عبد الحميد الغرباوي يحكي عن تجربة الكتابة للناشئة: الكتابة للطفل تقتضي أن يكون بداخلك طفل يقيم إقامة دائمة

قبل الدخول في الموضوع، إليكم، إليكن هذه الأقصوصة:
الطلاق
[سُئل الطفل:
” أين أمك؟”
نزل السؤال على خده الغض كالصفعة..
لم يكن السؤال جديدا عليه، فلطالما طرحه على نفسه في وحدته، لكن أن يأتي من شخص قريب، نزل به فجأة كالصاعقة فأحدث في نفسه حروقا.. ارتج قلبه للسؤال..
حدث ذلك قريبا من البحر..
نظر الطفل بعيدا، بعيدا.. مر سريعا في مجاله البصري طائر أبيض يضحك.. نظر بعيدا، كما لو أنه يبحث عن جزء من طفولته ضاع منه..
نظر لحظة إلى ذاك الخط حيث تلتقي السماء بالماء ثم قال:
” هناك.. إنها هناك..”]
لبورخيس قولة مفادها أن على الفنان بالذات أن يقبل بكل شيء على أنه هبة مباركة.
وقد علق صديق فيسبوكي على أن في اعتقاد بورخيس أن وظيفة الفنان أو المبدع أن يبني عمارته الجمالية من تلك الأشياء التي وُهبت له، أي من تجربته في أي شيء، في كل مكان وزمان.
الموضوع:
من الصعب إن لم يكن أمرا محرجا الحديث عن تجربة هي في المحصلة، تجربة متواضعة في الكتابة الأدبية الموجهة للطفل أو الأطفال.
وإذا كان الحديث صعبا، فالكتابة للطفل أصعب.
كثيرون هم يعتقدون أن هذه الكتابةَ سهلةٌ، مقارنة بالكتابات الأخرى الموجهة للفئة العمرية الكبيرة، الناضجة..
غير أن العكس هو الصحيح..
وعموما فكل كتابة أدبية هي كتابة صعبة تتطلب من الكاتب أو الكاتبة جهدا ومعاناة.
يقتضي الفعل الكتابي للطفل، من بين ما يقتضيه، أن تكون طفلا حتى وإن كنت قد تجاوزت مرحلة طفولتك بعقود، حتى وإن كنت قد تركتها خلفك بأفراحها وأتراحها وصدماتها وبما اختزنته ذاكرتك من صور وأحداث كنت شاهدا صغيرا عليها، ولم تكن لك القدرة خلالها على الغضب والاحتجاج أو الحسم فيها..
طفولتنا نحن مواليد الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين لم تكن طفولة سعيدة دائما، أيام السعادة كانت قليلة، وجل الأيام كانت تمر عادية، عادية جدا. طبعا كانت تلك الطفولة تتجاوب وتتفاعل مع حالات الكبار من حولنا، فإن ضحكوا ضحكنا، وإن فرحوا فرحنا وإن حزنوا وبكوا حزِنا وبكينا، وإن صدموا التجأنا إلى ركن قصي من غرفة كئيبة، رطبة ننكمش على ذواتنا آملين أن تنفرج الغمة ونعود إلى الساحات نركض ونقفز وحين نجوع نكتفي بالنزر القليل من الطعام، وحين يستنفد التعب منا كل طاقتنا وحيويتنا جراء اللعب، نتمدد على فراش بسيط ونستسلم للنوم.. وفي النوم تنطلق الأحلام..
تلك الطفولة، أعني طفولتي، كانت مادة لكتاب أهديته لولدي بعنوان: (سيرة طفل / رسالة من والد إلى ولده) عن منشورات دار الرشاد العريقة. في هذا الكتاب وهو عبارة عن رسالة طويلة، عقدت لولدي مقارنة بين طفولتي وطفولته..
بعد ذلك ستطلب مني ابنتي وهي أم لطفلين جميلين كتابها هي أيضا فأهديتها مؤلفا عبارة عن مجموعة من الخطابات/ رسائل افتراضية بعنوان (إلى ابنتي).
كما يقتضي فعل الكتابة للطفل أن تكون ذاك الطفل الحالم..
الحالم دوما..
من يملك القدرة على أن يخاطب دمية، شجرة، فراشة؟
من يملك القدرة على أن يحلق في فضاء شاسع، يعانق شمسا ضاحكة ولا يحترق ويبتز مشاغبا من قمر مبتسم ضوءه، وقد يتمادى بما يملك من قدرة فيتحول إلى ظل أو سحابة أو غمامة محملة بالماء؟
الطفل وحده يملك تلك القدرة.
وعلى الكاتب، لكي يملك نفس القدرة، أن يكون بداخله طفل يقيم إقامة دائمة .
