شيء من التاريخ: كيف عاصرت جريدة «التحرير» أحداث المغرب وكيف مهدت لتطوراتها المتلاحقة

يرتبط تاريخ الأحداث،التي وقعت في الستينيات من القرن الماضي، وبشكل من الأشكال، بتلك الجريدة التي كانت علامة بارزة في تاريخ الصحافة الوطنية، إنها جريدة ( التحرير) الصادرة في أبريل 1959، والتي عمرت حوالي أربع سنوات ونصف٠ ولقد كان لي شرف الانتساب إلى أسرتها والعمل مع أفرادها تحت قيادة المجاهد المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، وكان قد أسند إلي قسم الأخبار الدولية لتتبع كل ما له صلة مباشرة أو شبه مباشرة بالمغرب، ومواكبة ما كانت تعرفه بلادنا من تطور في مسيرتها النضالية، وكنا نستعين في التزود بالأخبار بما تبثه الإذاعات الأجنبية باللغتين العربية والفرنسية على اختلاف مشاربها، ولقد كانت إذاعة تل أبيب من أهم الإذاعات الإخبارية من الناحية المهنية، وإذ أخص هذه الإذاعة بالذكر فلأن لها صلة بما سأتحدث عنه…
لقد حدث أن التقطت في إحدى نشرات هذه الإذاعة الإسرائيلية خبر اكتشاف تورط عسكريين أمريكيين من القاعدة العسكرية الأمريكية بمدينة القنيطرة في عملية تهريب أسلحة، دون أن تقدم تفاصيل عن تورط مواطنين مغاربة أو عن طبيعة الأسلحة، ولقد حررت الخبر وسلمته لسكرتير التحرير الأستاذ محمد الصديقي المسؤول عن النشر في غياب الأستاذ اليوسفي، وارتأى عدم نشره، وأعتقد أنه حتى بعد مرور حوالي ستين سنة سيكون الأستاذ الصديقي قد احتفظ بشيء من الذكريات عن ذلك الحادث .
لم أكن قد أدركت الأهمية التي ظهرت لهذا الحادث فيما بعد، ولكن تيقنت أن مصدر الخبر كان أحد مراسلي الإذاعة الإسرائيلية الذي حظي بالانفراد بنشره، لأنه كان من بين المراسلين الصحفيين المعتمدين الذين تخصص لهم قاعة في وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين، وقد سبق لي أن شاهدت الصحفيين يشتغلون في كلتا الوزارتين أثناء زيارة للولايات المتحدة ضمن وفد صحفي مغربي في دجنبر 1960.وبالعودة إلى قضية اكتشاف تهريب الأسلحة، يبدو واضحا أنه بتنسيق مع السلطات المغربية، تمكنت هذه الأخيرة من اعتقال المرحوم مومن الديوري، الذي تورط في عملية تهريب السلاح، هو والمقاوم أكوليز المكنى بشيخ العرب، الذي تمكن من الاختفاء، ويقال إن الفقيه محمد البصري متورط كذلك في هذه العملية التي استغلتها جهات معينة، بزعامة الجنرال أوفقير لتحولها إلى مؤامرة نسبت ظلما إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان يزعج النظام بمواقفه ونفوذه الشعبي.وحدث بعد ذلك أن كل شيء كان قد أعد لتقديم زعماء وأطر الاتحاد للمحاكمة التي كان الهدف منها تجريد هذا الحزب من موقعه كأقوى قوة شعبية كانت قد اكتسحت كثيرا من المقاعد في الانتخابات السابقة، أو على الأقل نافست ما كان يسمى بالأحزاب الإدارية، وقد أريد للمحاكمة أن تبلغ أهدافها المتوسطة المدى لتمهد لما حدث من تآمر على النظام من طرف من كانوا محل ثقته…
لقد جرت أطوار تلك المحاكمة التاريخية في تلك البناية الشامخة التي تتوسط شارع محمد الخامس بالرباط، والتي تحولت في السبعينيات، إلى مقر للبرلمان بمجلسيه، وللتذكير فإن تلك المعلمة المعمارية أراد لها الفرنسيون أن تشكل إلى جانب بناية بنك المغرب وبناية البريد المتميزتين بطابعهما المعماري المغربي، معالم تخلد عهد الحماية التي فرضت على المغرب، وكان ذلك بمبادرة من المقيم العام المريشال ليوطي الذي أثبت التاريخ أنه أحب المغرب حبه لوطنه، وكان بحق الرجل الذي أنجزت على عهده كثير من مظاهر الدولة الحديثة ، خصوصا فيما يتعلق بإنشاء مدن أوبتشييد أحياءعصرية في المدن العتيقة، كان هدفها إيواء المهاجرين الفرنسيين والأوربيين الذين أريد لهم أن يكونوا نواة للاستيطان الإستعماري قصد استغلال ثروات المغرب والنهوض باقتصاده لفائدةالمستعمرين.
