سعيد عاهد: أربعة عقود من الصداقة

في الرابع من أكتوبر الجاري بعث لي سعيد دعوة لحضور هذا اللقاء وتقديم شهادة بحقه ..
واعترف أن الثلاثة أسابيع بين الدعوة وهذا اللقاء، لم يسعفني زمنها لأجد متسع وقت، فسحة أجلس خلالها ورفيقي فنجان قهوة أكتب فيه شهادة تحية لمسار صداقة انطلق قطارها قبل أكثر من أربعة عقود ..
ففي السابع من أكتوبر، منذ السابع من أكتوبر تراكم عجز افتقدت معه شهية الكتابة ..وانتابني شعور بأن شهادتي لن توفي سعيد حقه وهو رفيق درب متعدد المسارات والمحطات ..
منذ السابع من أكتوبر، وبالتأكيد شأني شأنكم وأنا أستهلك آلاف الصور لحلقة جديدة من مسلسل دشنه وعد يحمل اسم بلفور صدر قبل أكثر من قرن .. حلقة هي عدوان صهيوني همجي جديد يطال أبناء فلسطين بقطاع غزة ..في كل دقيقة غارة وفي كل غارة مدنيون، أطفالا ونساء، تنهار على رؤوسهم منازلهم .في كل غارة تتحول أجسادهم إلى أشلاء …
وأنت الشاعر يا سعيد تزرع في القصيدة قوة تعبيرها وجمالية إبداعها . لم أجد مقطعا لشاعر أصف به الحلقة الجديدة من مسلسل هذه الهمجية الصهيونية المدعومة بشكل مطلق من طرف أمريكا ، إلا هذا المقطع لمحمود درويش :
«اذا سألوك عن غزة قل لهم بها شهيد ، يسعفه شهيد ويصوره شهيد ويودعه شهيد ، ويصلي عليه شهيد».
في مسار علاقتنا يا سعيد كانت هناك حلقات من هذا المسلسل شهدناها خلال الأربعة عقود الماضية .
عرفتك وحرب لبنان مستعرة تستهدف فصائل مقاومة هذا الشعب .
وأنت الشاعر ..
سنتها لا زال أحمد العربي يصف لنا أهوال تل الزعتر وصمود أهله . ويؤكد لنا أنه :
«…من الخليج الى المحيط، من المحيط الى الخليج
كانوا يُعدُّون له الجنازةَ
وانتخاب المقصلةْ…»
وكان هذا الأحمد العنقاء يصرخ بصمود :
«أَنا أحمدُ العربيُّ – فليأتِ الحصار
جسدي هو الأسوار – فليأت الحصار
وأنا حدود النار – فليأت الحصار
وأنا أحاصركم
أحاصركم».
وهاهو أحمد لا زال محاصرا يقاوم بصمود وبسالة حصاره .
وها هو هذا العالم الممتد من المحيط الى الخليج لايزال عاجزا عن فك الحصار عن أحمد .
عرفتك والاجتياح الإسرائيلي للبنان في أيامه الأولى ..ونحن نخطو الأشهر الأولى لعلاقتنا، اقترفت إسرائيل مذبحة صبرا وشاتيلا ..
وأنت الشاعر وكأني بمديح الظل العالي بل إنها منقوشة في الذاكرة:
«صبرا بقايا الكفِّ في جسدٍ قتيلٍ
ودِّعتْ فرسانها وزمانها
واستسلماْ للنوم من تعبٍ ومن عَرَبٍ رَمَوْها خلفهم».
عرفتك ذات نشاط في بداية ثمانينيات القرن الماضي بمناسبة الذكرى الفضية لتأسيس حركة الطفولة الشعبية، وكنت أنت عضوا في توأمها الجمعية المغربية لتربية الشبيبة ..ففي أنشطة هاتين الجمعيتين رددنا قصائد درويش وقعبور وأغاني فيروز وأميمة الخليل ومارسيل والشيخ إمام وفؤاد نجم وأناشيد الثورة الفلسطينية…
في أنشطة هاتين الجمعيتين، كانت فلسطين أبرز أركان أنشطتنا، بل من فرائض الأسابيع الثقافية التي كانت تنظمها فروعنا ..عروض سينمائية ومحاضرات خصوصا لصديقنا الراحل واصف منصور الذي جاب ربوع المغرب مدينة مدينة، وقرية قرية …
وأنت الجمعوي يا سعيد الذي أكدت ذات مناسبة «أن تعميق العمل المشترك بين جمعيتي، لاميج والطفولة ، تنتميان لنفس العائلة، هو وفاء لأحد رموز الحركة الوطنية الشهيد المهدي بنبركة الذي أسس هاتين الجمعيتين».
نحن معا ننتمي لجيل تنفس في الجامعة في المسيرات في الجمعيات الجادة في المناسبات الوطنية والعربية، شعارات نصرة فلسطين.
وأنت الطفل الذي كنته ؛
تكتب شهادتك بطلب مني في تكريم أحد منارات العمل التربوي الفقيد الطيبي بنعمر . خمس صور ترسم خلالها أجواء صرختك الأولى .. عوالم طفولتك .. وتؤكد فيها ارتباطك بالمكان بالمجال ..وهوما استفضت فيه في محكياتك «قصة حب دكالية».
الارتباط بالأرض ارتباط بالهوية.. والاستشهاد على ثراها وفاء لهذه الهوية .
هاهم أبناء فلسطين أبناء غزة وأطفالها يعانقون الأرض هوية فلسطينيتهم ..هاهم وكأنهم بل إنهم يخطون بدمهم على صفحات الأنقاض والدمار والغبار قصص حب غزاوية ..يكتبون أسماءهم على أياديهم حتى يتم التعرف عليهم وهم شهداء ..يكتبون وصاياهم يؤكدون فيها أنهم اختاروا أن يتوسدوا ثرى أرضهم على أن يرحلوا عنها .
