« عابر إلى الضباب».. أو العبور إلى الاختلاف الثقافي

 

ينطوي السفر والترحال، وأي شكل آخر من أشكال التنقل، على فكرة العبور دائما، بما هي انتقال بين الذوات والأمكنة والصور والخيالات والوقائع. لا تعود الذات المسافرة كما كانت في السابق، بعد عبورها إلى ثقافات وفضاءات إنسانية مختلفة عنها. وهذا ما يعبر عنه نص «عابر إلى الضباب» لمؤلفه عبد الصمد الشنتوف، إذ يكشف لنا وهو يوشك أن يطوي آخر صفحة من رحلته جوهر هذا التحول العميق الذي تشهده الذات عندما يقول: «قرابة ثلاثة أشهر وأنا مغترب بإنجلترا. عندما أجلس وأحصي حصاد غربتي وأعود بذاكرتي قليلا إلى الوراء، أكتشف أنني صرت شابا آخر. (…) لم أعد نفس الشخص الذي أتى من المغرب قبل شهور مضت. اكتسبتُ أفكارا وقيما جديدة عن ثقافات الشعوب، صرتُ أرى العالم من منظور أوسع. مساحة تصوراتي غدت أكثر رحابة بعد ابتعادي عن محيطي… أصبحت أتمتع بتجربة إنسانية ثرية. أشعر وكأني ولدت من جديد.» (ص. 298)
يبدو من هذه الخلاصة الرحلية- إذا جاز التعبير- أن الاغتراب حصاد مثمر للاختلاف، وأن الرحلة عبور إلى رحابة الفكر وشساعة مدى الرؤية، وأن السفر تكوين وتدريب للذات (كما ورد في مقالة الناقد شعيب الساوري عن الكتاب نفسه في ‘القدس العربي’). ليست التجربة الإنسانية الثرية، التي أفرزت ولادة الكاتب من جديد، بل وميلاد الكتابة نفسها في دواخله، سوى تجربة للمغايرة؛ أي الاحتكاك بثقافة- أو بالأحرى ثقافات أخرى، يمثلها هنا على سبيل المثال شارع «أشمور»، الذي «تنمو فيه العلاقات الاجتماعية، (و)تتلاقح الثقافات وتتقاطع المصالح» (ص. 84)، أو ركن الخطباء بـ»هايد بارك» الذي «يجسد حرية التعبير واختلاف الآراء بين أطياف وقوميات متعددة» (ص. 156) وتؤثثه «إيديولوجيات سياسية وعقائدية متنوعة» (ص. 157)، مما لم يشهد له الكاتب مثيلا في بلده.
يمكن القول، منذ البداية، إن الرحالة يرسم مسافات متباينة تجاه التعبيرات الثقافية المختلفة التي شاهدها في لندن، كما سنرى حين الوقوف على بعض اختيارات الكتابة في هذه الرحلة. يقترب الكاتب من هذه التعبيرات، وتثير إعجابه، بل يتعاطف معها، لأنها تعكس ذاته وتجسد رؤيته إلى الذات والوجود، كما هو الحال بالنسبة لدفاعه عن حقوق المرأة وحريتها، أو تعاطفه مع أنصار القضية الفلسطينية أو أنصار البيئة. في مقابل هذا، تتخذ هذه المسافة بعدا نقديا في الوصف والكتابة، حينما يقف الرحالة على مشاهد مغايرة، كتلك التي تمثلها الحركات اليمينية المتطرفة (حركة البانك على سبيل المثال). لكن اللص الجزائري استطاع بمكره أن يخلخل مقاييس هذه المسافة عند الرحالة، لا بفعل سوء سلوكه، وإنما بتحوله المفاجئ من سلوك سيء إلى نقيضه.
يحتفي الشنتوف إذن، من خلال هذه المسافات المتباينة، بما هو جوهري في هذا النص الرحلي؛ أي بالاختلاف الثقافي. ذلك أن هذه الرحلة يمكن عدّها أيضا كتابا في وصف التعددية الثقافية التي تتميز بها عاصمة الضباب، وفي المثاقفة بوصفها سيرورة تثري الذات بما تراه العين وبما تستعيده الذاكرة من آثار وصور. تبرز لندن من خلال هذه التيمة بوصفها فضاء لتعايش أقوام وأعراق قادمة من مختلف أنحاء العالم، كالأيرلنديين والهنود والعرب والأتراك والأوربيين الشرقيين، خاصة الهاربين من جحيم الأنظمة الشمولية. ولأن هذه الأقوام والأعراق تتميز بتنوعها، فلا شك أن يتخذ التعبير عن هوياتها وتمظهراتها الثقافية التي تمارسها في الفضاء العمومي أشكالا مختلفة ومبتاينة، بل ومتعارضة أحيانا. إلا أن هذا الاختلاف، الذي يتمظهر في صور