عبد الإله الشاهدي يرسم معالم الحرية الوهمية ويتوج بالجائزة الدولية لمحترفي الفن

الحرية.. بأي معنى؟:

ظلت –وما زالت- الحرية منذ قرون، موضوعا من المواضيع التي اهتم بها الفن اهتماما بليغا، وذلك لكونها أحد المفاهيم الكبرى التي جاءت بها الحداثة، التي تسربت أفكارها إلى الفن، الذي حاول تمثلها بطرق شتى، رومانسيا ورمزيا وواقعيا وتعبيريا وحتى سرياليا… كل حسب منطلقه، ورؤيته لهذا المفهوم الإنساني الكوني، وأيضا لكيفية تمثُّله للواقع. بل إن «الحرية» التي سوف تتسرب مفهوما إلى عالم الفن، سوف تغدو منطلقا انتهجه الفنان ليتحرر من كل القيود الأولمبية التي تفرضها قيود المدرسية والأكاديمية، لصالح حرية ذاته في تمثيل العالم والواقع والتعبير عنه. فبقدر ما ساهم الفن في إبراز الحرية، ساهمت هي بدورها في تقدمه وتحديثه.
تُعرّف الحرية على أنها إمكانية الفرد دون أي جبر أو شرط أو ضغط خارجي على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة. ومفهوم الحرية يعين بشكل عام شرط الحكم الذاتي في معالجة موضوع ما. بالتالي، فهي ترتبط بالذات والفرد والفردانية، وهذه الأخيرة هي المفهوم الأساسي الذي بنيت عليه الحداثة: «أنا أفكر إذن أنا موجود»؛ الإعلاء من الذات الفردية خارج كل سلط الجماعة، التي تحاول تذويب الفرد فيها. لكن هل فعلا نحن أحرار؟ وإلى أي مدى نصير كذلك؟ وماذا عن حريتنا في زمن الاستهلاك المفرط، زمن «اقتنِ لأراك!»؟

حرية حقيقية أم وهمية:

يضعنا الفنان التشكيلي المغربي عبد الإله الشاهدي، إزاء عمله الفني: «حرية وهمية»، الذي توّج، هذا العام، بالجائزة الدولية لمحترفي الفن، هذه السنة، صنف التوجه السريالي، والتي تنضم من قبل أكاديمية الفن العالمية، Mondial Art Academia.. -التي مقرها في فرنسا، تم إنشاؤها منذ سنة 1901، بهدف دعم وتشجيع الفنانين المحترفين والتعريف بأعمالهم عالميا. وقد تفوق الشاهدي، على الفنان الأمريكي كريستوف فاشر، الذي فاز عمله بالمرتبة الثانية… يضعنا الفنان المغربي، إزاء عمله ذي البعد السريالي.. حيث يصور لنا في تلاعب ذهني مبهر، يدين على «طاولة» عاكسة -ما يشبه المرآة الصافية. إحداهما تحمل قلما لتدوين شيء خفي، وتنجلي من أصابع اليد أياد صغيرة تحمل بدورها القلم، ويقف عصفورٌ دوريٌّ بجانب اليد الأخرى شامخا، ينظر إلى نقط تقع خارج اللوحة، إلى ماذا عساه ينظر؟ هل لأفق غير مرئي؟. بينما في الصورة المعاكسة، يختفي القلم من اليد وتختفي الأيادي الصغرى، ويظهر جليا العصفور مكبلا وكما هو حال اليدين؛ لكنه دائما ينظر للنقطة عينها !. إنه حر ظاهريا ومكبل بشكل خفي؛ ويتطلع للأفق عينه: لعله الحرية في كل الأحوال!
يأتي هذا العمل، إذن، باعتباره امتدادا لكل تلك الأعمال الفنية التي تناولت، وتتناول، ثيمة الحرية، وتلك التي اشتغل فيها الشاهدي على موضوع اليد. وكما يأتي متحررا من كل قيود التمثيل الواقعي والطبيعي.. مانحا للمخيلة والذهن الحرية الكاملة للتعبير والإبداع. يمكننا أن نقرأ هذا العمل من زوايا مختلفة، لكن سوف نتبع هنا قراءة فكرية ومقاربة فلسفية، لنضعه في سياق التفكير في التاريخ والراهن، وما يخبئه من دلالات ومعان دفينة، ترتبط بمفهوم الحرية منذ الحداثة إلى يومنا هذا.

وهم الحرية:

