عام من العزلة -14- محمد بوجبيري: في ضيافة الحجر الصحي

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

العزلة قرينة الخلق والإبداع. هذه العزلة المنشودة ليست بالضرورة الانزواء عن الآخرين. قد يجدها البعض في الأماكن والساحات العامة، كالمقاهي والمنتزهات، فهؤلاء المتوحدون مع ذواتهم ينقطعون إلى عوالهم الجوانية الزاخرة بالرؤى وأحلام اليقظة، بحيث لا يكاد الواحد منهم يشعر بما حوله من هرولات الآخرين على الرصيف، فتجده مستبطنا ومستغرقا ومستبصرا ما يبدو له من بنات خياله وأفكاره التي يسعد بها أكثر ليهربها لبياض أو قماش أو غيرهما من حوامل الإبداع.
حتى الأنبياء والرسل والحكماء والراؤون الكبار احتاجوا كي يضيئوا إلى عزلات في البراري والصحاري، ومغاور الجبال وكهوفها من أجل أن يتواصلوا مع الروح المطلق، بعدها نزلوا من عزلاتهم كي يتواصلوا مع العالم، مؤسسين لشرائع لا تحصى من الملل والنحل والفلسفات والروحانيات، وما إلى ذلك من جسور حاولت أن تربط الأرض بالسماء.
العزلة بالنسبة لشخصي المتواضع لازمتني منذ زمن المراهقة، وأصدقائي في ذلك الزمن الشيق يذكرون ذلك جيدا، إذ كنت في أغلب الأوقات أتأبط كتابا، وأنزوي في مكان أطالع بعض الوقت قبل أن ألتحق بمرح شغبهم الجميل. أسرتي الصغيرة أيضا تذكر أنني مرة أخذت أمتعتي، وخرجت من البيت الذي نقيم فيه، لأقيم لعدة أسابيع في بيتنا القديم المعروف بّ أكُدّيم». كانت الإقامة في غرفة كبيرة معتمة، لأن النافذة الوحيدة عبارة عن مربع صغير في جدار تسمح بدخول الهواء واستطلاع الفضاء الخارجي. أذكر أن أختي فاطمة كلما أتتني بالطعام وضعته وفرت هاربة، لأن المكان في اعتقادها، كما في اعتقاد أمي، مسكون بالأشباح والعفاريت.
كنت أقضي أوقاتا في هذه العزلة الاختيارية، كما لو في كهف، سعيدا بوحدتي أقرأ، على ضوء الّلمْبَة، بشغف كبير بعضا من كتابات جبران خليل جبران، وغيرها من المؤلفات التي كنت أقتنيها بثمن بخس عند بائع الكتب المستعملة العابر للأسواق. في العزلة التي أنارت بعضا من جهلي وظلمتي الروحية، قرأت الجداول والخمائل لإيليا أبي ماضي، كما قرأت أغاني الحياة لأبي القاسم الشابي،وتأملات ألفونس دو لامارتين، ورونيه شاطوبريان بلغتهما الأصلية، وغير ذلك من روائع الأدبين العربي والعالمي، بالإضافة إلى كتاب ألف ليلة وليلة في طبعة شعبية عتيقة من أربعة أجزاء، وسيرة عنترة بن شداد العبسي، والسيرة الهلالية، وهذه الكتب الثلاثة الأخيرة كانت ضمن ما يتوفر عليه أبي (الفقيه) من كتب أغلبها كتب صفراء.
عذرا إن أطلت في هذه التوطئة، وكان الداعي إليها هو التأكيد على أن للعزلة منابت في الروح، فهي عندي قرينة الصمت، وكلاهما صدى لجوهر ما، قد لا نتبينه، لكن قائم فينا، ونستشعره، كما نستشعر الحنين إلى أمهاتنا. لا شك أن ما عاشه أسلافنا الأوائل في فجر التاريخ من عزلات في وجودهم القاسي في الكهوف، لا يزال له صدى في دمنا ووعينا النائم/اليقظ في جهة ما في جيوب الروح.
في ظل الحجر الصحي لم تعد العزلة بذات الطعم المشتهى، فهي عَزْلٌ أكثر مما هي عزلة، لأنها قسرية مفروضة بقوة القانون، وبفعل الوباء المستشري زاد الاقتناع بضرورة الانزواء في البيت ما أمكن، مع محاولة التغلب على فائض الوقت بالمطالعة والكتابة كلما أسعف المزاج، لكن هذه العزلة التي استعاد فيها الكثيرون ذواتهم بما يكفي، وبرغم التحصن وراء جدران البيت واتباع الإجراءات الاحترازية الضرورية، فإن هاجس الخوف من المجهول يظل سيد الموقف، إذ بإمكان هذا الوباء أن يتسلل بطريقة أو أخرى، ويفعل بنا ما فعل بأحبة أعزاء رحلوا، وهم في أوج الشباب والعطاء، وعلى سبيل التمثيل لا الحصر أذكر صديقي الشاعر والإعلامي حكيم عنكر الذي رحل، وفي جعبته، ما يكفي لعدة سنين، رصيد زاخر بالمحبات والحياة.
