شره الأمكنة.. العالم بعدسة أحمد بن اسماعيل 18 : السي براهيم.. من حكاواتي الى حلقة الملاكمة

 

حين تتحول العدسة إلى مؤرخ فني كبير.. حين تسرق اللحظات ليس لتوقف الزمان ولكن لتعيد للوجدان كينونته.. تنفخ فيه روح الحياة المزهوة بكل ما هو جميل ونبيل.. بكل ما يجعلك تقف باحترام وانت مبهور لترفع القبعة وتنحني ببهاء ممتثلا للمشاهدة والإنصات..
هكذا جعل الفنان الفوتوغرافي المبدع أحمد بن إسماعيل آلة تصويره معشوقة دائمة محمولة على كثفه الأيسر لتجاور قلبه حيث تتناغم مع نبضات حبه التي تحولت إلى قصة عشق أبدية..
بين وضوح النهار وأثار الليل، بين الوجوه المشرعة في الساحة، في الدرب، في الشارع، في المقهى، في المسرح، في السينما، في كل هذا الكون الممتد من القلب إلى القلب..
عشق فسيح في عالم لا يلجه إلا من ينبض بالحب، ويتملى بالجمال، ويتقن فن العيش ليسكن قلوب كل العاشقين، ممن تحدثت عنهم الأساطير ، أو حتى تلك التي قد تحتاج لمعرفة كنهها وانت تتسلل في علو إلى سدرة منتهى الحب..
أحمد بن إسماعيل وهو يعبر كل تلك الدروب والازقة الضيقة شكلا، والشاسعة حبا، من حيه بدرب سيدي بن اسليمان في المدينة العتيقة مراكش، فلا يعبرها رغبة منه، أو تغريه روائح توابلها، وطلاء جدرانها، وزليج سقاياتها، وقرميد أقواسها، وطيبوبة وبساطة سكانها، إنما تقوده محبوبته، عشقه، لممارسة شغبه/ حبه الفني في التقاط كل ما هو بديع،..
أحمد بن إسماعيل حتى عندما افتتن بالريشة والصباغة والألوان، وأبدع فيها ببصمته الخاصة، لم يفارق ملهمته، عشقه الأبدي، آلة تصويره، هذه الآلة التي سنرافقها حبا فيها وعشقا لها، من خلال ما أنجبته من تحف فنية بعد إذن الفنان المبدع أحمد بن إسماعيل، لتُفشي لنا الكثير من الأسرار، وتعيد الحياة للكثير من القصص، وتروي لنا كل الروايات عن شخوص ورجال وأماكن وفضاءات، سواء في مراكش وساحتها الشهيرة أو عبر جغرافيا الحب لهذا الوطن، والتي سكنت أحمد وآلة تصويره حتى الجنون.. وهو ما ستميط اللثام عنه هذه الحلقات:

 

“جَمْعُو إيديكوم ،قولو على من؟
على مك، على باك، على رضاة الوالدين
كاين شي بطل هنا؟
إيه نتا دخووول لبس اللكات، جري، حنقز، حرك يديك، كوش، دروات… حبآس..حط هادوك الليكات..
أرا شي ملاكم آخر…”
هذه العبارات هي التي كان السي براهيم مول البوكس يبدأبها حلقته التي ينظم خلالها مباريات في الملاكمة.. عبارات استحضرتها من خلال صفحة فيسبوكية تحدث فيها أصحابها عن السي براهيم .. وأيضا ذكرتني بها هذه الصورة التي التقطها أحمد بن اسماعيل بفنية كبيرة..
حلقة السي براهيم مول البوكس كانت من الحلقات المثيرة في ساحة جامع الفناء والتي تعيش لحظات في الحماس وتُرفع فيها أصوات المتحلقين بالتشجيع والتشجيع المضاد ، حلقة السي براهيم مول البوكس ، رجل بشعر أشعت وفم أفرم وشارب كث يكاد يغطي فمه، تغلب على وجهه السمرة.. كان ينظم حلقات للملاكمة حلبتها اسفلت الساحة وحدودها المتحلقين حوله..فيها الغرابة والسخرية والضحك أكثر مما فيها من حماس ومنافسة في هذه اللعبة التي يطلق عليها أهل الرياضة اسم ” الفن النبيل”..
في الصورة التي التقطها أحمد بن إسماعيل يبدو السي ابراهيم بجلبابه بجانب المتحلقين ومن تمة يدير هذا النزال القائم بين شابين.
حلقته تعرف نزالات عجيبة ومثيرة وفيها الكثير من السخرية وتخضع لقانون السي براهيم.. هنا ليس هناك أي خضوع إلى المنافسة وفق الأوزان، الأهم أن تقوم بحركات وتجري وتهتز تم تحرك اليد اليمنى فاليسرى ومن خلال الرؤية يحكم عليك السي براهيم إن كنت مؤهلا للنزال أم لا؟ وأحيان لا تتم المنافسة بين الذكور فحسب بل تشتد أكثر حين يكون النزال بين ذكر وأنثى وفي هذه الحالة يرتفع إيقاع الحلقة..
والسي براهيم يعطي قيمة لحلقته، وطبعا لكل نزال ثمنه، فلا تنطلق المنافسة إلا بعد أن يجمع ثمن النزال..
لكن من يكون السي براهيم مول البوكس، كثيرين لا يعرفون أنه كان في مرحلة من مراحل حياته شبابا قوي النية، مفتول العضلات، يخيف أقرانه إلى درجة أنه يوصف ب:”سبيرة” وكان يقف قرب “البراكة” وسط جامع الفناء وهناك لا يقف فيه إلا من له القدرة الجسدية على العراك والمواجهة.. أيضا كان يجري تداريبه بالمسبح المعروف انداك ب”البراني” وهناك كان يلتقي بالممثل الايطالي “جليانو جينا أحد ممثلي فيلم” Les titans”
وقليلون فقط هم من يعرفون أن السي براهيم مول البوكس كان حكاواتيا، فالذين عايشوه قالوا بأن السي براهيم كان مبدعا كحكاواتي وأنه كان مختصا في السيرة العنترية.. سواء بالساحة أو خلف صومعة الكتبية حيث كان العديد من الحكاواتيين ينظمون حلقاتهم، ولم يتحول السي براهيم لحلقة البوكس إلا في منتصف الثمانينات صحبة أحد أصدقائه، وبقي محافظا على أسلوبه وطريقته في خلق فرجة ممتعة سواء من حيث العبارات التي يستعمل أو الطريقة التي يختار بها من سيتنافسون إلى أن وافته المنية..


الكاتب : إعداد: محمد المبارك البومسهولي

  

بتاريخ : 15/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *