«طعم المربيات» لبوب أوري أبيطبول بترجمة سعيد عاهد :  المرأة التي أخذت حفنة تراب من وطنها قبل الرحيل

 

صدر عن دار « الفاصلة للنشر» بطنجة، في الآونة الأخيرة كتاب يحمل عنوان « طعم المربيات» مع عنوان فرعي يقول  «طفولة يهودية في المغرب» والكتاب هو عبارة عن محكيات كتبها  المغربي اليهودي «بوب أوري أبيطبول « باللغة الفرنسية ،وقام الكاتب والمترجم والصحفي « سعيد عاهد» بترجمة المحكيات ونقلها إلى اللغة العربية..
كتاب المحكيات هذا هو تاريخ، ذاكرة ومسار حياة أسرة مغربية يهودية عاشت في الدار البيضاء في زنقة لوسيتانيا « زنقة « ابن رشد حاليا».
تتضمن المحكيات جوانب كثيرة من حياة ومسار أسرة الكاتب تبدأ قديما في الزمن المغربي، وتنطلق بالنسبة للكاتب من زمن الطفولة إلى زمن الرحيل ومفارقة الوطن المغربي للعيش في كندا، بعدما كان الشاب بوب أوري  قد هاجر قبل ذلك إلى فرنسا، وانتقل إلى المكسيك ثم كندا قبل أن يستقر حاليا في لوس أنجليس بالولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن تبقى كندا هي البلد الذي تجمع فيه بعض أفراد أسرة أبيطبول حين هاجروا تباعا وعاشوا فيها، وماتت هناك الجدة مريم دون سابق مرض.
يحمل متن المحكيات نوستالجيا عارمة وحنينا كبيرا للوطن المغربي. البلد الذي بقي يسكن أعماق روح أفراد الأسرة رغم الرحيل منه والابتعاد اللذين حدثا بسبب ظروف سياسية واجتماعية جعلت الكثيرين من المغاربة اليهود يخرجون من بلدهم المغرب ويسكنون بلدانا غربية وأمريكية عديدة ويتفرقوا في أرجاء المعمور، مع من هاجروا ليستوطنوا الأراضي الفلسطينية المحتلة استجابة للنداء الصهيوني الذي عمل على اقتلاع اليهود من جذورهم وحملهم إلى أرض فلسطين.
لقد بقي المغرب وشما في الذاكرة، وفي روح الكاتب، يحمله أنى ذهب وارتحل، المغرب الذي عاش فيه طفولته بين أقرانه ودرس فيه وترعرع بين سكان من أعراق وديانات ولغات مختلفة، لكنهم شكلوا نسيجا مجتمعيا متعايشا ومسالما، عاشوا في انسجام تام وانصهروا جميعا في الحياة الإجتماعية والاقتصادية للبلد المغربي. وقد حملت ذاكرة الكاتب، هذه الذاكرة التي استعادها ليستقطرها ويسجلها في محكياته. فيسترجع كثيرا من الذكريات منذ بدايات الطفولة، ويستذكر الناس الجيران في الزنقة، ومغامرات العشق الأولى، وممارسة الشعائر الدينية الخاصة بكل طائفة في احترام واطمئنان تامين، وقد ذهب الكاتب في تذكره وحكيه، إلى حد ذكر أسماء الأشخاص في الزنقة والحي،وذكر أسماء الأماكن المختلفة التي ارتادها بمفرده أو في صحبة شلة من رفاقه ورفيقاته، كالسينما وشاطىء البحر والمقاهي والمطاعم والمراقص التي كانت تزخر بها حياة الدار البيضاء آنذاك..ومع الطفولة والمراهقة يكون الشغب،كما حدث حين زار الطفل  «بوب» أخته في شقتها، كما تعود أن يفعل في بعض الأحيان، لكنها كانت غائبة لحظة زيارته رفقة صديق له، فتسللا من نافذة وجداها مفتوحة إلى داخل الشقة، «فهجما»  على المربى الذي هيأته أخته وصنعت منه أصنافا وأنواعا وأكلا  كل ما وقعت عليه أيديهما ثم انصرفا خارجين يتلمظان نكهة المربيات وطعمها..
هذا الطعم والمذاق اللذان بقيا  عالقين بذاكرة الكاتب منذ طفولته، يحمل في طياته ذلك الحنين إلى الطيبة والنكهة، التي كانت في المربى الذي أكله في شقة أخته، أو ذاك الذي كانت تتفنن والدته في صنعه، وتقدمه لأفراد الأسرة مع الخبز الطازج والشاي المغربيين.
