«صدى المفاتيح»

الصمت جائع، ولسان الفراغ يطول على جدران الذاكرة، يحاول إلصاق أشياء لزجة علقت برأس لسانه، كصورة المغنية الرشيقة، التي سرعان ما نساها جمهورها، لأن وزنها تجاوز السبعين كيلوغراما، كصورة أجمل كلب في العالم، كصورة مكبر صوت، يشبه مسدسا، كصورة مجنون مشرد يردد أبيات بعض المعلقات بأزقة المدينة القديمة، كصورة تنين يحرق رسائل الحب وهو يحاول تقبيلها ..
العطل الذي أصاب حاسوبه فجأة، ينبهه إلى عطل أكبر أصبح يعيش
فيه، مسمرا في مكانه، يحاول استيعاب ما جرى له.
يكتشف وقد بدأ جسده يعيد حركته التي كاد يبتلعها ذلك العطل، أن لا أحد يشاركه قلقه، بل يتهيأ له أنه للتو ينزل من قطار جاء به من مكان بعيد، بدون تذكرة ولا حقيبة سفر .. نظراته الحائرة تتجول في أركان البيت، برد قارس، يجهل مصدره، يتسلل إلى أوصاله، يهب مناديا أحدا ممن يشاركه دفء المكان، فلا يستطيع تذكر اسم من أسمائهم، بين كفيه يضع رأسه ويضغط بهما عليه، وكأنه يعصر ذاكرته التي أبدت له الجفاء، وخانته..
في غمار انشغال نظراته بالبحث .. تقع عيناه على صورة والده العسكري، والتي التقطت له في زمن الأبيض والأسود، يحيط بها إطار خشبي بني اللون، تفاصيل يلتقطها صغيرة، لكن يدها الدافئة بدأت تذيب مساحات كبيرة مما حل بذاكرته من جليد..
صوت مفاتيح تجعله يحول نظراته من الجدار إلى باب البيت المغلق، الآن يتذكر من صاحب المفاتيح الموجود خلف الباب، قبل أن يُفتح هذا الأخير، وقبل أن يهنئ نفسه بهذا الاكتشاف الكبير، يتحرك المفتاح داخل القفل، ويفتح الباب، لتتفتح الذاكرة وتنتعش برؤيته لأبيه السبعيني، وقد أمسك بيده حزمة من المفاتيح، مفتاح البيت.. مفتاح غرفته.. مفتاح الكاراج مفتاح المتجر الذي يعمل فيه، مفتاح خزانة الملابس، مفتاح السيارة، ومفاتيح أخرى لأماكن أخرى، هو لا يؤمن بالمفاتيح الأوتوماتيكية ولا الأقفال الأوتوماتيكية..
المفاتيح التي يثق بها تلك التي لا تكاد تغادر مشبك حزام سرواله، وهي تتدلى محدثة صوتا يحيلك على أبواب مختلفة الأنواع والأشكال.
جيناته الوراثية أعفته من مفاتيح أبيه وأصواتها، لكن جينات العصر المكتسبة، ألقت بكله بلوحة مفاتيح حاسوبه، إذ صارت عوالمه تفرغ في سلته تحقيق أسباب السعادة، التي ظن أن والده البسيط حُرِم منها..
أربعة أشياء تخلصك من جلدك الميت
عشر وسائل تمكنك من مفتاح» باس بارتو»، لتسمع كل الأبواب تقول لك: أبرا كادابرا
شبيك لبيك العالم كله بين يديك..
فقط اضغط على الزر..
جرب جودة تلك السعادة حين ينقطع التيار الكهربائي
هاتفك المحمول سيصبح جثة هامدة.. عاجزة أزرار ه على اقتناص مسببات السعادة..
سأجرب معك ..وسنعد إلى ثلاثة ثم ندخل أيدينا في قلب السلة .. هذا ما كانت تحدثه به أصوات تنبعث من حاسوبه ..
بنبرة عسكري يقود فيلقه إلى ساحة الحرب، يخاطبه والده قائلا:
لدغات عقارب الوقت تثبت أن السعادة لا تعرض بأجنحة الأسواق أو رفوفها ..
بل تؤخذ أخذا ولا تعطى
العالم من حولك يستيقظ
وأنت تظن أن الليل ما زال في بداياته
اغرس نفسك بحقل الصبار