والواقع أنه لا يمكن للمرء أن يغفل ما تم تشييده، وبتحفيز من المرشال ليوطي في ميادين البنيات الأساسية كالطرق والموانئ والمطارات، ونخص بالذكر تشييد خط السكك الحديدية ومحطاتها من مراكش وإلى الحدود الشرقية وعلى طول ألف وخمسمائة كيلومتر، لتكون صلة وصل بين المغرب والجزائر، وأنه لمن سخرية القدر أن يسجل التاريخ ما يدين حكام الجزائر نتيجة تجرئهم على قطع الصلة بين البلدين وتجميد كل وسائل الاتصال البري عن طريق إغلاق الحدود وتعريض البنيات الأساسية للمواصلات للتخريب من جراء الإهمال .
وإلى جانب ما تحقق في تلك المجالات لا يمكن للمرء أن يغفل الإشارة إلى مظهر آخر من مظاهر الدولة الحديثة التي سارعت الحماية إلى تنظيم دواليبها، ونعني بذلك سن القوانين التشريعية والتنظيمية التي كانت تصدرعلى شكل ظهائر سلطانية باسم الدولة المغربية التي لم يجردها نظام الحماية من شخصيتها الاعتبارية، بيد أن السلطات الفرنسية أقامت إدارة موازية تمثلت في مديريات متخصصة تشرف على تدبير شؤون الدولة، وعلى يد أطر فرنسية، وهي التي كانت لها اليد الطولى في حكم البلاد.
ونعود إلى تلك البناية الشامخة التي جرتني للحديث عن المآثر العمرانية والمنجزات التحديثية للمغرب، لأشير إلى الأحكام القاسية، ومن بينها أحكام بالإعدام في حق بعض الاتحاديين، سرعان ما عمدت الدوائر العليا في الدولة إلى مراجعتها عن طريق العفو وفي مدة لا تتعدى بضع سنوات، واستعاد عدد من قادة الاتحاد حريتهم، ومنهم من هاجراقتداء بالفقيه محمد البصري الذي تحول في الخارج إلى معارض راديكالي يستهدف الإطاحة بالنظام الملكي كما قيل، ووجد في أول الأمر من يحتضنه من القادة الجزائريين .
