سعيد يقطين المفكر والعالم

كيف تتحول طريق السفر إلى جامعة للعلم والإبداع ؟

 

الطريق من طنجة إلى شفشاون تأخذ بعدا غنياً في حوار شيق مع قامة علمية وأكاديمية مبدعة من طينة الباحث والأكاديمي المرموق الدكتور سعيد يقطين، وأنا أقطع المسافة بين تطوان وطنجة من أجل لقاء الاستاذ سعيد يقطين ومرافقته إلى شفشاون، كان لا بد لي أن أتطلع بشغف لمأدبة علمية خاصة وباذخة، قررت الإعداد لها من خلال تصفية الذهن عن مكدرات مواكبة للحياة اليومية مهنيا وغيرها .
بداية أسجل إدراكي أنه يستحيل رسم بورتريه منصف للدكتور سعيد يقطين، وذلك بالنظر إلى ما أنجزه أكاديميا وإبداعيا في مسار حافل تعددت فيه الأماكن والمواقف والإنجازات، لذلك تنضاف إلى مسؤولياتي إزاء ضيف شفشاون الكبير في رحلته إليها من طنجة، قادما إليها من الرباط عبر البراق، مسؤولية الاجتهاد في التأريخ لمناسبة خاصة ونادرة عبر هذه الأسطر.
والترحيب مهما كان راقياً وتلقائياً، يجبُ أن يكون بليغا ليتطابق من خلاله الكلام مع واقع المناسبة، لذلك كان لزاما علي الانتباه الجيد لتفاصيل اللقاء الأول من خلال الحرص على الكلام الذي كان بالفعل صادقا من جهتي، وأكثر بلاغة وصدقا وتلقائية من الدكتور سعيد، وجدته يتمتع برفعة العلماء في تواضعهم ، وأنا الذي رسمت له صورة مركبة في مخيلتي زاوجت بين ما رسمته من خلال قراءاتي عنه أو له، والصورة النمطية عن النخبة العلمية والأكاديمية ببلادنا، لتنطلق الرحلة الى شفشاون.
في عادتي أحترم العلماء والأدباء وأحرص على أن أقترب من طرق تفكيرهم خصوصاً وأنّهم نادرون في هذا المجتمع، كنت حريصا على توضيح بعض معالم الطرق الجديدة التي باتت تخترق ضواحي طنجة، وكنت في خضم ذلك أبحث عن خيط يجمع بين مهتم بقضايا الأدب، وقامة أدبية كبيرة، كان ضيفي بمكانته متقبلا لمحاولاتي إيجاد طبقة عقلية يمكن أن أرتقي من خلالها لألامس بها اهتماماته.
كنت أعرف أنني أمام رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة محمد الخامس، ومنسق لمجموعة البحث في التراث السردي الأندلسي المغربي، وأستاذ في عدة جامعات أوروبية وعربية لها تأثير كبير في المشهد الثقافي العربي والعالمي، لذلك كنت مستوعبا جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقي من الإخوة في جمعية أصدقاء المعتمد.
مسؤولية مرافقة صاحب «القراءة والتجربة» و»تحليل الخطاب الروائي» و»الرواية والتراث السردي» و» الفكر الأدبي العربي».
مسؤولية مصاحبة الحائز على عدة جوائز منها جائزة المغرب للكتاب سنتي 1989 و 1997 وجائزة عبد الحميد شومان للعلماء الشباب في العالم العربي سنة 1992، وجائزة اتحاد كتاب الانترنت العرب سنة 2008.
ولأن الدكتور سعيد يقطين يحمل معه حس المناضل الذي حمل لأمته مشعل التنوير من داخل الجامعة ومن خارجها عبر إسهاماته المتعددة، تعرفت عليه من خلال الصفحة الثقافية لجريدة أنوال، ارتأيت بداية أن أقدم ما أعتبره بعض ثمار النضال السياسي لليسار في مغرب السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، فما لم يدرك كلّه لا يجب أن يترك جله في تقديري المتواضع، والمغرب وإن لم يدرك المجتمع الحداثي التقدمي وفقا لما ناضل الدكتور يقطين عليه لسنوات، فإنه يشهد تغيرات على مستوى بعض البنيات الفوقية والتحتية والتي لولا تلك النضالات التي ترك عليها ضيف شفشاون بصماته، لما تحققت.
تحدثت مع الاكاديمي سعيد يقطين عن التغيرات العمرانية التي شهدتها طنجة، والإصلاحات التي عرفتها طرقها، والمدن الحديثة على مشارفها، ومناطقها الصناعية المتعددة، قبل التعريج على الحياة الجامعية وما تشهده اليوم من تغيرات.
كان الحديث عاديا وأحسست بضيفي ينزل إلى اهتمامات العالم بالقوة، وهو العالم بالفعل، الأمر الذي جعلني مرتاحا في الحديث معه، حتى انتهى الكلام بيننا إلى التراث العربي.
هنا كان لا بد لي أن أنصت بإمعان، لم يكن حديثي إلا أسئلة، وإن لم تأت في صيغة استفهام، كنت أحاول التفاعل من أجل استثارة علم غزير، علني أصحح من خلاله ما التبس في ذهني عن التراث العربي.
اكتشفت الجانب الموسوعي في هذا الهرم المغربي الذي تجاوز الإحاطة بتخصصه الأدبي في السرد ، إلى الإلمام الدقيق بمختلف الاختصاصات الأدبية التراثية، توقف في حديثه عند التراث الشفوي، كنت أحاول إبراز خصوصيته في ثقافتنا العربية لكني كنت أخجل من الحديث أمامه عن أمر أكاد أجهله، لذلك فضلت منهجية الاستفادة بقدر الإمكان من رؤيته الأكاديمية.
عندما قرر أخذ استراحة من الطريق، اقترحت عليه مقهى على الطريق بين شفشاون وتطوان، وقد راقه اختياري، أخذت مجدداً في تقديم شروح على معالم هذه الطريق، لنتوقف عند شيخ الصوفية مولاي عبد السّلام وصَلاتُه المشيشية، لألتقي معه مجددا في جانب من علمه الزاخر والحديث شيق عن نص مُكثف خلّد القطب الصوفي، تحدثنا عن الخلود في الأدب العربي، ومواقف طريفة جمعت بين السلطة السياسية في العصر الاموي والعباسي بشعراء كبار.
عند استئنافنا الطريق وصلت بنا الرحلة إلى الشعر الجاهلي، وبالفعل علمني الدكتور سعيد يقطين ما لم يسبق لي أن تعلمته عن لبيد وطرفة، وكان سبب الإتيان على ذكر الأخير ذكري لمطلع معلقته عندما لاحت أمامنا شفشاون كوشم في ظاهر اليد، سمعت منه بالفعل ما فتح لدي أفقا جديدة عن طرفة وفلسفته، وعن لبيد وأفكاره.
كانت رفقة جميلة حاولت إطالة زمنها ما استطعت، لكن طبيعة الأمور قضت بسرعة نهايتها، وأنا متحسر على عالم الدكتور سعيد يقطين الجميل بصبره وتفاعله، كان لزاما علي رغم تعدد انشغالاتي أن أحضر مساء لقاعة الندوات بمركب محمد السادس للثقافة والفنون حيث كان جمهور شفشاون على موعد مع محاضرة ضيف شفشاون الكبير، في موضوع «أنماط السرد العربي: مداخل وملاحظات» والتي قدم لها الناقد والأستاذ الجامعي الدكتور شرف الدين مجدولين، كان الحضور مهتما بما سيقول الرجل، وقد تعددت مشارب القاعة، إلا أن الانتباه في صمت وتركيز كان هو السائد.
شاعرية الحنين إلى اللقاءات الأولى بشفشاون هي ما مهد به الأستاذ سعيد لمحاضرته، حيث أكد على الطبيعة المؤسسة للفعل الثقافي والتي تضمن استمراريته واستمرارية الإطارات الثقافية ومنها «جمعية أصدقاء المعتمد»، وقد أرخ للفعل الثقافي بشفشاون من خلال الجمعية عندما كان يدعى لمناسبات ثقافية كان بعضها يلغى بسبب التضييق الذي كان يعرفه المغرب في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات.