أريدك أن تؤمن بصدق الأشواك، وترتديها معطفا، أريدك أن تسلك طريقا قاحلة، لتجيد لغة التصحر، وتتجاهل جمال ورد، سرق ذات جوار من الصبار شوكه، مروجا لجماله الكاذب ..
احم شمعتك لتضيء ما حل بك من عتمة، وامنع جراح الفشل من وصولها إلى السطح، يكفيك صدى قهقهاتها الساخرة.
– مدخراتك التي احتفظت بها ياوالدي لمواجهة « دْواير زْمان» سخرتها لمتابعة دراستي، للحصول على الشهادات العلمية المرجوة، هأنذا قد تخرجت، ولم أتهاون في البحث عن عمل، في السنة الأولى والثانية والثالثة، بعد تخرجي، لكن لم أجد في وجهي إلا أبوابا موصدة، تعجز مفاتيحك ومفاتيح لوحة حاسوبي على اقتحامها ..
يد الحزن طويلة يا أبي، لكن ليست طائشة، بما أني مازلت أجيد تدوير ما يعترض طريقي من خيبات ..
وفاة أمي بعد تخرجي، زاد من سمك الأسوار وعلوها، فأصبحت تحجب عن حديقتي الهزيلة دفء شمس، نصيبي منها احتراق.
على سطح وجه أمي، لا أظهر إلا لأجعل الغياب غائرا، وأجعل أيضا الأمل عودا يابسا، أهش به على صغار اليأس ..
متمسكا أثناء ذلك بذكرى جدتي، رغم رحيلها منذ زمن بعيد، إلا أني أجد المسافة التي تفصلني عنها قصيرة جدا، حين تنهي سرد أحجيتها وتصفق بيديها النحيفتين إيذانا لنا بضرورة الخلود إلى النوم، أندس بين تجاعيدها السمراء المكتظة على جسدها النحيل، لأتمم قراءة ماتحمله من المشوق من الحكايات موهِما إياها أن النوم نال مني وأنا على الفراش الذي بجانبها أمتد وأتمدد ..
غياب جدتي ليس غيابا قليل الحيلة
غيابها حضور معتق، خطاه بالذاكرة تتكاثف مع مرور دقات الزمن
كحبات القمح التي تخبئها النملة
أخبئ لحظات الفرح حبة حبة
أين ..
في مكان بعيد عن النسيان
أين ..
خلف باب تهابه الريح
لا وقت لدي ..
القطار واحد
الاتجاه أيضا واحد
أنا المسافر ..أنا الحقيبة، ..المحطات غدت بالذاكرة تستقر، وظلها بي ومعي السفرَ يواصل ..
فارغا، أدخل يدي في جوف الحياة لأملأها بابتسامات صغيرة، بحجم الكف، بتنهدات تلملم السائل من الذكريات وبأشياء أخرى تقلص مساحة الموت في نظراتي، وتزيح حجر عثرة من أمام الخطوات، أنا الآن أبحث بي عن وجه مطيع، لا يسمع، لا يرى، ولا يتكلم، وجه لا يخذلني عند حزني، عند غضبي، عند فرحي ..نعم كل هذا سأحققه عبر لوحة المفاتيح لحاسوبي، لأحصل على وجه بملامح روبوت.. ذو بشرة من السيليكون، وجه يجهل معنى الأحاسيس المتعِبة، يتقن التقليد فقط، بطريقة ميكانيكية، يبكي، يفرح، يغضب ..
وهو يستمع إلى كلام ابنه، أصبح صمت الأب، نهرا جاريا
يجعل كلام ابنه ينزل في موضعه خارج الركود
بابتسامة مطمئِنة، ينزع حزمة المفاتيح من مشبك حزام سرواله ويضعها بقلب كف ابنه، ثم يجلس بجانبه ويبدأ في الضغط على لوحة أزرار مفاتيح الحاسوب، والابتسامة العريضة على وجهه تتحول إلى قهقهة..
وكطفل يستلذ بحضور أبيه في عالمه، ينظر إليه بعينين منتعشتين، وكأنه يأخذ حماما باردا في يوم قائظ، بابتسامة هادئة يقول:
أحيانا لأنفسنا لا نظهر، فكيف نطالب الآخر إلينا ينظر ..
سأغمض عيون الأمنيات
وأثبت قدمي على ما تحتها من أسفلت وأواصل المسير..
أعدك، لن أترقب فرحا فاته النظر إلى وجهي .


الكاتب : سعيدة لقراري

  

بتاريخ : 19/08/2022