لقد حكى لي المرحوم مومن الديوري الذي كانت تجمعني به صداقة نضالية بمدينة القنيطرة عن قساوة الجنرال أوفقير عندما كان يشرف على إعداد الإجراءات تمهيدا لمحاكمة الاتحاديين، وقد بدا أنه بقدر ما كانت الإدارة الترابية والعدالة قاسيتين ، بقدر ما أظهرت الدوائر العليا تسامحا بعث الارتياح لدى كثير من الأوساط الاتحادية، ولكن لم يتحول إلى انفراج على الساحة السياسية…
ولقد اتضح مما سجله التاريخ بعد أقل من عشر سنوات أن الجنرال أوفقير، بمحاولته محاربة الأحزاب الوطنية، وخصوصا الاتحاد الوطني وحزب الاستقلال، كان يهيئ للاستيلاء على الحكم عن طريق الانقلاب، لكنه إذا كان قد استطاع أن يخفي تواطؤه في محاولة الانقلاب الأولى لسنة 1971 ، فإن القدر أبى إلا أن يلقى مصيره المحتوم الذي يلقاه المتآمرون، ومن حيث اعتقد أنه أعد لمحاولة الغدر والخيانة ما يضمن لها النجاح، وبتواطؤ من ضباط للطيران أراد الله أن يحبط محاولتهم فيما يشبه المعجزة ، وينجو المرحوم الحسن الثاني من الاغتيال ، إذ استطاعت الطائرة المدنية التي تقل جلالته ومرافقيه أن تصمد لهجوم طائرات عسكرية حاصرتها وهاجمتها في محاولة إسقاطها ليذهب ركابها ضحية الغدر والخيانة
لكن هل كان تصرف أوفقير، الذي لم يجد في الستينات تجاوبا من الملك الحسن الثاني ، كما يبدو من طي صفحة مؤامرة 1963 ، هل كان تصرفه بمثابة نهاية للصراع على السلطة ، ولا أقول الحكم ، بين الحسن الثاني والحركة التقدمية والراديكالية على الخصوص ؟
وبالتأكيد فانه لم يحدث ما كان متوقعا ، إذ أظهرت الأحداث المتلاحقة أن ذلك الصراع لم يتوقف ، لأن جذوره تكمن في الخلاف المذهبي بين الطرفين حول طبيعة الحكم ، وبالأساس حول النظام الذي اختارته المؤسسة الملكية لحكم المغرب وتدبير شؤون الدولة.
وفي اعتقادي ، وطبقا للأحداث التي تعاقبت خلال عقود من المواجهات الخارجية التي خاضها المغرب ، فان ما آلت إليه الأوضاع كان في مصلحة الأمة والوطن ، لأن أسلوب الحكم الذي انتهجه الملك الحسن الثاني هو الذي مكنه من تعبئة الشعب المغربي لتحرير الصحراء وصيانتها ٠ وأعتقد أن عددا من ذوي الاتجاهات اليسارية الراديكالية ،ومن ذوي الاتجاهات الماركسية المتطرفة ، لم يدركوا حساسية وخطورة المواجهة التي كان الحسن الثاني يتحمل عبِءها في صمت وصبر، وأتخيل أنه لم يكن رحمه الله يجد الفرص لينعم بنوم هادئ ٠ كذلك لم يقدروا ما تتطلبه المعركة من مجهود فكري ومن أرصدة مالية ، ومن توحيد للصفوف ونبذ للخلافات الإديولوجية مادام أن هناك من يترصد المغرب للمساس بوحدته الترابية.
لقد شهد المغرب وعاش أحداثا مؤلمة سنة 1981 وسنة 1984 لم تكن ظروف المغرب تسمح بحدوثها ، وكان على مدبريها والمتسببين فيها أن يدركوا أن الدولة لم تكن لها الإمكانيات المالية لمواجهة وتسوية المشاكل الاجتماعية التي تفاقمت ، نتيجة ماكانت تتطلبه ظروف المعركة ، ووجوب إعطاء الأسبقية للتسلح من أجل مواجهة الحرب الظالمة التي كانت تمولها الجارة الشرقية من الريع البترولي ، وبدون حساب
تلك فترة قاتمة من تاريخ المغرب المعاصر أنهاها الملك الحسن الثاني رحمه الله سنة 1998بالتفاهم مع قادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والقوى الوطنية ، ففتح بذلك صفحات مشرقة من التعاون والتازر بين المؤسسة الملكية والقوى الوطنية ، مكنت المغرب من أن يجتاز بنجاح انتقال الملك من المرحوم الملك الحسن الثاني إلى خلفه جلالة الملك محمد السادس ٠
وهكذا تظل الذكريات التاريخية للمغرب ، حلوها ومرها ، تنعش الأمل في التقدم والازدهار ، وتقوي الإرادة في الدفاع عن وحدة التراب الوطني ومواجهة ما يحيق بالوطن من أخطار


الكاتب : عبد السلام البوسرغيني

  

بتاريخ : 18/07/2023