شعرية التماهي الصوفي في ديوان «نمش على مائي الثجاج» لمصطفى غلمان

 

1) حضور القضية الفلسطينية في قصيدة  “حارت الغصة”:

بلغة ذات سبكٍ جزل، قوية العبارة، عميقة المعنى، اجتمعت عبارات الشاعر مصطفى غلمان لتشكل أسلوبا مَبْنِيا بإحكام، محكم النسج، يصاول فيه جولة الشعر ومضماره، ليعبر عن القضية الفلسطينية ، قضيته هو وكل العرب جميعا، ينازع فيها الزمن الذي ما نفك يخرجه من عزلته الأبدية، ليرى مأساة الإنسان العربي، الذي ظل يصارع العدو الصهيوني الغاصب، ذاك العدو الذي تمرد على كل القوانين والمواثيق الانسانية ضاربا بها عرض الحائط ليتمادى في التشريد والقتل والجرائم الإنسانية البشعة، والتهجير والسطو على الأملاك والأراضي، الشاعر يسأل الشعر في كلمة ” القصيدة” قائلا:
ـ ماذا أفعل بقصائدي؟
وهي قصيدة في مقطعين كبيرين، الأول في عشرين سطرا، والثاني في أربعين سطرا.
يقول الشاعر:
كلّ عامٍ أكتبُ فلسطينَ ولا يكبر بي طيفُها
ولا ينشى بي البوح ، ولا ينتصر العائدون ولا المنفيُّون
أنا مُذْاك غريبُ في أرضٍ لا تطؤُها الملائكةُ
ولا يصلها دعاة السلام
ماذا أفعل بقصائدي؟؟!
تآكلت بفعل الهشاشةِ وغمرتهَا ثعابين اليأسِ
وندوب التاريخ..
أيا فلسطينُ، عذرا فقد نذرتك للأهواءِ
أحابيلَ الوجَعِ وصيوب الهباء.. !
لا تركعي قد دان ذلك العشق وانطلقت علَيَّ الحتوفُ

انه فعل الكلام الذي يعد أحد أسلحة المقاومة، هو إذن بعيد عن القدس منفي عنها، يرجو لها السلام ، متأثرا بدرويش وغيره من المقاومين، الذين جعلوا من القصيدة إحدى الأسلحة التي أزعجت العدو وجعلته يحسب لها كل حساب، عبر النفي والتشريد والسجن.
لكن في آخر الأمر يبعث رسالة الأمل لتصبح فلسطين رمزا للسلام والمحبة والنقاء، كنقاء ضمير شاعرنا.

2) تيمة الحب والبوح الذاتي :

الشاعر يا مليكتي قدَر في السَّيرورَة
لا ينحَني
وإن عافته الحياة غادر للرَّدى وانصاع
فلا تسألي حبيبتي عن عُمرٍ يتشاكل بالجسَدِ
وهَمسِ الحواس

هو ذا الشاعر يتحدث عن الحب، ويبوح لحبيبته عن معاناة شاعر عانى العزلة وذهاب العمر، إن عافته الحياة مات وارتاح أو انصاع، للقدر الذي يعانده.
يحتفي إذن الشاعر في قصيدته” تنصب طلقتها في شرانق الحرير” . بتيمة الحب،  في قصيدة طويلة حيث بلغت أربعة وتسعين سطرا.
ويحتفي بالمرأة التي يحب، لكنه يحاول أن يبوح ببعض الأسرار ويترك بعضها، بل إنه يحاول تعريف الحب من منظوره الوجودي الخاص، إذ يقول:
الحب عبرة لشهوة عابرة
ويقول :
الحب ذائقة الشاعر عندما يصيبها هزاز العزل.

3) ترانيم شعرية
بإيقاعات صوفية:

أَما قصيدته “أثلام صوفية” فيحاول فيها تعريف الذات الوجودية،
ما أنا إلا ظلمة في خلل النّور
أو شاهد في عين إبرة

إنها محاولة صوفية في سبر أعماق الذات وفهمها والتأمل في مقامات التجلي والحياة، وكيف تهتدي هذه الذات في طرقاتها ، إنه كشف صوفي باطني لمشاعر الكينونة الإنسانية.

هل أنا محدق بالكينونة، أحجب الآلة عن
كتابة الما بعد
أم أنا قبس من حدوسٍ لاحقاتٍ
تطوي بالصدى نفخَ العود.

يقتنع الشاعر في الأخير بالرؤيا التي يلوذ بها والتي تخرجه من حيرته وتخرج جور الناس إلى عدل السماء، وأن الرؤية هي الكفيلة بأن تجيب على شكوك الشاعر وحيرته.

وقلت: لا شيء يعلم حيرتي
ولا يأخذني غيرُ رؤيتي.
بكائية الألم والفراق، تستحيل في الخد دمعا يسكبه الشاعر على جدارية الحروف، موغلا في تجسيد عذابات النفس الإنسانية، المحطمة ….

البكاء يمحو زفير النفسِ عن ألم
ويسفل لون الهواء في المقل..

ويقول أيضا في ذات القصيدة :

كرجفة.. أو رعشة.. و جنون
ماء مالح يسيل على الوجنَتين
ويمضي غضوبًا كأنَّه عذاب.

يستحيل البكاء اعتذارا وتضرعا وارتيابا في قصيدة الشاعر، تعريف وجودي للبكاء، ذاك الكائن الأزلي الذي يصحب الإنسان في رحلة حبه الأزلية.

البكاء كائن يغادر الجسد الهيوليَّ
ينحاز للعتماتِ في عزلة الخائلِ

4) فقراء كنفسي، قصيدة معاني إنسانية نفسية:

ويقول :
الفقراء ممتنون للألم
في العبوات …
ينفجرون
عند اشتداد العتمة
كلما ضاع طريقهم
تعلموا العدم
في حجر الخشوع.
يتواترون روايات
في الأحزان الغاضبة
تجنح قرابينهم للتيه…
ثم تنحني
للأبد…

قصيدة في ثنايا الديوان للشاعر مصطفى غلمان، في ثلاثة مقاطع، وعنوانها ” فقراء كنفسي”،  بوح شعري بالذات التي يستشعر فيها الضمير الإنساني آلام وخيبات الفقراء، ذاك الألم الذي صار قرابين وتيها وضياعا، بالنسبة لهم، إنها تلك الإنسانية التي يشعر بها الشاعر اتجاه الآخر، الإنسان الفقير المعذب  ، وإذا كان ضميره لا يرتاح بهذه المعاناة فإن نفسه وأعماقها و لا وعيه النفسي يلح عليه بهذا الألم، إنه تعبير عن الطبقة الفقيرة التي تعيش الكثير من المشاكل على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، والكثير من الحزن والصعوبات، فينحرون القرابين لإبعاد هذا الحزن.

هوامش:

-1 نمش على مائي الثجاج، مصطفى غلمان،عمان، فضاءات للنشر والتوزيع، 2019 ، ص: 42.
2نمش على مائي الثجاج ، مصطفى غلمان ، ص: 14.
3ـ نفسه ص: 18
4نفسه: ص: 19
5 نفسه ص: 20
6 نفسه ص: 23
7 نفسه 25
8 نفسه ص26
9- نفسه ص30


الكاتب : لحسن أيت بها

  

بتاريخ : 27/02/2023