ومن هنا جاء عنوان المحكيات « طعم المربيات» نظرا للنكهة والطيبة والشغب الذي كان يرافق الحصول على بعض المربى، وترسخت تلك الأجواء الأسرية في الذاكرة، وبقيت ناصعة وحاضرة في وعي الكاتب. « وهما يعلمان علم اليقين أن هذا المربى يلخص طفولتهما كاملةوشبابهما برمته. وتقول والدتي التي تحكي مغامرتهما تلك في كثير من المناسبات،إنهما أصيبا بعسر هضم وعثر عليهما يتلويان من الألم أرضا.. أما هما  فلم ينسيا الحادثة لأسباب مخالفة» ص 190..
إن المحكيات في الكتاب لايقتصر في حكيها على مسار أسرة مغربية يهودية،  مع استحضار النوستالجيا في حياتها التي عاشتها في وطنها المغرب في مدينة الدار البيضاء، في جوار  سكان مسلمين وغير مسلمين، بل إن هناك مأساة وجدانية تصاحب ذلك الحنين الكبير والتشبث بأرض الولادة والطفولة، فجاءت المحكيات أيضا تحمل في سطورها تلك الحرقة التي سببتها الهجرة والرحيل بعيدا عن الجذور وعن تراب الوطن. إنها حرقة الاقتلاع الذي لم تنسه الأسرة، وكان سببا في ألمها النفسي وبقيت طول ماعاشته تتذكر بلدها المغرب بشوق وحنين، وتبكي ماحصل لها من تمزق عائلي وتفرق وتشتت في بقاع العالم، من هنا تحضر تلك الفقرة القوية جدا في المحكيات، لما قررت الوالدة الرحيل والالتحاق بأفراد الأسرة في كندا، وقد كانت آخر فرد في الأسرة يهاجر ويغادر المغرب. كانت اللقطة تتعلق بحمل حفنة تراب من أرض المغرب وجعلها في صرة، وحين وصلت إلى كندا دأبت على الصلاة عليها كلما أرادت تأدية شعيرتها الدينية. لقد أخذت معها حفنة التربة التي ليست في النهاية سوى شيء من رائحة الوطن، وشيء من روح زوجها الذي دفنته في تربة المغرب وتركته في قبره وراءها..» لماذا تركنا هذا البلد الرائع؟ وهل كان لنا الخيار؟… هل كان لزاما علينا أن نغادر أرض الإسلام هذه،المضيافة والفاتنة والتي عشنا فيها على امتداد أجيال» ص 210.لم تكن الأم تختلف بما تفعله يوميا مع حفنة تراب وطنها المغرب، مع ماكانت تقوم به  أمها، الجدة مريم التي تعود أصولها إلى قرية «أوريكا» حيث ازدادت وترعرعت، قرية توجد قرب مدينة مراكش والتي في مابعد ستتزوج بمعلم يهودي في مدرسة دينية من مدينة مراكش. وقد كانت الجدة تكرر في حديثها باستمرار أمام أفراد الأسرة أنه رغم الثلج ورغم رغد العيش هنا في كندا، فإن هذا لايساوي شيئا أمام جلساتها وتبادلها الحديث مع جاراتها المغربيات واليهوديات، واقتسام لحظات جميلة تحت شمس دافئة مع كؤوس شاي أو مشروبات غازية..
وبعد غياب طويل دام ثلاثين سنة، يعود الكاتب في زيارة لمدينة طفولته، وحين وقف أمام البيت القديم، ونظر حواليه فوجد أن كل شيء تغير، تغيرت الأمكنة،وأسماء الشوارع، وتغير الناس.  جال في الحي، في كل الأمكنة التي كانت مرتع الطفولة، فكان فقط يرى مشاهد لأشياء عاشها تمر كمشاهد باهتة في مخيلته، ويسمع أصوات الأطفال تنبعث من زوايا الزنقة والحي، تذكر وجوها بقيت محفورة في الذاكرة أكثر، مثل ‘عويشة’ الرجل المسلم الذي كان يحمل طناجر الدفينة،الأكلة الشهيرة عند اليهود، يوم السبت الذي يحرم فيه الطبخ والعمل عليهم .كان يضع الطناجر واحدة فوق أخرى على رأسه، فيمشي بها دون أن تسقط فيبدأ يوزعها على أهلها اليهود في البيوت،وهي قد خرجت قبل قليل من الفرن المتواجد في الحي. كما وقف أمام الإسكافي اليهودي ‘حنانيا’ الذي كان يصلح أحذية السكان، والذي لقبوه ب « الفيلسوف» فوجده قد شاخ ولم يعد يتذكر الشخص الواقف أمامه..ونظرا لاختلاط المشاعر بين سعادة العودة إلى أماكن الطفولة الأولى وزيارة المدينة،وبين الأسى و الحزن اللذين شعر بهما لتغير الأحوال وتبدل كل المعالم والآثار التي كان يعرفها ويحملها في الذاكرة، فإنه فضل العودة سريعا إلى البلد الذي جاء منه، مقررا الاحتفاظ بنصاعة  وجمال الصور الطفولية الأولى، مع الذكريات الجميلة السابقة، والمحفوظة في قرارة النفس والذاكرة.
