شعرية الخطاب السردي في رواية «على حافة المتوسط»

يندرج جنس الرواية ضمن الفنون الجميلة، نظرا لهيمنة الوظيفة الجمالية فيه، ذلك أنه يتضمن رسالة يبثها مرسِل إلى مستقبِل أو متلق ما، مستندا في ذلك إلى نظام ترميزي مشترك، كليا أو جزئيا بينهما، ويعمل هذا المتلقي على فك شيفرة الرسالة وإدراكها. وإذا كانت الخصائص الفنية والأسلوبية تعد من أهم مكونات الخطاب الأدبي، فإن الشعرية مقاربة لدراسة هذا الخطاب منبثقة من صميم الأدب ذاته؛ أي هي وصف لمكوناته من لغة وصورة وتركيب وإيقاع ودلالة. فهي لا تكتفي بدراسة الأعمال الإبداعية الفردية بمعزل عن الخطاب الأدبي العام، لأنها لا تسعى إلى تناول العمل الأدبي في ذاته، وإنما تهدف إلى استنطاق خصائصه الأدبية. ومن هنا، نستشف أن هدف الشعرية هو دراسة الخصائص الفنية والمقومات الجمالية، واكتشاف الأنساق الكامنة التي تحدد أدبية النصوص. وعلى هذا الأساس تروم هذه الورقة البحثية الكشف عن شعرية اللغة السردية في رواية “على حافة المتوسط” للكاتب المغربي عبيد لبروزيين.
1.شعرية الألم
يكمن الإبداع في اللغة، واللغة الشعرية في مفهوم النقد الحديث، غاية في ذاتها وليست وسيلة فحسب، فنحن في الشعر كما يقول رومان جاكبسون: “لا نصل إلى الحقيقة من خلال اللغة، بل إن اللغة تصبح مادة بناء، كما الرخام بالنسبة للنحات”. ولذلك فإن الأديب يسعى باستمرار إلى أن يبتكر ويكتشف دلالات جديدة وأبعادا مختلفة خصبة ومتكاثرة لرموز وعناصر هذه الصورة، فيستحدث للألفاظ علاقات وارتباطات وأوضاعا لغوية غير العلاقات والارتباطات والأوضاع التي ألفها الآخرون. وأن يأتي منها بما يثير ويدهش ويفاجئ ويجذب ويخترق الأخيلة وينفذ إليها ليبقى ويخلد فيها.وإن المتأمل في لغة “على حافة المتوسط” يجدها تنضح بالألم وضروبه، إذ يعمل من خلالها الكاتب عبيد لبروزيين على الإفصاح عن آلامه ونقل اضطراباته ومعاناته. وتجدر الإشارة إلى أن هيمنة الظلم والحيف على جوانب الحياة تجذِّر الإحساس بالألم في ثنايا هذا المنجز السردي حتى يصح أن نقول: “إن الألم قوام الحياة، تماشيا مع رأي فريديريك نيتشه الرامي إلى كون الألم قوام الحياة، ولا يعرف الحياة من لا يعرف الألم. ولا غرو في ذلك مادام الجماد لا يشعر ألما في تفاعله، كما أن الحيوان ينسى الألم بزواله، فإن إرادة الحياة في هؤلاء خطبها يسير، أما الإنسان فخطبه كبير، لأنه إرادة شاعرة بنفسها، ومن ثمة كان كل ما يقف في طريق هذه الإرادة ويعرقلها يحدث ألما، ويترك في نفوسنا مضضا”. وتتجلى صور الألم في مستهل الرواية: “يتوغل الألم مزهوا بنفسه مسافات طويلة في الروح والجسد، فتبدو آثاره واضحة لا تخطئه العين، أجساد منهكة تحاول عبثا البقاء على قيد الحياة، تجاعيد خطها الزمن بقلم القسوة. الشارع العربي الممتد أمامي وخلفي، من المحيط إلى الخليج، بتجاويفه ومنعرجاته وسهوله، مليء بقاذورات العالم الأول والأمراض المستعصية، غطت الدسائس والمؤامرات والانقلابات العسكرية سماءنا، وكانت النتيجة فشلا ذريعا في الحياة”. يعد الألم مكونا رئيسا من مكونات رواية “على حافة المتوسط” وأشد أنماط الألم تكمن في الإحساس بالانهيار القيمي