أيضا أبرز ضيف شفشاون الكبير جانب التواضع العلمي في شخصيته عندما تحدث عن مرحلة الإعداد للمحاضرة، عبر التواصل مع الشاعر عبد الحق بن رحمون الذي طلب منه تحديد موضوع لها، حيث اعتبر الاستاذ يقطين ذلك استكتابا يحفز الباحث على الانشغال ببعض الموضوعات التي تشكل جزءا من اختصاصه أو قريبا منه أو بعيدة عنه، وكلما كان الباحث قريبا للتواصل وتجديد نفسه والانفتاح، مكنه ذلك من المساهمة في موضوعات متعددة، ويمكن ذلك الباحث من فتح نوافذ متعددة للبحث.
لقد أخذني هذا التأمل للبعد المنهجي الذي اختار به أكاديمي مرموق التقديم لمحاضرته، والذي يستشف منه الطبيعة الابداعية «للسرد الثقافي» المرتبط في تفاعليته بقوة اللحظة التي تصب في الاتجاهات المختلفة للمثقف الخاضع لضوابط البحث العلمي، ليتمكن من المزاوجة بين صرامة البحث العلمي، وقريحة الخلق التي يتحلى بها، وفي ذلك تطابق كامل بين رصيده الأكاديمي، ودوره الثقافي البارز في تعميم الانشغال الاكاديمي على المثقف المهتم، بما يفتح نوافذ متعددة الأبعاد للطرفين.
وبنفس التوجه المنهجي تطرق لطموح إخراج موسوعة السرد العربي، إذ بعد وصفه لتناول الرواية بالبحر اعتبر أن تناول التراث السردي العربي بالمحيطات، ووصف تخلفنا في الأدب الرقمي وتقدم الآخرين فيه، موضحاً ما يعنيه عنصر الزمن بخصوص هذا الأدب والذي يجعلنا في مرحلة ما قبل البداية.
يقطين كان يتحدث عن النوافذ المكونة للانشغالات المتعددة التي تختلف درجاتها بالنسبة له، والتي لمست من خلال كلامه أنها تصب في باب معرفي واحد يمكن أن يأخذ فروعا تحفظ الخصوصية الفنية له، إلا أن الطبيعة الموسوعية الفريدة يمكن أن تتحقق للدارس المرموق الذي يحاول الربط بين المتمايز ضمن نسق معين في أفق خلق نظرية تحترم العمودية الزمنية، والأفقية المعرفية. لذلك عندما تم طبع كتابه ذخيرة العجائب العربية في الشارقة السنة الماضية عنونها بالجزء الأول في أفق إصدار جزء ثان، وهو ذخيرة العجائب العربية من خلال السيرة الشعبية، وجزء ثالث سيوسم بذخيرة العجائب العربية من خلال كتب التاريخ والجغرافيا والرحلة.
هذه النافذة كما فضل الدكتور يقطين التعبير عنها للدلالة على تخصص ضمن بناء فكري شامل، تحدث عنها الدكتور شرف الدين ماجدولين في تقديمه للمحاضرة عبر التطرق لنسق يحدد تعامل المحاضر مع السرد والسرديات، هذا السرد الذي يعتبره سعيد يقطين كالأدب يجب أن ينطلق من خلفية وإلا كان كلاما مرحليا.
المحاضرة تجاوزت التقيد الضيق بالعنوان المتفق عليه بين المحاضر والمنظمين، بل تجاوزتها للتطرق إلى التركيز على البعد المنهجي الذي يمكن أن يحقب للزمن الثقافي في سياق السؤال الحضاري المزمن حول الحداثة وموقع الأصالة منها من جهة، ومن جهة أخرى لأبعاد التصنيف المعرفي للأدب والدراسات الأدبية التي تحاول الخضوع للعلم وضوابطه مقدما نموذج للسانيات والدراسات السردية.
هذه الأخيرة كمفهوم لم يظهر إلا بشكل متأخر مع المرحلة البنيوية عندما اعتبر رولان بارث أن السرد موجود في كل شيء، على غير المتواضع حوله من قبل وإن تم الاشتغال في بدايات البنيويين أنفسهم على النص الأدبي في الدراسات السردية، إلا أن مجال الدراسات السردية أصبح أوسع من هذا التحديد القديم، لذلك فإن أهم التطويرات للدراسات السردية أصبحت تتم الآن خارج الدراسات الأدبية والاجتماعية والإنسانية.
من هذا المنطلق أعاد المحاضر النظر في مفهوم السرد العربي، ففي كتابه «الكلام والخبر» طرح أسئلة حول كيفية التفكير في السرد العربي؟ ما هو هذا السرد؟ كيف يمكننا التعامل معه؟ لماذا كان الشعر ديوان العرب؟ ما هو الأدب؟ ما هو الجنس الأدبي؟.
هذه النقطة الأخيرة هي المدخل للحديث عن أنماط السرد العربي ليفصح المحاضر عن معتقده الأدبي المتمثل في الإيمان بنظرية الأجناس الأدبية بخلاف كثير من الباحثين العرب رغم تأثير المرحلة البنيوية، لذلك فعندما يتم الحديث عن الرواية كسرد السرود وقدرتها على احتواء الأنماط الأدبية الأخرى وسائر البنيات النصية الاخرى، فإن الأستاذ سعيد يقطين يعتبر أن من يقرر ذلك لم يطلع على السيرة الشعبية الأكثر احتواء لباقي البنيات النصية العربية.
لذلك فالأدب لا يتحقق إلا من  خلال الأجناس التي يتحقق من خلالها لأنها تحدد انتماءها إلى الاسم الجامع أو اسم الجنس كمقولة منطقية، وداخله توجد الأنماط كما هو محدد في «الكلام والخبر» ويتحقق الأدب من خلال أجناس متعددة داخلها أنواع لا توجد إلا من خلال التجليات النصية، لذلك يعتبر النص هو الأساس لتصنيف الخطابات التي أنتجها الإنسان.
تستمر رحلة الأستاذ الدكتور سعيد يقطين في حديث شيق عن الأنواع والأجناس الأدبية التي تظهر وتختفي، مستعملا النقد للتصنيفات المقتبسة من الآخر والتي تتمثل الأسس التصنيفية لديه دون أن تركز على خصوصية التراث العربي، والتي يمكن أن تنتهي إلى تأسيس لنظرية السرد في الشعر العربي عوض الانتصار لطبيعته الغنائية التي يحددها البعض من منطلق غير أصيل عربيا.
هذه الأصالة يمكن أن تقوم تصنيفا جديداً للتحقيب الزمني للأدب العربي، انطلاقاً من الوسائط وتأثيرها على التحديدات المختلفة للأجناس الأدبية، وهو ما يؤسس لقراءة جديدة لتاريخ الأدب العربي، ستنطلق من طبيعة السرد ومفهومه وهوما سيردم الهوة بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية العربية.
إن درس يقطين لا يمكن اعتباره إلا كدرس مؤسس للمنهج أكثر منه كدرس محدد للموضوع لكن ما يميزه هو الشكل التداولي للمنهج بما يجعله اهتماما ثقافيا غير نخبوي وليس أكاديميا بالضرورة، لأن تناوله للموضوع لا يقف عند الإضافة، بقدر ما يدخله في باب التقعيد والتأصيل، لذلك فالقراءة غير الشاملة له لا تعطي صورة كاملة لمشروعه الأدبي المتميز، بقدر ما تحقق متعة في الاطلاع، خصوصا بالنسبة لغير المتخصص، لذلك ما أفضله من أجل إنصافه وإعطاءئه الحجم المتميز الذي يستحق، هو القراءة له من خلال دراسات شاملة لإسهاماته، سواء بقراءتها بتبصر منهجي شامل أو بالقراءة عنها عبر دراسات استوعبت أطروحته.
ما جعلني أخلص الى ذلك هو تجردي الكامل مما ترسب في ذهني من قراءات للرجل أو عنه، ومن منطلق الحرص على القواعد الإنسانية للتعامل معه أثناء مصاحبتي له عبر الطريق إلى شفشاون، لكن من خلالها ومن خلال محاضرته القيمة لمست أن وسائط التلقي كثيراً ما تكون مخادعة ولا يمكن أن تنصف القامات العلمية الكبرى، مهما افتتن المتلقي بإسهاماتها وإبداعاتها، فإن تتبعها بما يعدو ذلك من متاح خصوصا في هذا الزمن الذي أصبحت المعرفة فيه متاحة نسبيا، تجعل تكوين نظرة أشمل عن ما يتجاوز الإسهام الفكري إلى التأسيس التقعيدي لمذهب فريد يجب أن يعطى حقه إنصافا للثقافة العربية.


الكاتب : هشام استيتو

  

بتاريخ : 07/01/2022