سمعت به وأصبحت الآن أعرف عيونه

سمعتُ به وسمعت عنه، ولا أتردد اليوم في القول بأنني بدأت في السنوات الأخيرة أرى بعض ملامح وجهه، بصورة تتجاوز المعطيات المحصّلة بالسماع. لم ألتق به أبداً، وعندما كان يمر بجوار بيتنا ويدخل بيوت جيراننا لم أكن أهتم بقدومه. تنتابني اليوم أحياناً أحاسيس تشعرني بقربه مني أو اقترابي منه. وإذا كانت المعلومات السماعية التي أملك عنه تؤكد لي وجوده، فإنها لا تجعلني على بيِّنة من طبيعته وكيفيات اشتغاله. ولأنه في ذهني ما يكون بالشبح، يحضر ويختفي، ولا نظام محدَّد لأوقات حضوره وغيابه الدائمين، فقد حرصت طيلة عقود عمري التي توالت على تجاهله ونسيانه.
سمعتُ عنه في بيتنا سنوات العمر الأولى، فلم ألتقط من أحاديث الكبار من الأقارب ما يسعف بمعرفته، وظل وَقْعُ إسمه في أذني يشبه وَقْع الكلمات التي لا معنى لها. وسمعت عنه في المدرسة وفي الحيّ الذي أسكن فيه من طرف أقراني، حيث يردِّد الجميع مروره بهذا البيت أو ذلك، إلا أنه ظل ضمن دائرة الأسماء الغامضة والعابِرة.. لم أتقدَّم كثيراً في استيعاب مبررات حضوره وغيابه، فتخلَّيت عن فحص ما أسمع عنه متجنباً التفكير في الموضوع.
أدركت في غمرة انشغالي بمتطلبات الحياة أنه يحضر في كل الأمكنة، ويمتلك صِلات وَصْلٍ بكل ما هو حي. يحضر في الليل وفي النهار وما بينهما، كما يحضر في الصيف والشتاء، ولا يستطيع أحد أن يردَّه عند مجيئه. يحضر من أجل القيام بمهمة محدَّدة ثم يختفي.. وهو يمتلك سمات ومزايا تجعل البشر يرون فيه أحياناً القادم المرغوب فيه، وأحياناً ينزل كالصاعقة فَيُخَلِّف آثاراً مؤلمة.. كما يرتكب بقدومه حماقات تترتب عنها أحزان وأشجان موجعة. وهو يظل في أَعْيُن أغلب الكائنات الحية مُتربِّصاً بالحياة، بالصورة التي ينتظم بها العيش في عالمنا.
لست وحدي من سَمِع عن هذا الذي سَمعتُ به ولا أعرفه، بل أكاد أقول إن البشر كانوا وما زالوا دائماً يسمعون به أيضاً ولا يعرفونه، ولم يسبق للأحياء منهم الالتقاء به أو مجالسته. وهم يمتلكون تصوُّرات احتمالية عن شكله وعن الأدوار التي يقوم بها.. ذلك أنهم عندما يلتقون به، لا يعود بإمكاننا أن نقول عنهم إنهم يعرفونه بالسماع، كما لا يعود بإمكاننا أن نراهم، ولا يعود بإمكانهم أن يتحدثوا عنه بعد لقائهم به.. فتظل معرفة السماع قائمةً ومهيمنة ولا بديل عنها. صحيح أن تصوُّرات البشر عنه متعددة ومتنوعة، وأنه يحضر في التاريخ بألوان وصوَّر لا حصر لها، إلا أن دوره مرسوم في أغلب الثقافات بطريقة متشابهة وإن اختلفت بعض جزئياتها. إن المعلوم في موضوعه لا يتجاوز المتداول في عمومياته الغامضة التي يتواصل تناقلها بطريقة تكرارية، أي أن المعلوم عن هذا الذي يحضر ويختفي في كل الفصول والأزمنة، لا يتجاوز المنقول والمسموع، بكل ما يمكن أن يطرأ عليهما من تحولات جزئية وشكلية، تساهم في تلوين الصوَّر والمعطيات الشائعة عنه بالأحلام والأماني والرغبات.
يساهم الموروث بمروياته وأساطيره وحكمه، في منح هذا الذي نسمع عنه ولا نعرفه طبقات من المعاني والسمات، يحضر في ثناياها بمواصفات تستوعب الغريب والعجيب، وأخرى تستوعب الساحر واللامتوقع. وتتبادل السمات المذكورة المواقع في سجل الموروث بحكايته وألغازه.. تتداخل الأوصاف التي ذكرنا وتختلط، لتنتج صوَّراً جامعة بين ما يُنَفِّر وما يملك الجاذبية المطلوبة للقيام بمهمة معينة في الحياة.. ومن الغريب أن يحضر هذا الذي نسمع عنه يومياً، وقد استأنس الجميع بحضوره رغم غيابه وحصول انقطاعات دائمة في أنماط حضوره..