وفي حديث دار بيني وبين عاهد سعيد، الكاتب والصحفي مترجم المحكيات،بعد أن سنحت لي الفرصة بقراءتها،توجهت إليه بسؤال الدافع أو الدوافع التي جعلته يختار كتاب « طعم المربيات» لصاحبه بول أوري أبيطبول قصد العمل على ترجمته إلى اللغة العربية، فكان جوابه بأن ثمة دواع عديدة أهمها شيئان أساسيان،  يتعلق أولهما باهتمام شخصي بالموروث الثقافي والفني للمغاربة اليهود، وهو دافع موضوعي، بينما هناك الدافع الثاني وهو ذاتي وشخصي يتعلق بمعايشة ومجاورة أسرته للطائفة اليهودية بمدينة النشأة، مما أتاح له نسج علاقات صداقة وتعارف، جعلاه  يطلع على كثير من الأشياء في حياة هذه الطائفة من المواطنين المغاربة. وقد سرد لي المترجم، الحيثيات والظروف التي جاء فيها الاشتغال على ترجمة هذه المحكيات ونقلها إلى العربية.
يقول عاهد سعيد :» في بداية صيف 2020 ،زودني الصديق الإعلامي والكاتب « محمد أمسكان» بنسخة من الكتاب في طبعته الأولى باللغة الفرنسية. وكان على علم باهتمامي بتعريب الأثر المغربي اليهودي المكتوب خاصة باللغة الفرنسية، حيث سبق لي أن نشرت، على صفحات جريدة « الإتحاد الإشتراكي « سلسلة مقالات مترجمة من مؤلف الراحل « شمعون ليفي» « أبحاث في التاريخ والحضارة اليهوديين المغربيين»، وكنا على وشك التعاقد لنشر الترجمة الكاملة للكتاب لولا أن الموت اختطف مؤسس المتحف اليهودي بالدار البيضاء. كما نشرت « خياطو السلطان: مسار عائلة يهودية مغربية» لألبير ساسون، أول عميد لكلية العلوم بالرباط( 1963/1969) والمدير العام المساعد سابقا في منظمة اليونسكو، ويستعرض هذا المؤلف علاقات عائلتي ساسون وبوطبول المتميزة بالقرب والألفة مع بلاطات ستة سلاطين وملوك من الأسرة العلوية، والتي اشتغل أفرادهما خياطين لهم طيلة 120 سنة ( منشورات مرسم 2009)
وفي شتنبر 2020 تم الاتفاق مع الكاتب بوب أوري على ترجمة مجموعته، لكن ظروف الجائحة ومانجم عنها من إكراهات على مستوى نشر الكتب، هي التي جعلت صدورها يتأخر إلى الآن، وقد اقترحت على المؤلف، بالنسبة للترجمة، حذف بعض المحكيات من النص الأصلي لأنها لا تندرج ضمن المناخ العام للمجموعة والذي تيمته الأساس» طفولة يهودية في المغرب « وتبعاتها، وقد وافق الكاتب على المقترح،  وهذا الاهتمام  بالمكون اليهودي للثقافة  المغربية وليد قراءاتي( إدموند عمران المالح، حاييم زعفراني  وشمعون ليفي وغيرهم كثير ). وكذلك نشأتي بمدينة الجديدة التي كانت تحتضن طائفة يهودية مهمة من حيث العدد والمساهمة في الحياة المجتمعية، هذا القرب الجغرافي جعلني أختلط بأطفالهم وأتعرف على عاداتهم وتقاليدهم،  كما أدى بالعائلة إلى نسج علاقات صداقة وقرب اجتماعي مع أسر يهودية  علما أن يهود الجديدة كانوا منصهرين في الحياة الاقتصادية والإجتماعية والثقافية( والسياسية إلى حد ما ) لحاضرة دكالة..


الكاتب : ادريس انفراص

  

بتاريخ : 31/12/2021