والعلل الاجتماعية التي سادت العالم في العصر الراهن، إذ نلفي ذيوع الدسائس والمؤامرات، الأمر الذي جعل الكاتب يكابد لواعج الألم من قبح الواقع ودمامته، يقول السارد في الصورة الآتية: “لا يوجد وصف لما يقوم به الناس هنا في قرية أجنّا غير أنه مجزرة مقدّسة، ترتعد الفرائص والأبدان الخائفة عند كل إشراقة شمس، وتنتشي الأجساد المكلومة بعذاباتها وجراحها، وترقص على نغمات طقس لا ينسب للتاريخ ولا للموسيقى (…) لم أكن أعتقد أن الأمومة رابطة قوية عند هؤلاء الناس الذين أجهل مكانهم وزمانهم، وأتجرأ على الكتابة عنهم”. تزدحم هذه الصورة بأعنف ألوان الشعور بالمسؤولية تجاه القيم الروحية التي تمثل المصير الخلقي للإنسان. ومن ثم، نستخلص أن المواقف تلح على ذاكرة الكاتب فتشعره بالحيرة والاضطراب، والذهول الذي يداهم نفسه، حيث تتداخل بواعث الأحزان التي تستبد بكيانه. وهذا كله حفز الكاتب على ركوب مغامرة الكتابة الإبداعية مستشرفا الغد المشرق، جاعلا من العالم المرغوب نقيضا كليا لعوالم الإنسان المثقلة بالأوجاع والآلام. وهذا كله يتضح بجلاء في المقطع السردي الآتي: “لا أبحث في الكتابة عن تصحيح مسار القدر بقدر ما أبحث عن الخلاص، عن ما تبقى من آدميتي بين أنقاض المدن، وناطحات السحاب والأشلاء المتناثرة على أرصفة الشوارع هنا وهناك”. نستخلص أن العملية الإبداعية لم تكن وليدة الصدفة لدى المبدع عبيد، وإنما هي متمخضة، بالأساس، عن الرغبة في الخلاص من أدران الحياة والانفلات من قاع الذل الذي يمثله الواقع المعيش. وقد ساعد المبدع اقتحام عالم الإبداع والتجوال في مسالكه ودروبه التسلح بمرجعيات فلسفية متباينة وحقول ثقافية متضاربة تنهل من بيبليوغرافيا غربية وعربية، إذ نجده يقول: “أعددت تصميما مبدئيا لبنية الأحداث قبل شهر رمضان بأسبوعين أو أكثر، وتوقفت أتأمل بعض الكتابات التي قرأتها، ولكن أهم ما شدني فيما طالعته كان رواية إليف شافاق “قواعد العشق الأربعون” و”الفقراء” لدوستويفسكي، و”جيشا” لآرثر كولدن، و”السبيل لعيش آخر” لعبد النبي بزاز. ثقافات مختلفة، وعوالم من زمن تنقذني من جحيم اليومي الذي يتقد نارا باستمرار، حتى صرت أخشى الاستيقاظ في كل إشراقة شمس”. وتبعا لهذا كله جاءت الرواية معبرة عن فواجع الحياة، وعما يقاسيه الوجدان المغربي من بؤس وقهر وحرمان، لذلك تحولت فصول الرواية إلى ألحان لمواكبة الشعور بالغربة والضياع.
2 – المعجم اللغوي
يكتسي المعجم اللغوي أهمية بالغة في تحديد البنيات الدلالية الأساسية في النص، فدراسته تتيح الكشف عن الحقول الدلالية وتحديدها داخل النص كمفتاح لتحديد البنيات الأساسية لها. وإن من شأن إلقاء نظرة ثاقبة على المعجم اللغوي الموظف في “حافة على المتوسط” أن يجعلنا نستشف أن الألفاظ التي استخدمها الكاتب عبيد لبروزيين لا تكاد تخرج عن الإطار الذي كان يستخدمها فيه مبدعو جنس الرواية العربية، ولعلَّ الجديد فيها هو تسخير تلك الألفاظ لأغراض ذاتية، وتحميلها بشحنات معنوية لم تكن تدل عليها من قبل، مما زاد من سعتها المضمونية، وأكسب المعجم اللغوي بعدا جماليا ورمزيا دقيق الأغوار، رسمت ملامحه مجموعة من الحقول الدلالية.
