهن وجثت وأشلاء مرمية هنا وهناك « ص99، إضافة إلى ما يفرزه من جلد وغموض ولغم أبناء الجبل القابلين للانفجار في أية لحظة: «هذا كل ما تعلمته من الجبل: الصبر والتخفي والانتظار، لكن الصامت الحامد حين يقرر أن يقوم بفعل ما، يصير كالرعد أو السيل» ص 129.
وتبعا للبعد الاجتماعي في الجبل ، ترسم الرواية صورا إيجابية للمرأة الجبلية ومشاركتها في تحمل دورها الاجتماعي :» بعضهن أخرجن من القفة صوفا وبدأن يغزلنه أو حبوبا ، قد تكون عدسا أو حلبة أو كمونا « ص 254 ، كما يرکز السرد العالي في الرواية على وصف المظاهر الاقتصادية لساكنة الجبل التي تظل مقتصرة على الرعي والخبرة في تربية المواشي :»يتقدمون كجبال صغيرة متحركة يسوقون معزهم الصاخب إلى السوق الأسبوعي، يخرج الرجال الملغزون من الضباب الذي يلف الجبل في موكب الشموخ والغموض والصخب « ص20
ولأن الجبل مكان مفتوح ومتعال، فلم يكن اعتباطا الإشارة إليه اختيارا لممارسة الكرامة والطقوس الصوفية، لما له حمولة رمزية ودلالية في تجربة شخصيات الكرامة تجاه الأعلى، أي أن علاقة الولي بهذا المكان تمثل ثنائية الأسفل/ الأعلى .
تجتلب الرواية مجموعة الأشكال التعبيرية الأدبية وشبه الأدبية :
الشعر – الأغنية كما في الملفوظ الغنائي التالي لإبراهيم العلمي:
« ياناسي
ياناسي العهد
نسيتيني حرام عليك
وحلفت عمرك ما تخون
وخا حلفتي جاو قالوا لي عليك «
استضافة الخطاب التاريخي الذي ينحو صوب التصوير ، لما ارتكبه المستعمر الفرنسي الغاشم في الأعالي ، من تعنيف وتقتيل في حق ساكنة قرية «تيفرت» الصغيرة والقابعة في الأطلس الكبير:» حاصرت فرنسا تيفرت عشرين يوما، ضربت الاطفال والنساء والماعز والبغال بالمدافع والطائرات ليل نهار ،) ص216.
خرق صفاء اللغة باستثمار اللسان الفرنسي :» Allez Les Vert Attaquez» والصيغ الشفوية العربية «ياك ياولد الحرام»، والأمازيغية :» ماتريت»، ومن ثم ، مما يفسح المجال لتحرر اللغة « من عقد البلاغة العربية التقليدية المنشدة إلى الخطاب القومي حول اللغة الواحدة والوحيدة « ص95.
استثمار اللغة السياسية المتغذية من المرجعيات الاشتراكية الثورية ، وتشخصها حوارات أعضاء «الكوموندو»، وباستقرائها يمكن أن نستل جمالية شعرنتها وابتعادها عن اللغة التقريرية والمباشرة .
وكل هذا التبنين الجمالي الذي تستدعيه أبعاد الحكي التخييلي، من شأنه تعزيز انفتاح الرواية، وإضفاء سمة التركيب اللعبية، وإثراء التعدد اللغوي للخطاب وبنيته الحوارية، ومن ترصيعها بقصد إحداث لذة وجمالية التلقي .
ونخلص في النهاية الى أن رواية « الأيام الأربعة « لعبد الكريم جويطي، تقترح موضوعا كبيرا ظل مغيبا وحساسا في المتن الروائي المغربي، كما أنها ارتبطت بالجبل ومكنتنا من الاقتراب منه كفضاء إبداعي ظل نادر التناول ، سواء روائيا أو نقديا كما أسلفنا بالرغم من أنه جزء هام من جغرافيتنا ومعالمنا التاريخية يضم ومآسينا وأحلامنا وأمانينا وتهميشنا، وكثيرا من أحداثنا في الماضي والآن.
وهذا الحضور الفارع للجبل في الرواية بدا تأثيره بارزا حتى في طفولة السارد :» وهو يبتعد رأيتني طفلا في غبش الصبح أنتظر قرب المسرب النازل من الجبل والمار بالقرب من دارنا مرور الرجال الملثمين الذين لا ترى من وجوههم إلا أعين حادة « ص20.
وهذا يعني أن الكاتب لم يسقط من عل في الجبل، بل اقتحمه عن ذكريات رابضة وموشومة في الذاكرة، وعن خلفية معرفية مما جعله ساردا بارعا للأعالي .
وذلكم هو عبد الكريم جويطي «يفاجئنا كل مرة بطارف وجديد من عطائه وإبداعه، مؤكدا وموطدا كل مرة صدق ولائه ووفائه للسرد الحكائي، سواء أكان طويلا أم قصيرا، ملتزما بقواعد السرد وطقوسه الأجناسية المعروفة، أم متحررا منها « .


الكاتب : عبد الله المتقي

  

بتاريخ : 08/09/2023