يأتي تتويج هذا المنجز الفني بجائزة أكاديمية الفن العالمية، ضمن سلسلة الجوائز التي حظي بها الفنان عبد الإله الشاهدي طيلة مساره الفني، الذي بدأ منذ منعطف ثمانينيات القرن الماضي، والذي عرف مراحل متعددة، كانت دائما «الحرية» موضوعا رئيسا فيها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فأن تمارس الفن، يعني أنك تمارس حريتك! أو كما يعبّر الشاعر بول إيلوار قائلا:
«(…) /أكتب اسمك /على الأيقونات المذهبة /أكتب اسمك /وبقوة كلمة /أبدأ حياتي ثانية /لقد ولدت لأعرفك /لأسميك /أيتها الحرية».
لكن ما هي الحرية؟ تعرف بطريقتين: بالسلب، باعتبارها غياب المخاوف؛ وبالإيجاب، باعتبارها قيام الفرد بما يريد. لكن هل نحن فعلا أحرار في ما نريد؟ وهل نريد فعليا ما نعتقد أننا نريده؟ أم أن في الأمر وهما ما؟ لنتأمل تفاصيل اللوحة جيدا، سيبدو لنا معصم اليد اليمنى الخالية من القلم تنتهي بمعصم غريب.. كأنها مجرد قطعة شطرنج، أو بيدق «يتم التحكم فيه». لكن في الصورة المعكوسة يختفي الأمر، ويحل بدله حبل يشد اليد إلى الدوري. انتقال له دلالاته، بين لعبة الشطرنج والعصفور المربوط.. (كل من الشطرنج والدوري حاضران بقوة في أعمال الشاهدي الأخيرة، كلاهما يرمزان ويدلان على التحكم والتحرر). كأنما تتحقق هنا فكرة روسو القائلة بأنّ الحرّيّة حاجة أصيلة في الإنسان، وإنّها تكتسب مشروعيّتها العمليّة من خلال التزامها بجملة قواعد وضوابط وشروط. هناك دائما ضوابط للحرية تؤطرها !. لكن هل بهذا المعنى نحن أحرار فعلا؟ يجيب اسبينوزا بأن فعل الإنسان الحر ليس فعلاً ناتجاً عن فعل الإرادة، بل هو ناتج عن نوازع الجسد والهوى ورغبات الذات والنفس، لاسيما أن «جميع الرغبات التي نحن مصممون على فعل أي شيء منها، يمكن أن تنشأ من أفكار تامة وغير تامة على حد سواء». فلا يمكن أن ينفصل المرء عن «إرادة الطبيعة» نفسها، فهي الوحيدة التي تمتلك حرية الإرادة، هي الوحيدة الحرة، وما إرادة الإنسان إلا امتداد لإرادة الطبيعة لهذا فحريته مقيدة.. بل إنه يتوهم الحرية. لنعيد -هنا- التأمل مجددا في اللوحة، فالعصفور يمثل امتدادا للطبيعة، وحتى اليد اليسرى –لماذا اليسرى؟- التي تحمل القلم، تبدو كأنها امتداد وفرع من فروع شجرة، غصن على شكل يد إنسان.. بينما ليست هي وحدها التي تكتب، -وما الذي تكتب؟ هذا سؤال علينا الوقوف عنده مليا- بل هناك أياد ممتدة وصغيرة، تقيم فيها وتنتعش من دمائها، هي التي توجه القلم! لقد نزع اسبينوزا عن العقل الغربي ثنائية الروح والجسد، لصالح وحدتهما، إنهما وجهان لعملة واحدة: امتداد لإرادة الطبيعة. كأن هذه الأخيرة هي التي تفعل بنا وفينا ما تريد، ونحن نتوهم أننا أحرار في ما أردناه.
إحدى التجارب العصبية على الدماغ، أثبتت أن الفرد حينما يقوم بحركة ما بأحد أعضائه، فإنما ينتج الدماغ إشارات تسبق أمر الفعل بأجزاء من الثانية.. فأنت لا تريد ما تريد، أنت غير حر في إرادتك. يمثل الشاهدي هذا المعطى في ذلك الدوري، إنه نحن، الذي يقف شامخا لكنه في انعكاس صورته (أو لعلها صورته الحقيقية !) يبدو مكبلا بحبل يربط باليد/ قطع الشطرنج. كأنها هي من توجهه، بينما يتوهم أنه «حر». لقد سبق وأن ذهب الأبيقوريون إلى القول بأننا نصير أحرارا حينما نستطيع القيام برغباتنا. لكن هل فعليا نحن نرغب في ما نرغب فيه؟
محاطون بكل أنواع الصور، بكل أنواع الوهم، والدعاية والإشهار المفرط.. ما أن نخرج من منازلنا، وما أن نفتح شاشات التلفزيون أو الحاسوب أو الهاتف الذكي، حتى تصدمنا الإعلانات الممولة، تحثنا على الاقتناء أو طلب خدمة.. مربوطون بشكل يومي بهذه الصور الدعائية.. حتى نكاد لا نتخيل حياتنا دونها.. إنه مجتمع الإفراط والدسم. حيث كل شيء مكتوب ولا شيء يخبرنا بالمعنى. فكل شيء لا يؤدي إلى معنى، عصر المعنى السائل. ألهذا ذلك القلم في اللوحة لا يكتب شيئا؟ إنه يحاول تدوين شيء على مرآة مُمَيَّهَة.
إننا لنقتني بشكل دائما أشياء وأغراض وحوائج لا حاجة لنا بها، أو قد نستعملها لمرة واحدة طيلة العمر، لكننا نقتنيها ونحتفظ بها، لأننا أُمِرْنا بالاقتناء. فقيمتك في ما تقتنيه لا ما أنت عليه. إننا بهذا المعنى مسلوبو الحرية. حريتنا في التظاهر.. أو كما يقول نيتشه «الحقيقة في المظهر». فأنت لست ما عليه، لكن كما يراد لك أن تكون حتى تقتني أكثر.
فأين تقع الحرية إذن؟ إنها تقع في قوة الفعل لا في قوة التفكير، (يقول فولتير)، وإنها سعي لتحديد الذات، (يقول ليبنتز).. أي أن نكون مستقلين، ذواتاً مسؤولة عن أفعالها، بتعبير كانط. يتمثل الفعل في اللوحة من خلال حضور اليد، فنحن نقوم ونفعل باليد، ولا نفكر بها.. وهي امتدادنا العيني والعملي في العالم.. كأن اللوحة الصباغية تخبرنا أنه علينا أن نتحرر من كل «الوهم» لننعتق من كل القيود التي تكبل رغباتنا الحرة، وتحد من إرادتنا.. من إرادة القوة التي فينا، بالتعبير النيتشوي. فأن نكون لا يعني إلا أن نكون أحرارا، هذا ما يخبرنا به عمل عبد الإله الشاهدي.


الكاتب : عزالدين بوركة

  

بتاريخ : 26/02/2022