في ظل هذه الجائحة لم يتغير كثيرا سلوكي اليومي، فبعد الاستيقاظ من النوم، ما بين الثامنة والتاسعة، وبعد وجبة الفطور أنصرف إلى الحاسوب، وأشرع في تحرير نص شعري مكتوب على الورق سلفا، أو أباشر كتابة نص نثري اختمر في الذهن، وقد أكتب مادة طلبها مني صديق يشرف على صفحة ثقافية في جريدة ما. أشتغل تقريبا لمدة ساعة أو يزيد، لأن عيني تتعبان. أقوم، والساعة تشير إلى العاشرة، أهيِّئ الفطور لرفيقة العمر وابني. أجالسهما بعض الوقت على مائدة الإفطار، بعد هذه الفسحة الصباحية الأسرية التي أسعد بها، أخرج لأمارس رياضتي المعتادة، وهي المشي بدون ملابس رياضية ولا هرولة. أمشي بين الأزقة والدروب، وأحيانا أذهب إلى الشاطئ. أجد في المشي متعة كبيرة، لأنه نوع من الخلوة مع النفس، وحوار هادئ معها، وكثير من عثرات الحياة وجدت لها حلا في المشي، كما أن بعضًا من بنات خيالي قد تباغتني، فأتوقف لتدوينها قبل أن تحلق بعيدا عني، لذلك أنا حريص على أن يكون في جيبي قلم وورقة بيضاء استعدادًا لما قد يخطر على البال من فكرة أو ومضة عادة ما تكون نواة نص شعري أو نثري.
بعد المشي الذي يتأرجح توقيتا بين نصف ساعة وساعة تبعا للمزاج، إذ لا إكراه، ليس في الدين فحسب، بل في كل شيء، بما في ذلك المشي. أعرج على السوق، وقبل أن أقتني حاجياتي أتمتع بعطاءات الأرض وخيراتها من خضر وفواكه مختلفة الألوان والأحجام والأشكال والأذواق. أتمتع بحركة الناس وجلبتهم، كما تلتقط أذني أحيانا بعض المستملحات والأسجاع التي لا يراد بها غير الترويج لسلعة.
قبل الدخول إلى البيت أشرع في تعقيم كمامتي مع ترك الحذاء في العتبة. أنظف يدي ووجهي بالصابون كما تريد منا وزارة الصحة، ثم، بعد استراحة وجيزة، أدخل إلى المطبخ لأساعد زوجتي في إعداد وجبة الغذاء. في الظهيرة لابد من قيلولة تعطيني القوة على السهر، إذ لا أنام عادة إلا بعد الثانية صباحا، وهذه عادة اكتسبتها منذ عدة عقود. أحب الليل لما يمنحه لي من سكون وتماه مع الأبدية.
منحتني عزلة الحجر الصحي إعادة ترتيب بعض الفوضى في غرفتي التي تكدست فيها الكتب والمجلات، كما صنفت الكتب بحسب اختصاصها: شعر /رواية/ فلسفة/ تاريخ/ لاهوت/ تصوف/ معاجم/ دراسات في النقد والأدب والفكر، كما عدت إلى أرشيفي كي أحرر بعض النصوص الشعرية والنثرية التي كتبت بخط اليد، فظلت منسية بين الأوراق. قرأت أيضا العديد من الكتب، ولعل أهمها الرسائل المتبادلة بين الفيلسوف ألبيرت كامو والشاعر رونيه شار (1946/1956) وهو كتاب باللغة الفرنسية أمدني به صديقي العاشق للفلسفة عثمان، كما قرأت كتابا شيقا للفيلسوف الفرنسي المعاصر(من مواليد 1952) أندريه كونت سبونفيل (André Comte-Sponville Présentations de la philosophie) وكتاب المرايا لنجيب محفوظ، وهو عبارة عن بورتريهات لشخصيات نموذجية عايشها الكاتب، وصورها بحيث جعلها كائنات تنبض بالحياة. «392 ص)، والآن أقرأ بين الحين والآخر رسائل نتشه ترجمة حيدر عبد الواحد أحمد رضا، منشورات تكوين/لبنان.ط1/2020. عدد الصفحات 526.
لابد من الإشارة أيضا إلى أنه يحلو لي أن أقضي بعض الوقت مع مجموعة من النباتات والمغروسات في الشرفة الكبيرة للبيت، بحيث أنزع الميت من الأوراق، وأمدها بالماء إن بدا لي أنها في حاجة للسقي. في ذات الشرفة أضع الزّوان للطيور الصغيرة وبعض الحمام، وأتلصص عليها من وراء زجاج النافذة كي أتمتع بمنظرها الجميل.
في الختام أتمنى أن تنتهي هذه العزلة لكي نجدد الاتصال مع أماكن ومدن افتقدناها، كما افتقدنا الأهل والأصدقاء.


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 29/04/2021