-2-1 الحقول الدلالية
توزَّع المعجم اللغوي، الموظف في الرواية، على حقول دلالية عديدة، غير أن أربعة منها احتلت موقع الصدارة، إلى الحد الذي يصح التوكيد فيه أنه قلما يخلو فصل من فصول الرواية من تلك الحقول الأربعة مجتمعة أو متفرقة. وهي: الحقل القيمي وحقل الألم والحقل الديني ثم الحقل الصوفي، وذلك على النحو التالي: الحقل القيمي: الحسن، الجمال، الهوى، المحبة، النور….حقل الألم: الحزن، الألم، القسوة، الظلمن البؤس، الجهل…الحقل الديني: مبارك، المكان المقدس، شجرة الخلد، قربان، المقدسة..الحقل الصوفي: الورع الصوفي، جذبة، إشراق، شيخ القصبة، السالك..يتضح أن هذه الحقول متداخلة ومتعالقة فيما بينها، بيد أن الحقل الذاتي هو المهيمن بقوة تعبيرا عن التجربة الذاتية للروائي، ومرد ذلك إلى أن اللغة الشعرية عامة هي لغة ذاتية، من منطلق أن الفن، عموما، ذو موقف ذاتي من العالم. ويغذي هذا الموقف الذاتي عنصر الجمال الذي يتولد عن الحدس والإشراق لدى المبدعين والفنانين. يقول السارد في هذا السياق: “كانت في قرية أجنّا أسرة كبيرة تسمى تَنَكِّيفْتْ من قصبة تَقَرْفِيتْ، وفي كنفها ترعرعت فتاة عرفت بحسنها وجمالها، ظالَّا، الملاك الطّاهر، عيناها واسعتان تشبهان عيني ظَبيَ أَدَاكس، وشفتاها بلون الخُزَامى والزَّعْتَر، وشعرها الكث يلامس أطراف قدميها، رفضت أن تنذره لشجرة الخلد كما فعلت الفتيات المتوهجات بحبها، خدّ مورد يشبه الجُلَّنار والياسمين”.إن ذاتية المعجم اللغوي، عند الكاتب، تنحو منحى روحيا، ولعل السبب في ذلك يعود إلى الطبيعة الروحية العامة التي يتأسس عليها المعجم اللغوي. ولعل هذه الذاتية تبدو بوضوح في وصف الجمال الأخّاذ للأنثى الذي يجسده المقطع السردي التالي: “كانت سناء فتاة جميلة جدا، فقيرة ومعدمة مثل شريحة كبيرة من المجتمع، تدرس في جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، شعبة الدراسات الفرنسية”.يصف الكاتب الجمال الأنثوي بوساطة الجنوح إلى العالم الروحي، متجاوزا مختلف الدلالات الحسية والجنسية التي ينطوي عليها المعجم اللغوي، وهو ما يؤكد سطوة الروحي على هذا المعجم، انسجاما مع التجربة المثالية ورؤية العالم لدى المبدع في الآن نفسه. ومن ثمّ، يتطلع المبدع عبيد لبروزيين إلى تجسيد موقفه في أعماق وجدان المتلقي، ويتغلغل بكل ذبذبة خطابه وبكل نسمة من نسمات إحساسه وهمسة من همسات روحه إلى كل زاوية من زوايا هذا الوجدان. لذلك فهو يعمق الرؤيا، ويكثف الصورة، ويشحن الكلمة بكل ما في عمق أحاسيسه من إشعاعات وتفاعلات وأبعاد، ويرسم ببراعة كل ما من شأنه أن يشحذ خيال هذا المتلقي وينفذ إلى إحساسه، بكل صدق وأمانة وعفوية، وانطلاق عن قيود العقد والرقابة.
على سبيل الختم
على ضوء ما تقدم من طرح، نستخلص أن شعرية الخطاب السردي في رواية “على حافة المتوسط” للكاتب المغربي عبيد لبروزيين تنضوي تحت لواء المنظومة الحافلة بألوان شتى من الجمالية الأدبية التي تحققها ماهيته الشعرية. لقد أسعفتنا هذه الرواية في استخلاص الجمال الحقيقي للخطاب الروائي، من حيث اللفظ والمعنى. فإذا نحن نظرنا إلى اللفظ أذهلنا المعنى فغبنا فيه، وإذا نظرنا إلى المعنى أدهشنا اللفظ بإيحاءاته ورموزه، وإذا نظرنا إليهما معا كانت الحيرة كبيرة، فحسن اللفظ ولطفه لا يحجب الناظر عن كثافة المعنى التي توحي بتوجه إبداعي يتم عن طريق الإلهام.


الكاتب : د. عز الدين المعتصم

  

بتاريخ : 07/03/2020