سينما الغرفة تعطي قيمة للفرد و تعزله داخل مكان

 

حول مشروعه السينمائي الروائي الجديد « العزلة « ، كان هذا اللقاء مع المخرج السينمائي المغربي المقيم في مدينة برلين محمد نبيل ، الذي تحدث فيه عن الفلسفة و السينما ، الهوية وعن الانتماء الثقافي و العزلة الانسانية . محمد نبيل اعلامي ، مخرج افلام وثائقية ، درس الفلسفة ودرسها ، هاجر الى كندا حيث اثرى معارفه بدراسة الصحافة و السينما ، عمل في الصحافة التلفزيونية و الاذاعية و له كتابات في العديد من المنابر الاعلامية . تميزت تجربته السينمائية بسلسلة افلام وثائقية عن المرأة ، إفتتحها بفلم « احلام النساء» عن ثلاثة نساء المانيات اعتنقن الاسلام ، ثم «جواهر الحزن « عن الامهات العازبات المغربيات ، و
« صمت الزنازين» عن النساء السجينات في السجن المغربي . كيف جاء هذا الاهتمام بالمرأة ؟
– السؤال النسائي له علاقة بالفترات الاولى من حياتي كطفل ، فقد ترعرعت في بيت شكلت غالبيه النساء ، و انا طفل كانت تصحبني جدتي اوعمتي معها ، فكنت استمع الى تلك المواضيع ، التي لها خصوصية و سرية النسائية . دون ان يعير احد لوجودي انتباها ، من حيث، انني طفل لا أفهم ، منغمس في لعبي . حين كنت طفلا كنت ادخل حمام النساء في معية امي او احدى قريباتي ، ثم لاحقا لم يعد يسمح لي بدخوله و انا طفل . تعرفت على ما يدور في الهامش المجتمعي كسر و كانت هذه تمثل مراحل اهتمامي الاولى بالنساء . وفي دراستي الجامعية تعمق هذا الاهتمام من خلال تكوين علاقات و مغامرات متعددة مع النساء ، حتى الفاشلة منها بين قوسين هي في نظري ناجحة ، لاني من خلالها اكتشفت ، ان اللون لا يعرف الا بنقيضه . ثم كان اشتغالي العلمي موجها بالدرجة الاولى على موضوع الجنسانية عند المراهق المغربي في علاقته بالصورة في الفضائيات او التلفزيونات العالمية وخصوصا الغربية منها التي تقدم منتوجات جنسية معينة. و طبعا فالمرأة لم تكن غائبة في هذا البحث . ثم لاحقا رافقني السؤال النسائي و الجنسانية في دراساتي العليا سواء في كندا او في المانيا، ليعرف بعدا اخر تحول فيه هذا التراكم الى تعبير مشفوع بهوس ورغبة و شغف طفولي الى لغة سينمائية . من هنا فالسؤال النسائي هو مواكب لسيرتي الذاتية منذ الطفولة غير انه تطور مع مرورالزمن و جددته التجارب.

 هل كان الشغف السينمائي نقطة انطلاق الى ما وصفته بالسؤال النسائي ؟

لقد بدأت ارهاصاته في مرحلة الثانوية ، التي اسميها المرحلة الذهبية ، مرحلة التأثر بالسينما ، مرحلة لا تمحى من الذاكرة ، عندما كنت اشاهد الافلام ، ، بكل ذلك العشق ، حيث شاهدت الفلم ، الذي اسرني في حبائله „ سينما براديزو“ ، للمخرج الايطالي الكبير طرناطوري . تحفة سينمائية الرائعة ، و مع انتمائي في نفس المرحلة ، الى الجامعة الوطنية للاندية السينمائية ، اكتشفت فلم „ مجتمع الشعراء الاموات“ لبتر وبر.. فبعد مشاهدة الفلمين تولدت عندي اسئلة كثيرة حول ماهية السينما ؟ لقد وصل تعاطفي مع ذلك الطفل الصغير سافتوري في فلم „سينما برديزو“ الى درجة ، كنت ارى في حماقاته ، حماقاتي الشخصية في حب السينما منذ الصغر. كان الفلم مع دراميته يمثل سينما مستقلة عن السوق وعن الصناعة السينمائية الكبرى، التي جعلت السينما بضاعة وحولت الانسان الى مستهلك .

لقد قلت في احدى لقائاتك : „ ان لغة الرمز دائما لغة عميقة ومعبرة.“ الى اي حد تظهرهذه القناعة في افلامك؟

ان السينما في حد ذاتها هي حكي ، لكنه حكي بالصور، وهذا لا يلغي دوراللغة المادية ، فالسينما لها لغتها الخاصة ، هي الصورة. اما فلسفة الحكي او ما يسمى „السرد الحكائي“ هي موجودة لكنها لا تمثل صدارة التعبير او تبقى مقلصة ، فالمسافة شاسعة بين مشهد يعتمد رموزا مادية و اخر رموزا معنوية ، تختزل نوعية التفكير و دلالات ثقافة معينة ، المشهد امريكي مثلا يعطي للحكي اللغوي قوة الصدارة في التعبير عن حالة ما ، لكنني اختار في افلامي لغة الرمز و لغة الدلالات واجعل اللغة المادية شيئا هامشيا، لان لقطة الرمز كافية للتعبير عن ما يتضمنه المشهد.

ماذا يمثل بالنسبة لك العمل السينمائي؟

– بالنسبة لي فالعمل السينمائي بالدرجة الاولى هو جوهر ابداعي للتعبير عن الانسان بلغة جمالية ذات علاقة بفن جد معقد ، الذي هو الفن السابع.. عندما اتحدث عن الجماليات ، اتحدث عن رهاني في سينما افلامي عن السؤال النسائي و ما له علاقة بعالم العواطف ، عواطف الانسان . من حيث منظوري للمرأة الانسان ، الكائن المختلف ، الانسان بصيغة المؤنث. فالسينما هي نوع من انواع التعبيرعن الواقع ، و الواقع في حد ذاته هو صناعتنا انفسنا ، السينما تعبرعن هذا الواقع بطرق شتى ،. لانها صناعة و في نفس الوقت تركيب و من هذين العنصرين ينشأ الابداع. و من هنا يكون لكل مخرج بصمته الخاصة . واما ما انتجه ، فما هو الا تعبيرعن هذه التراكمات ، التي تقوم على خلفيات معرفية ، ثقافية و على سيرتي الذاتية و علاقتي بالفنون منذ الطفولة. اذن السينما عندي هي رهان تعبيري عن هذا الواقع ، ولكن بلغة فيها هوس ، اسميه الهوس الجمالي.

عرفت في حياتك محطات هجرة متنوعة فاس حيث درست ، كندا حيث عمقت الدراسة ، ثم موسكو وحاليا برلين ، فالرحيل الى مواطن متعددة يقترن بالسؤال عن الهوية؟

الهوية هي اشكالية في حد ذاتها، سؤال يؤرق الكثيرين ، لانه سؤال عن الذات والغير ، اشكالية عالمية ، فهذه الاشكالية لم يعرفها تاريخ الفلسفة فقط ، بل عرفها التاريخ البشري. انني اركز في افلامي اكثر على موضوع الجنسانية في علاقته بالعواطف و الحب . فالعلاقات الجنسية و الاغتصابات في فلمي . «جواهر الحزن» او «صمت الزنازين» هي محورية و لا تنفصل عن موضوع الهوية الجنسية ، بلغة الفلسفة . فانا ارى ، ان هويتي بالدرجة الاولى انسانية ، كونية . فعندما اتحدث عن محمد نبيل ، اتحدث عن الانسان العربي و المسلم و الامزيغي واليهودي و المتوسطي المغاربي و الافريقي ، اتحدث بلغات مادية و رمزية ، عندما اتحدث لغة السينما اتحدث لغة المسرح ، اتحدث اللغة الالمانية لغة مادية اتحدث العربية الفرنسية الانجليزية . هذه لغات حاملة لثقافة مختلفة وعندما اتفاعل مع الاخرين أؤكد هذا الانتماء الانساني ، اتحدث عن هذا المزيج من الروافد الثقافية عن الانتماء الانساني . فالأحادية ينتج عنها ضيق في التفكير و حتى في التنفس . فهذا لا يعني انني لست مغربيا ، نعم انا مغربي لكن بالجمع لا بالمفرد ، لان انتمائي بالجمع . لذلك فهويتي حتى في معالجتي للسؤال النسائي في الافلام ، التي انتجتها لحد الساعة احاول التركيز على هذه المعالجة الانسانية ، والانسانية ليست كلاما جميلا ، منمقا ، بل هناك جوهر انساني ، يجب ان يكون حاضرا.

 كيف يتحدد الجوهر السينمائي عند محمد نبيل؟

يقول الفيلسوف الفرنسي ديكارت قبل اندري بزان «ان هناك جوهر و هناك عرَض» الجوهر عند الشمعة هو امتداد عندما تشتعل وتمتد على سطح الارض بمعنى جوهرها هو الامتداد ، الذي لا نعرفه الا بعد مدة والاعراض بلغة ديكارت مختلفة. فالسينما جوهرها او من بين جواهرها الزمن. ولفهم الزمن لا بد من العودة الى الفزياء ، فزياء انشتاين وحتى لطريق الفزياء. الزمن في السينما هو حامل للصورة ، سواء في السينما الروائية او التسجيلية ، ليس هناك خط فاصل بين التسجيلي و الروائي . هناك قواعد تختلف اكيد ، اما الخط الفاصل فهو صعب. الزمن كجوهر للسينما اي انه لا يمكن ان نحكي حكاية الا في لغة الزمن ، هرقليس عندما يقول ، اننا لا نستحم في النهر مرتين ، لان الماء متجد في النهر بشكل دائم . هكذا فالزمن متجدد هو الاخر بشكل مطلق و لا يمكن الامساك به.

