صور سريعة من ديوان «غيمة تمنعني من الرقص» للشاعرة مينة الأزهر

ديوان «غيمة تمنعني من الرقص» للشاعرة مينة الأزهر، التجربة الشعرية الأولى لشاعرة تنتمي للطبيعة، لفضاء النهر والبحر، أم الربيع وشاطئ الحوزية.
دعونا ننصت للصوت الأول، لطالما كان الديوان الأول كنبتة اللبلاب التواقة إلى الارتقاء فوق المنصات العالية.
سأنصت لصوت الشاعرة وأقتنص من الديوان بعض اللقطات النابضة بالمعنى، وأتمنى أن أكون قارئا جيدا للديوان. جيدا ليس بمعنى أن أحسن التأويلات، بل أن أحس بنبض الكلمات، إذ من خصائص الشعر أنه يحرك الوجدان والمشاعر. الكلمات «توقد فتيل الوجدان» كما في ص75 من الديوان.
هي قراءة عفوية تلقائية، أعتمد فيها على ما ينطبع في مزاجي من أول وهلة، هكذا سأكون مخلصا لذوقي الشخصي كقارئ للشعر، دون أن أستنجد بأية ثقافة نقدية، دعوني أقرأ الديوان متحررا حتى من عناوينه. وسأعتبر الديوان قصيدة واحدة طويلة.
– من البداية، كان الإهداء للأب، والأب فقط، كأن الشاعرة تقول لنا الأب أوفى حبيب، الأب هو الحبيب الأول ولو أحبتني كل الدنيا. ربما يتحدد هذا المعنى من خلال هذا الصوت «بلا حدود أوليتهم إصغائي التام/ صفاء قلوبهم كان وهما».
– وبدون أي تكلف، يمكننا أن نفهم نصوص الديوان بسهولة ووضوح كما يمكننا أن نفهم حزنَ أي شخص حزين صامت من عينيه، ففي قصيدة «نزيف وهوس»، نقرأ «أصمت فتنبجس الكلمات من عيني».
– يظل الإنسان مثقلا، يعاني من جبروت قوة تفوق قوته، قوة جاثمة على روحه، يصير كل همه محاولا التخلص من قلقه، ومهما تخففت العوالم والأشياء حوله. ففي كل الحالات، يتمنى لو يتخفف من ثقل أعبائه هو الآخر، هكذا نجد تطلع الذات الشاعرة إلى التخفف في نص «خريف وحنين»: «تتساقط أوراق الشجرة الكئيبة ولا تتساقط خيباتي».
– في قصيدة «ظلي المرتجف» تصور تشوهاتنا ونحن نعيش حالة صحية ونفسية غير سوية تبدو لنا صورنا وأفعالنا وملامحنا مزيفة: «نهر الربيع، صورتي فيه ما عادت تشبهني».
– وعلى ضوء الوحدة والفراغ وألم النهايات واللَّااهتمام الخ، يمكن أن يصير الإنسان تائها كورقة في مهب الريح بلا انتماء. كأن ثمن الفراغ هو هذا اللاانتماء الضائع. معنى يتبادر إلى الذهن من مقطع: «فارغة كأني بلا انتماء». في قصيدة «سرداب الخنوع.»
– وأمام فقدان لذة المشاعر، وفقدان متعة العواطف، حتما سنتظاهر بجرعات زائدة من تلك المشاعر لنغطي على حرماننا وافتقادنا، كأي عقدة نقص نحاول ما استطعنا إخفاء انعكاساتها على ملامحنا، نقرأ في قصيدة «فلتة مكسورة «: «أبالغ في الشعور رغم يتم العواطف».
– اللافت للانتباه في الديوان لجوء الشاعرة إلى الحلم، توظيف تيمة الحلم يأخذ تموضعات متنوعة ومختلفة على امتداد قصائد الديوان، ربما لأنه الكون الموازي بتعبير الروائية سوزان كايزن في روايتها «فتاة مشتتة»، الحلم، الكون الموازي الذي نتخيله أو نشيده بتأملاتنا وآهاتنا وتمثلاتنا، إنه المكان المثالي الذي نقضي فيه أجمل لحظاتنا.
ففي قصيدة حظ عاثر، نقرأ «تجرأت على الحلم»، بينما في قصيدة «ضعف أنثى» نقرأ «لم أعد أريد حلما». وفي قصيدة أمل في الحلم نجدها تقول: «مازال في وسعي أن أحلم». في قصيدة روح بئيسة نقرأ: «أفقد الرغبة في الحلم». وفي عارية تقول: «أستعيد فكرة تدمير حلمي». وفي قصيدة شجب على أهداب الروح تقول: «سئمت من الحلم/ من الاستمرار في عشق/داخل سرداب العجز». وفي نص»انهيار» تقول «أجدني عاجزة حتى عن تدمير حلمي».
– فُرص الأمس، مثاليات الأمس، الأمس الذي يحيل على الماضي، هل هو وقتنا الأغلى، هل هو زمننا الأفضل؟.
الأرجح أن الشاعرة باتت تحس بأفضلية الأمس وهي تواجه إخفاقات اللحظة، لذا نجدها تستسلم، كما في قصيدة عجز وتفاهة: «أستسلم لملامة الأمس».
لكن ما هو الإثم الذي نرتكبه حتى نعيش وحيدين في عزلتنا رغم تواجدنا في عالم ضاج وصاخب، ترى ما الذي اقترفته الشاعرة كذات راغبة في الحياة وبالتالي أشعرها بلاجدواها في تلك المنطقة الغامضة من العالم التي اختارت أن تنجذب إليها؟ نقرأ في نص «روح بئيسة»: «وحيدة / في منطقة غامضة / دون ذاكرة»؟.
وفي «عارية أنا» تصور لنا الحياد بوصفه: «حياد عاجز». هل هي هكذا صفة الحياد، أن نكون عاجزين؟ مادمنا لا نستطيع أن نكون مع أو ضد فنحن عاجزون. ربما العجز/الحياد أن نثبت بحيادنا قوة القوى المتضادة، أو ربما يظل وجودنا ذاك الوجود المعلق بين طرفين متناقضين. إذا سُمح لنا بالقول.
وأنت تتوقف عند مقطع «في لحظة وعي خاطف» تشعر كأن الوعي وميض كهربائي سريع، أو كأننا إلى الآن نعيش بنصف الوعي، بأقل الوعي. أو كأن الوعي يأتي بغتة، كالتماعة ضوء، ربما نحن نعيش في حالة من اللاوعي الدائمة بينما الوعي لحظة خاطفة، كما الفرح الطارئ والسعادة المؤقتة.
لا أفهم إصرار الذات الشاعرة على أن تستمر على قيد الطفولة؟ تريدنا أن لا نودع طفولتنا، أهو الخوف من شيخوخة مدمرة سرعان ما ستدفن أرواحنا في جوف الأرض؟ نقرأ «بلغتُ ما بلغت من العمر/ ولازالت دميتي تحت إبطي/». إننا لا نريد أن نكبر، نود لو نستمر كما كنا قبل الآن، أو أن نكبر بإيقاع بطيء. تلك هي الحقيقة.
نحن نحلم، إذن نحن عراة. أعتقد أنها ترجمة حرفية مناسبة لمقطع «لبستُ عراء الحلم» من قصيدة «تعيسة المطر».
وبين ما يمكن أن نسميهم (النائمون في الماضي) و بين (القادمون من المستقبل) لعلنا نستطيع، أو لا نستطيع، التوفيق بين التساؤلات المتجددة وبين تلك التي يجب أن تدفن. هنا تعلن الشاعرة في انكسارات شذرية أننا يجب أن نرى العالم ونكتشفه بتساؤلات الراهن لا بمخلفات الماضي. تقول : «تَعَثَّرَ من التساؤلات/ رجلٌ من الماضي/ بقاؤه عبث».
في النهاية: سحر الشعر، أن نهرب إلى صوره الملتقطة ببراعة، تلك المنبعثة من روح صافية تلقائية، بعيدة عن أي نزعة ترميزية، تسمح لنا شاعريتها بامتلاك روح مُشبعة بالحكمة. شيء من هذا حدث لي وأنا أتأمل في منطوق ولا منطوق ديوان «غيمة تمنعني من الرقص» لشاعرة الوادي المبدعة مينة الأزهر.


الكاتب : محمد غزلي

  

بتاريخ : 15/12/2023