مسار علاقتنا يا سعيد أبرز محطاته، فلسطينية ..
التحقت أنا بجريدة الاتحاد الاشتراكي ثلاث سنوات قبل الانتفاضة الأولى في سنة 1987.. والتحقت أنت كصحفي مهني بجريدة ليبراسيون ثلاث سنوات بعد اندلاع هذه الانتفاضة ..
وبهذين المنبرين كان الخط التحريري ينبني من بين ما ينبني عليه، مساندة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطنية ..
وأنت بمقر الجريدة بالرباط وأنا بالبيضاء كان التنسيق بيننا يوميا ..في قضايا وطنية وعربية ومن بينها القضية الفلسطينية ..
وأنت بمقر ليبراسيون بدار النشر المغربية كان التواصل في نفس القضايا مستمرا .وأزعم أنني كنت القناة الوحيدة لهذا التنسيق والتواصل ..
فلسطينيتنا ياسعيد تتبوأ الذاكرة والموقف والمبدأ والوفاء. لن أسترسل في طبع هذه الشهادة بكرونولوجيا القضية . بحلقات مسلسل القرن …
وأنت المترجم ياسعيد :
تطل على فلسطين من شرفة أخرى .تبرز فيها مسارات يهود مغاربة لم تغرهم الدعاية الصهيونية كي يصبحوا مستوطنين في أرض تم اغتصابها من شعبها ..
اختار سعيد وهو المهتم بتعريب الأثر المغربي اليهودي المكتوب خاصة باللغة الفرنسية، أن يترجم مؤلفات ينتصر فيها كتابها اليهود لمغربيتهم . أبرز مترجماته « طعم المربيات: طفولة يهودية في المغرب» لبول أوري أبيطبول. وقبلها « خياطو السلطان: مسار عائلة يهودية مغربية» لألبير ساسون. كما نشر سلسلة مقالات مترجمة للراحل شمعون ليفي « أبحاث في التاريخ والحضارة اليهوديين المغربيين»…
وأنت الصحفي الذي ينتصر للمهنة ولنبلها ..
ففي رسالة مفتوحة مشتركة بيني وبينك والصديق العزيز عبد الرزاق مصباح، رفعنا الصوت عاليا قبل ثلاث سنوات الى من يهمهم الامر :
«ان معاناة أصحاب مهنة المتاعب تفاقمت بشكل كبير…
وأن هناك هشاشة مادية للجسم الصحفي .. وان العقد المهني» الذي يربط العنصر البشري مع العديد من المنابر على اختلاف اشكالها، هو عقد لايضمن حقوقا ولا يوفر ضمانات . وكانت الاتفاقية الجماعية سقطت بالتقادم ولم تعد ملزمة حتى للمقاولات التي وقعت عليها .
هناك طفيليات وأعشاب ضارة تتواجد بالحقل الصحفي تلوث هواءه وتعيث في أرضه فسادا .تنتحل صفة المهنة وتنتهك أخلاقياتها …».
وأنت الصحفي
في كل الاحداث الكبرى وطنيا أو عربيا، كنا ننشئ فريق عمل بجريدة الاتحاد الاشتراكي لإنجاز تغطيات وملفات حول هذه الاحداث بحرص كبير على أن نقدم للقراء مواد متنوعة.كنت تحرص على ترجمة مقالات وحوارات ومقاربات لإغناء مضمون الجريدة ..كانت غزة خلال العشرين سنة الماضية إحدى أبرز محطات هذا الفريق قبل أن يحال أعضاؤه على التقاعد ..غزة التي تعرضت إلى حصار ظالم حولها الى أكبر سجن في تاريخ البشرية .. غزة التي تعيش الآن تحت لهب عدوان عسكري مدمر للإنسان والعمران أكثر مما تعرضت اليه في أعوام 2006 و2008 و2012 و2014.
أكثر من أربعة عقود من صداقتك، كنت الوفي الصادق الصدوق ..تعددت مجالاتنا المشتركة يا سعيد .. تعددت مساراتها .ولم أجد اليوم من مسار سوى أن أتحدث عن فلسطين . عن غزة التي يسعى الى تدميرها غزاة لا يقرأون كما قال الراحل سميح القاسم بمناسبة الانتفاضة الأولى في قصيدة رسالة الى هؤلاء الغزاة :
تقدموا تقدموا تقدموا أيها الغزاة
يموت منا الطفل والشيخ
ولا يستسلم
وتسقط الأم على أبنائها القتلى
ولا تستسلم
تقدموا
تقدموا
بناقلات جندكم
وراجمات حقدكم
وهددوا
وشردوا
ويتموا
وهدموا
لن تكسروا اعماقنا
لن تهزموا اشواقنا
نحن القضاء المبرم.
وأنت . أنت تقوووووول كلما نضجت العبارة وأينعت الكأس وبدت ملامح قصيدة مقالة ترجمة فكرة ..
وأنت تقوووول لنا أحبكم .نقووول لك كم نحبك أيها السعيد .

*شهادة قدمت في اللقاء الاحتفائي بالمبدع سعيد عاهد التي نظمتها جامعة المبدعين المغاربة يوم السبت 28 أكتوبر 2023


الكاتب : مصطفى العراقي

  

بتاريخ : 20/11/2023