شـهـادة : عز الدين المعتصم أو الزّاهد المتألق

تطول رحلاته وتتعدّد، تستمر أسفاره وتتجدّد، يركب أهوال الصعاب ولا يتردد، يشقى في طريق البحث ويتلذذ، يقيم في محراب المعرفة، ويتعبّد، يزهد في الظهور ويتألق، لا تغريه الأضواء ويتوهج … يلوذ بأقاليم الصمت، وصفحاته تتأجّج، يروم العزلة ويعزف على أحلى الأوتار، يخجل ويصطاد في أعالي البحار، قلمه يهطل مدرارا، وعباراته تجذب الأنظار، وأدواته البحثية تستخرج من مناجم النصوص الأسرار، يحب صعود الجبال، ويكره السير بين الحفر، وفي وقت وجيز نقش الاسم، وشيّد الحضور، وملأ السطور، ونشر الحبور.
إنه عز الدين المعتصم الباحث والناقد الذي لا يكلّ ولا يملّ من ركوب صهوات الحروف، يصر على فتح مناطق الإبداع المختلفة زاده ماء عذب وغزير من المعرفة، وبنزين نادر ووفير من الذكاء، وقدرة هائلة على السباحة في أعماق السطور …
عز الدين المعتصم يشيّد حضوره بعزم وثبات، ينتقي صور حضوره بعناية وإتقان، ودون ضجيج وادّعاء ولا تواكل يواصل الصّعود إلى الأعلى، يتقن رسم خطوات التألق، ويبرع في تشكيل لوحات النجاح، يُعرض عن السّهل ويلحّ على شقّ المسافات الطويلة على متن الصعب والعسير، يمخر عباب النصوص العصية، ويعبر إلى ضفاف النجاة ناجحا غانما …
عز الدين المعتصم سندباد لا تتوقف أسفاره، ولا ينفد زاده، ولا تخبو شمس حضوره، يتسلح بعتاد قوي من المفاهيم والنظريات وبترسانة ضخمة من الأدوات، ويمحو ظلام الجمود والسطحية والكسل بأضواء الخلق والعمق والاجتهاد، مناطق ترحاله عديدة ومتنوعة، يجالس السابقين ويحلق في سموات القديم والحديث، مرة يفتح مناطق الشعر والزجل، وأخرى يمتطي فيها صهوات السرد، ويمضي بعيدا في تضاريس الواقع والحلم والعجيب والغريب … داخل أسوار مدينته يجتمعون كلهم على اختلاف ألوانهم وعصورهم ومدارسهم وهمومهم، يتآنسون جميعهم ابن عربي والمتنبي وأبو العلاء وغاستون باشلار ورولان بارت وجورج لوكاتش والحلاج وسيدي قدور العلمي ورجال مراكش السبعة … وتطول اللائحة وتتسع، وعكس تيار الرداءة والابتذال والضعف، نجد أن عز الدين المعتصم يتزوّد في حِلِّه وترحاله بلغة عذبة وصافية وقوية وسليمة تذكر بلغات السابقين الكبار الأشاوس …
ومنذ كتابه القيم «النزعة الصوفية في الشعر الملحون بالمغرب»، الذي يعد مرجعا هامّا، ومؤشرا قويا على اتّساع معارف مؤَلِّفه وعلى ذكائه وبراعته في شق عباب الصعب والعسير، منذ تلك المحطة المهمة من فصول تألق الرجل وعز الدين المعتصم يرسل رسائل التوهج، ويوقع محاضر الحضور الجميل، فتراه يعتلي هذا المنبر وذاك، ويحلق في هذه السماء وتلك، بالألق نفسه وبالعمق ذاته يبني اسمه ويرسم مساره ويرعى بساتين وجوده الأنيق، فتتوالى حلقات التألق، وتتابع فصول الحضور، ويظل عز الدين شاهرا قلمه يحارب الجمود، مفجرا ينابيع مياهه، يمحو الجفاف مسخرا أدواته المختلفة للإسهام بقوة في إنقاذ الإبداع من أجداث الغياب وبراثن النسيان.
تتكاثر صولاته وجولاته، وتخضر بساتينه وأشجاره، وتعلو أصواته، وتجري مياهه، وتسطع أنوار صدقه وذكائه وعمقه …
ومثلما أنه ناقد وباحث يُشهد له بالذّكاء والعمق واتساع المعرفة، فإنه أيضا إنسان سَمْحٌ وأصيل وكريم، ألوذ بظله باستمرار، فأقطف من أشجار كلامه ما لذّ وطاب من فواكه المعرفة والقيّم والمواقف النّبيلة، وبعد كل لقاء أو حدث أو موقف يزداد منسوب مياه المودة جريانا، وتزداد جبال التقدير علوا …