لا يتعلق الأمر هنا بحضور مؤقت وعابر بل بفعل لا يتوقف إلا ليبدأ، ذلك أن صاحب الفعل يتمتع بحضور وغياب دائمين. إن حضوره مثل غيابه يتناوبان ويحدِّدان سمة ملازمة لوجوده ووظيفته، حيث يحضر في كل الأمكنة ليغيب أيضاً عنها مجتمعة، يحضر ويغيب بالمواصفات عينها.. ونحافظ على مروياته، نسمع بها ونتناقلها، رغم أنها لا تشفي الغليل. يردِّد الجميع اسمه، وننتظر أن يحصل لدينا بقدومه ما يجعلنا نميز فيه بين الخيط الأبيض والأسود.. دون أن يكون بإمكاننا لحظة اللقاء الفعلي به، نقل ما عَايَنَّا وتداوُل ما حصل لدينا من جديد عنه وفي موضوعه..
يرتبط وجوده بنظام الحياة بالصوَّر التي تواترت بها في التاريخ. وقد تغيرت أنماط حضوره في التاريخ، حيث تغير إيقاع عمله بتطوُّر الحياة وتغيُّر أنماطها. وظلّ عبر مساره الطويل والدائم في الحياة، عنواناً دائماً لحضور لا تمييز فيه ولا أفضلية لكائن على آخر. كل البشر وكل الأحياء بدون استثناء سيلتقون به ذات يوم، طال الزمن أو قَصُر، وإلى أن يحصل اللقاء المنتظر يواصلون تداوُل معطيات متشابهة في كثير من أوجُهها وغامضة في كثير من مروياتها.. وحين يحدث اللقاء، لا يعود بإمكان من التقى به أن يقارن بين ما كان يعرف عنه وبين المعطيات المباشرة، التي ترتَّبت عن المواجهة التي تمت بينهما.. وبما أن الالتقاء به يفيد غياب الشخص الذي التقى به، فإنه لا يمكن لأحد أن يعرف ماذا جرى بينهما..
لا أتردد اليوم في القول بأنني بدأت أقترب من هذا الذي أعرفه بالسماع، دون أن تتاح لي بعد فرصة اللقاء به. ولا أجد أي حرج في القول إنني بدأت أعرفه وخاصة عند اقترابه من بعض الذين ارتبطت بهم. وقد زارنا في بيتنا مرات عديدة، وكنت في كل مرة أفتقد بعد زيارته من التقى بهم من أسرتي، أبحث عنهم بعد خروجه فلا أجدهم، أناديهم فلا يسمعونني. وأنتظر الفرص التي يتيحها لي النوم حيث ألتقي بهم أحياناً وأجالسهم في أحلامي، إلا أنني لا أسألهم عن لقائهم بذلك الذي سمعت عنه ولم ألتق به بعد.. ولا أدري لماذا أنسى في لحظات الحلم أن أسألهم عما تَمَّ بينه وبينهم في لحظة لقائهم به.
عندما حَلَّ وباء كورونا في عالمنا، انتبهت إلى الحضور اليومي المكثف لهذا الذي كنت وما زلت أسمع عنه ولا أعرفه، وقد بدأت في السنوات الأخيرة أقترب منه، أو قد يكون هو الذي بدأ يقترب مني رغم تجاهلي لأنماط حضوره. فقد أصبح له في زمن الوباء حضور دائم في كل الأمكنة.. وقد دفعني هذا الأمر بالذات، إلى الاعتقاد بكوني أصبحت أعرفه.. لكن ماذا أصبحت أعرف عنه؟ فكرت في الأمر جيداً واقتنعت أمام هول حضوره المكثَّف الكُلفة الكبيرة لمعرفته. صحيح أنه حصل لي منذ مدة لقاءٌ خاطف به، لقاء انتبهت فيه إلى عيونه ونظراته.. ولم يَتِمّ اللقاء، فأصبحت عيونه ثابتة في ذاكرتي.
اخترت الاكتفاء بالمعرفة السماعية المتنوعة عنه، فهي في نظري تمتلك من الثراء والغموض ما يساعد على نوع من الإحاطة به وبأدواره. أما الالتقاء المباشر به الذي أصبحت أجواء كورونا تتيحه أكثر من وقت مضى، فإنه وإن كان يُمَكِّننا من الالتقاء به، فإنه ينقلنا إلى عالم آخر.. وهذا الأمر بالذات يُعَدُّ غير مُستحَب في زمن كورونا.


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 02/10/2020