محتدة أحيانا، لا يستدعي الرقابة أو الحظر، إذ تتمتع بكامل الحرية في أن توجد جنبا إلى جنب وتشترك في المكان الواحد. فعلى سبيل المثال، يقول الشنتوف إن ركن الخطباء في منتزه ‘هايد بارك’ يحتضن أنصار القضية الفلسطينية وخصومها في الآن ذاته، كما يسمح لمعارضي العولمة والإمبريالية، ولمؤيدي الحركات النسائية، وللمدافعين عن حقوق الإنسان، ولحماة الطبيعة والحيوان، بالتعبير عن قضاياهم ومشكلاتهم بكل حرية، وللفنانين بعزف مقطوعاتهم في الشوارع أو أنفاق الميترو، الخ. بهذا، تتحول لندن إلى فضاء هجنة ثقافية وبوتقة اجتماعية عالمية، وتصير الكتابة الرحلية شكلا من أشكال التفكير العابر للحدود في الآن ذاته.
من جانب آخر، تنبني استراتيجة الكتابة في هذا النص على مجموعة من الاختيارات الفنية، وهي كلها من سمات الكتابة الرحلية عموما. أولا، السرد: لا يختلف هذا الاختيار في رحلة الشنتوف عن طرائق السرد الروائي أو القصصي، إذ يمكن أن تُقرَأ بوصفها رواية، إذ هو سرد خطّي كلاسيكي تبدأ أحداثه وزمنيته من نقطة هي بداية صيف سنة 1986، فتمضي إلى المستقبل، لتنتهي في بداية خريف السنة ذاتها. لا تكمن أهميته في وصف الشخوص والأمكنة فحسب، بل في إبرازه طبيعة المشاعر والانفعالات والمواقف التي تعتمل بين جوانح الرحالة، منها حبه لسوزان، أو مقته لابن بلدها جورج، أو رأيه السلبي في بعض أبناء جلدته، أو غير ذلك.
تقودنا هذه الفكرة للحديث عن الاختيار الثاني، وهو يتصل بالانبهار والاندهاش. على غرار كل الرحلات تقريبا، لا يخلو نص «عابر إلى الضباب» من مشاهد ومواقف يعبر فيها الكاتب عن إعجابه بإنجلترا- بعاصمتها وحتى ضواحيها- وانبهاره بمنجزاتها الحضارية والثقافية وبرقي شعبها، الخ. كما نقف كقراء من خلال هذا الاختيار على صور ومواقف إيجابية تتمثل في حسن النساء وروعة الموسيقى وجمال المعمار والطبيعة، وفي انضباط المجتمع وحسن سلوك الناس، وفي سيادة القانون والعدالة، وفي تواضع الشخصيات العمومية من الأمراء والوزراء، وفي حرية التعبير، وفي نظام الحفلات العامة…
على النقيض من هذا، تنتهي بنا المقارنة، بوصفها اختيارا ثالثا للكتابة في هذه الرحلة، إلى القول إن الرحالة يرسم صورة سلبية عن الذات؛ تتجسد مثلا في وصف المواقف المتخلفة من المرأة، وفي الممارسات القاسية ضد المجانين والحيوانات في شوارع المدن المغربية، وفي السلوكات الماكرة للمهاجرين المغاربة، وفي الفوضى والصخب اللذين يعمان الأمكنة العمومية كالمطاعم والمقاهي (مقهى كازابلانكا في مقابل مقهى لشبونة)…
إلا أن هذا لا يعني أن الرحلة سقطت في تبكيت الذات وجلدها، أو في تمجيد الآخر تمجيدا كليا، إذ اختارت أن تنصف الذات وهي تسرد بعض محاسنها، أو تنتقد الآخر بالوقوف عند سلبياته.
على العموم، تتراوح رحلة الشنتوف، ذهابا وإيابا، واقعيا وتخييليا، بين بعدي الإعجاب والنفور، بين جسور ثقافات متعددة ومتنوعة، في محاولة للعبور إلى جوهر اختلافاتها القادرة على إثراء الذات وإنتاج رؤية جديدة إلى العالم. وهو ما حصل بالفعل، باعتراف الكاتب في آخر صفحات الرحلة. من هنا، ليست رحلة «عابر إلى الضباب» مجرد انتقال إلى الضفة الأخرى فحسب من أجل العمل- كما كانت رغبة الكاتب، ولا حتى من أجل السياحة، كما يحدث في الغالب، بل هي أيضا اقتحام لماهية الإنسان الإنجليزي ومحاولة لمعرفة هويات الكينونات العالمية المتجاورة؛ ومن ثمة، فهي رحلة إلى ضفاف ثقافية متغايرة تحقق كونيتها من خلال تعايشها في العاصمة لندن.


الكاتب : محمد جليد

  

بتاريخ : 25/02/2022