أذكر أنّنا التقينا أول مرة على هامش نشاط ثقافي احتضنته الخزانة الجهوية بالقنيطرة في ضيافة الكاتب الكبير سعيد يقطين، وتَلتْ اللقاء الأول جلسة أبدعها أخونا العزيز الأستاذ إدريس الحريشي، واستضافها أحد مقاهي الحي الذي نسكنه سويا، فكانت المناسبة سانحة لأهدي عز الدين نسخة من كتابي القصصي «توازيات» ويفاجئني بعد أيام بدراسة عميقة وجميلة في المجموعة القصصية المذكورة … فتتوالى هدايا عز الدين، وتهطل غزيرة، فهو الذي ظل يحتفي بمُنجزي القصصي المتواضع، ويخصه بعناية نقدية فائقة، بل وينتشل بعضه من ظلمات الغياب، وينفض عنه غبار النسيان … وأعترف أنه استطاع النفاذ إلى الأعماق حتى أنّي أحسست مرات كثيرة كأنّه كان بجانبي وأنا أكتب …
عز الدين المعتصم، الآن، سامع لكل نبضاتي الإبداعية، وعارف بكل اليسر والعسر، ومطّلع على مشاريعي الثقاقية، وشاهد على قلقي وعثراتي، وهو الآن قارئي الأول الذي أعرض عليه كتاباتي الجديدة قبل نشرها، كما يفعل هو حين يشرّفني بالاطلاع على ما جدّ في مساره البحثي والنّقدي، ويطلب مني إبداء رأيي المتواضع فيه.
وأعترف أن عز الدين المعتصم عاش معي مخاضات كتابي القصصي الجديد الموضوع، حاليا، بين أياد آمنة قصد النشر، حيث شاركني مراجعته وتصحيح أخطائه وتقويم اعوجاجاته والإسهام في رقنه وتصميمه.
لهذا وذاك، للسابق واللاحق، لكل ألوان التشجيع، وكل فصول الود ولوحات الإشراق الإنساني النبيل والنظيف، لا أجد العبارات القادرة على شكره، فماء دعمه غزير، وظل رفقته وارف … أسعد كثيرا بالسير صحبته في شوارع الإبداع وبالإبحار رفقته في صفاء الصداقة وعذوبة اللقاءات وحلاوة ومرارة الحياة.
صاحِ هذه صفحاتك تزدان بأهِلّة النجاحات، وهذه فصولك تختال ضاحكة وسعيدة تتملى بالمحاسن، وتتغنّى بالإنجازات …
صاح تشهد اللقاءات العذبة الصافية، والأيام الماضية والباقية، ومساءات الثلاثاء والخميس والأسفار والجلوس، وتشهد الأقدام والرؤوس، تشهد البياضات والأوراق والأقلام والمحبرات، يشهد الحاسوب ويشهد رونق والصقيلة، يشهد الخبز والملح والنهر والبحر، وتشهد المكالمات المتوالية والطويلة، تشهد عناقيد الكرم العالية وأنهار المحبة الجارية.
كلهم شهود أيها الودود …
تتوالى الشهادات وتطول، وتظل متسامحا وكريما وذكيا وهادئا وقويا ومزهرا في كل الفصول …
صاحِ دامت لك الدرجات العالية، وصفحات التألق المتتالية، وعيون العطاء الجارية …
هنيئا لك ب «النزعة الصوفية في الشعر الملحون بالمغرب» وما تلتها من علامات العطاء والتوهج، وهنيئا لنا بك ناقدا فذا وباحثا رصينا وإنسانا أصيلا …
وإلى تألق جديد أيها العزيز …

هوامش:

1 * قدمت هذه الشهادة بمناسبة حفل توقيع كتاب «النزعة الصوفية في الشعر الملحون بالمغرب» الذي نظمه الراصد الوطني للنشر والقراءة بتنسيق مع المديرية الجهوية للثقافة بجهة الرباط سلا القنيطرة ضمن فعاليات المعرض الجهوي للكتاب بمدينة مشرع بلقصيري يوم 14 نونبر 2021.


الكاتب : محمد الشايب

  

بتاريخ : 01/12/2021

أخبار مرتبطة

الأثر الطيب والتأثير المستدام   نظمت حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي، لقاء لتقديم كتاب بعنوان « محمد الحيحي.. ذاكرة حياة»

بايعوه و باعوا له كل شيء وقف جندي بزيه المضمخ دما ليس ليقول : أنا واحد من المليون شهيد بل

أعلنت جائزة غسّان كنفاني للرواية العربية التي تنظمها وزارة الثقافة الفلسطينية عن الروايات المرشحة للقائمة الطويلة بدورتها الثالثة للعام 2024،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *