صيدلية الأفكار 9- السوق و السوبيرماركت موت الكلام

الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .

 

لماذا نريد أن نجعل من السوق أساس كل علاقة اجتماعية ؟ على أي أساس نتخيل أن الرابط الاجتماعي الضعيف بين الغرباء بإمكانه ان يكون أيضا أساسا لروابط المجتمع ؟ هل لان المجتمع ينتج أكثر ستكون درجات وضوحه الاجتماعي اكبر ؟ رهن أهداف المجتمع بالإنتاجية و النمو يجعل رفض و إبعاد الهبة مفهوما ، فطبيعة الهبة مضادة للنمو ، دليل ذلك أن البوتلاش اعتبر من طرف السلطات الكندية إتلافا و تدميرا للمبادرة الاقتصادية و كذا للأخلاق . و بصيغة أخرى إنه يعيق النمو و التحديث و العصرنة.لهذا السبب سيتم اعتماد استراتيجية توسيع منطق السوق ليشمل مجموع العلاقات الاجتماعية ، و من تم تحويل المجتمع في كليته إلى “ نسق للنمو الاقتصادي “ . ما الذي يتلفه البوتلاش( طقس جماعي يتم ضمنه الاحتفال و التباهي بتدمير الممتلكات الشخصية ) ؟ هل يتلف الثروة أم القيم التي تخلقها الثروة ؟ هل يتلف الثروة و يدمرها أم يدمر و يتلف التصور الاجتماعي للثروة بوصفها أس الروابط الاجتماعية ؟ هل يعيق البوتلاش النمو أم يعيق نمو الحروب الآدمية ؟ ألا يحول البوتلاش و الهبة بشكل عام مسار الحروب البشرية باتجاه حروب الممتلكات ؟ ليس البوتلاش او الكولا أفعالا اقتصادية في جوهرها و أسها ، بل هي أفعال رمزية كلية تستهدف ترسيخ دوران قيم العيش المشترك . يجرد منطق السوق الهبة من طبيعتها الرمزية و الأخلاقية و الاجتماعية الكلية و يعرضها مختزلة في مظهرها التبادلي الاقتصادي ، و ذلك لأجل تبرير تضادها معه و من ثم مع الحياة الاجتماعية المعاصرة .الهبة ليست نقيض السوق ، بل نقيض العنف الذي يولد ه السوق و يغذيه .إنها نقيض الحذر و الخوف و الكراهية التي يولدها السوق في العلاقات الاجتماعية . و هي نقيض إمحاء الصلات و الروابط الاجتماعية و نزولها لدرجتها الصفر تحت صيغة الغرباء في مجتمعهم (السوبرماركت هو النموذج المثالي للغرباء في مجتمعهم) .تحاصر نظريات السوق الهبة و تلاحقها الإيديولوجيا الليبرالية في اليومي بكل عتادها الإعلامي و إنجازاتها الاقتصادية وقيمها النفعية و مؤسساتها التربوية … قصد ترسيخ أفكار كبرى مسبقة عنها تجعل منها ، أي الهبة ، مقابلا للسلوك الساذج و المنافق . يتحدث الناس في اليومي عن الهبة بصيغة الماضي . لقد ولت و اندثرت مع اندثار قيم المجتمعات التقليدية ، لذا يظل حضور بقاياها هنا أو هناك ، في بعض الأماكن ، أوفي سلوكات بعض الأفراد شكلا من أشكال النفاق الاجتماعي ليس إلا . فمن يهب لا يهب بمنطق الهبة(العطاء و السخاء و الإنفاق النبيل ) ، بل بمنطق السوق ( العطاء لأجل مضاعفة الكسب ،أو لشراء معبر من معابر الربح ، أو لتسهيل الحصول على مكانة في السوق ). من يعطي بمنطق الهبة لا يعدو أن يكون ساذجا و لن يمكنه سلوكه ذاك من الدوام في العيش الكريم في المجتمعات المعاصرة . تروج الإيديولوجيا الليبرالية لكل هذا بناء على كون النزوع الطبيعي للناس جميعا في المجتمعات المعاصرة هو الكسب أكثر .
لكن و على الرغم من كل ذلك لازات الهبة حاضرة و موجودة في الحياة اليومية . و وجودها من طبيعة الوجود الإنساني التي تعمل الليبرالية المتوحشة على تدميره . الإنسان كائن علائقي و ليس موجودا إنتاجيا . و الشغف الخاص بالعطاء و تلقي العطية يرتكر بكل بساطة على حاجته كي يحب و يكون محبوبا . إنها حاجة أقوى و أعمق من الحاجة إلى مراكمة الربح و الكسب . لازال الناس في اليومي يتحدثون و يتحاورون و يتبادلون التحية و الكلام من دون انتظار للمقابل و من دون حساب لدرجات الربح و الخسارة .إنهم يشكرون بعضهم البعض و يعتذرون ويتهامسون و يحكون .. و كل ذلك هبة . الكلام هبة و الكلمات و التحيات هبات مجانية تستدرج الأفراد إلى دائرة الهبة المعضدة للروابط الاجتماعية . يتعلق الأمر “ بمؤسسة هبة الكلام institution du don des paroles» و التي لا تناقض السوق في ذاته ، بل تناقض استدراج الكائن الإنساني إلى دائرة خراب العنف و الموت .يقول مصطفى صفوان في كتابه « الكلام أو الموت «» لا يوجد بين شخصين ، سوى الكلام أو الموت ، التحية أو الضرب بالحجر « . العنف ليس أصلا للعلاقات الاجتماعية الإنسانية ، بل هو هزيمة الكلام و إماتة التحية . إنه يأتي بعد انسحاب الكلام .حينما ينسحب الكلام و تضمر مؤسسته ، تتسع دائرة التنافس و التوتر و الغضب و الحقد و الكراهية … و يفسح المجال للفعل و الحركة . العنف فعل و حركة ، لكنه فعل و حركة مغايرتين لفعل و حركة الهبة .حركة العنف تعمق الشرخ و الجرح ، لكن حركة الهبة تطفئ نار الجرح و تضمد الشرخ . الهبة عطاء للأشياء و الكلمات و هي أيضا حركة بسيطة un geste  . حركة الهبة رمزية رغم مظهرها الشيئي ، وقوتها رمزية رغم صغر أو كبر مضامين الحركة الموهوبة . « قم بحركة أو فعلun geste» ذاك هو أمر الهبة . « الحركة و الفعل هو ما يهم c’est le geste qui compte» . تلك إحدى قواعد الهبة التي تمنح للفعل جلالته و ليس للشيء . حركة و فعل العطية أو الهدية يعيد العنف المحتمل إلى مخبئه و يشهر تجدد الروابط الاجتماعية ، مثلما يمنح للكلام قيمته الاجتماعية


الكاتب : نورالدين الزاهي

  

بتاريخ : 01/04/2023