 المشاهد في افلام محمد نبيل يتقاسمها الصمت و الصورة ، فالى اي حد يمكن للصورة ان ان تنوب عن اللغة في التعبير؟

الحكي بالصور هو جوهر السينما والصورة ابلغ من النص المكتوب بلغة مادية ، والصورة يمكن ان تعوض كما يقال نص بالف كلمة . فالصورة في السينما هي لغة
بليغة وعميقة جدا و فيها رموز وعندما نتحدث عن الرموز نتحدث عن رهان ، ان نحترم ذكاء الجمهور، لان الجمهور ذكي ، يقتنص ، يفهم ، كيف ما كان هذا الجمهور و في كل المجتمعات . و الرموز موحدة هناك ثقافات مختلفة وهكذا ندخل في الرؤية الانتروبولوجية للاشياء ، لكن لغة السينما يفهمها الجميع غير ان المخرج يجب ان يكون متمكنا من اللغة البصرية لغة الصورة.

هل سيستمر دور السينما فعالا حتى داخل البيوت وفي وسط هذه الدوامة الالكترونية؟

السينما بدأت مع الدهشة ، مع الاخوين ليميار والفلسفة هي الاخرى بدأت بالدهشة عند اليونان و لولا الدهشة لما توصل الفلاسفة الى كل هذه النظريات الفلسفبة ، لولا الدهشة لما صارت السينما سينما ، لان السينما خلقت صدمة في البداية وكانت بحجم كبير. ثم انتجت فضاء العرض بطقوسه السينمائية و لا يمكن لسينما نتفليكس مثلا او غيرها ، ان تعوض تلك المتعة الخاصة بالفضاءات ذات طقوس معينة . فالسينما الجديدة تعطي للفرد قيمة ، لكنها تقوم بعزله داخل مكان معين . انها سينما تكريس العزلة داخل المجتمعات على الاقل الليبرالية و الراسمالية. فتهميش القاعة السينمائية الكبرى ، كالظاهرة الغريبة جدا في المغرب ، حيث تغلق القاعات بطريقة عجيبة ، يعمل على لتعميق ما هو فرداني ، ان اكون منعزلا في مكان ما ، حتى و لو كانت الشاشة كبيرة عندي في البيت ، لكن اين ثقافة الجمهور؟ ما اخافه مستقبلا ، وهذا قد بدأ الان نشر الثقافة السينمائية الرخيصة ، وفقا لمنطق الراسمال والتوزيع بهذا الشكل ، ان تصبح هناك ثقافة سينمائية رخيصة . السينما متعة وطقوس لا تتحقق الا داخل الصالة . و تقاسم المتعة هو جزء من تقاسم خيرات هذا العالم . فالمشاهدة الضيقة العائلية ليس فيها هذا الصدى الذي انا في حاجة اليه ، صدى ذلك الفضاء الجمالي ، فضاء متعة بامتياز ، فضاء يؤكد على الخروج من هذه الفردانية ، عزلة الانسان التي تقتل المجتمعات الليبرالية و الراسمالية . هناك فردانية داخل المجتمع ، و السينما في البيت تقول : لماذا تخرج الى الخارج ، هناك شركات تنقل لك كل حاجياتك الى البيت. الان هناك موجة كورونا لتؤكد لنا بالضبط اننا في حاجة ماسة الى الانعزال و الخوف من الاخر. لذلك فالسينما الجديدة هي سينما تؤكد على هذا الخوف بطريقة غير مباشرة و تقول لست في حاجة للاخرين . وهنا لا اريد ان اذكر فلسفة جون بول سارتر، «الاخر هو الجحيم «.

 كيف يعد محمد نبيل لمشاريعه السينمائية ؟

بالقراءة ، بمعنى ، عليك ان تقرأ انها مدرسة التعلم . قد تتعلم القيم و تتعلم الادب و تتعلم الخ.. اذا هكذا اقرأ بجنون . اواقول اقرأ حتى يغمى عليك . اقرأ كما كان يقرأ ماركس لسنوات و هو يقرأ حتى يسقط على الطاولة ، ينام فوق طاولة القراءة ، فالمهم ليس ما انتجه ماركس و هيجل و سبينوزا ، بل الاهم هو كيف انتج سبينوزا او ماركس ، لان السيرة الذاتية هي عمق الفعل الفلسفي ، السيرة الذاتية للمخرج هي عمق الفلم السينمائي و الابداعي . كيف قرؤوا ، كيف يقرؤون . اعظم الفلاسفة هم اعظم القراء ، قراء الفلسفة ، هايدغر قرأ الفلسفة ، قرأ تاريخ الفلسفة . اذا عليك بالقراءة ، و القراءة تجعلك تتعلم . و كم من فيلسوف هو منعزل لا علاقة له بالناس ، لانه استفاد من مدرسة القراءة ، انه يقرأ. ولكن السينمائي لكي يحكي على الناس لابد ان يكون له خزان من التجارب .

 

 


الكاتب : برلين : من ادريس الجاي

  

بتاريخ : 09/01/2021