على الكاتب أن تكون له القدرة على أن ينسلخ لحظة أو أثناء الكتابة عن عمره البيولوجي أو الزمني. (يعرف العمر البيولوجي بالعمر الصحي للإنسان والذي يحدد بكفاءة عمل الخلايا وأعضاء الجسم وفقا للتسلسل الزمني. أما العمر الزمني (العابر) فيعتمد على تاريخ الميلاد للشخص ويشير إلى المقدار الفعلي للوقت الذي كان فيه الشخص على قيد الحياة. أي الوقت المؤكد بالأيام والأشهر والأعوام.ويبدو أن بعض الأشخاص يتقدمون بأعمارهم بسرعة كبيرة وطلاقة، وآخرون يعانون من الشيخوخة بوتيرة تدريجية.)
ولست أدري إلى أي صنف منهما أنتمي..
لا أعني بالانسلاخ، انسلاخا جذريا بل بالقدر الذي يجعل الكاتب لحظة الكتابة، يُنطق ذاك الطفل الكامن فيه بالاستناد إلى وعيه وتجربته وثقافته وتقديره للمسؤولية الملقاة على عاتقه.وإنها لعَمري مهمة صعبة. مهمة صعبة ومرهقة جدا.
في مجموعتي القادمة (حالات في زمن الحرب) ثمة نص بعنوان: (في بلاد العجائب والغرائب) وهو نص تفاعلي مع التحفة الأدبية الرائعة (أليس في بلاد العجائب) للكاتب (لويس كارول) أو (تشارلز دودجسن) الاسم الأصلي للكاتب الإنجليزي عالم الرياضيات والمصور الفوتوغرافي. في هذا النص حاولت اقتفاء أثر الطريق التي أوصلت الكاتب الإنجليزي إلى ابتكار شخصية (أليس). طبعا المحاولة هي مجرد خيال/ تخيل فحسب.
وأكيد أنه، مثل معظم الكُتاب، انطلق من شيء أثاره في الواقع، من لقطة، من صوت، من حدثٍ بسيط..
إليكم هذا المقتطف من النص:
“بينما كان يتجول في حديقة، أثار فضوله صوت وديع قادم من خلف شجرة ضخمة فأراد أن يتعرف على صاحب هذا الصوت الرقيق الوديع، فاقترب من الشجرة حذرا، أطل من خلفها فإذا به يفاجأ برؤية طفلة تكلم شيئا لم يتبين شكلَه ونوعَه..
وتنتبه الطفلة إلى وجود لويس كارول بقربها فتبتسم له مرحبة به..
ـ مرحبا سيدي
ـ شكرا بنيتي..
ـ هل من خدمة سيدي؟
ـ لا شيء، فقط أثارني صوتك من خلف الشجرة فحثني فضولي إلى معرفة صاحب الصوت..
ـ أنا صاحبته واسمي أليس..
ـ مع من كنت تتحدثين يا أليس! أنا لا أرى شخصا تتحدثين إليه..
ـ ههه.. نحن الصغار لا نتحدث إلى أمثالك فحسب بل نتحدث أيضا إلى باقي الكائنات الحية والجامدة. نعرف لغاتها فنتواصل معها، كما أننا نتحدث في خلواتنا إلى لا مرئيين..
ـ لا مرئيين!؟
ـ كائنات، موجودة، تعيش معنا، بيننا، لا يراها أمثالك الكبار سيدي، فقط نحن الصغار من يراها…
ـ إلى من كنت تتحدثين قبل قليل؟
ـ كنت أتحدث إلى يرقة..
ـ هل هي صديقتك؟
ـ نعم اسمها ” كاتربيلر” قريبا ستتحول إلى فراشة جميلة تحمل ألوانا بهية..”..
.. وهكذا، وبعد هذا اللقاء الفريد الغريب، خطرت على الكاتب لويس كارول فكرة كتابة رائعته ” مغامرات أليس في بلاد العجائب”..
الكتابة للطفل لا تتأتى من فراغ، ليست نزوة أو طلبا من ناشر..
الكتابة للطفل تحتاج كاتبا يعيش طفولة دائمة، يعاين ويعايش حالات أقرانه الصغار يوميا: يحزن لحزنهم ويعاني لمعاناتهم ويتألم لآلامهم، ويفرح لفرحهم، وأهم شيء يحلم مثل أحلامهم..
والأروع والأبهى إذا ما كان بمقدوره أن ينسل إلى أحلامهم ويصف أرخبيلاتها وعوالمها السحرية..
إنهم يرون ما لا نراه، ويسمعون ما لا نسمعه. وإحساسهم بالأشياء وردة فعلهم وتفاعلهم مع ما يجري في الواقع أمر يفرض على الكاتب ألا يستصغر عقولهم.
أدمعت عيناي لطفل من غزة، سأله مراسل قناة:
” ماذا تتمنى أن تكون في المستقبل؟”
فرد الطفل بهدوء صقيعي، لكن في نبرته قوة وحدة:
” نحن هنا لا نكبر، سيدي.. نحن نموت صغارا”
كاتب لم أعد أذكر اسمه (من مطالعاتي القديمة) سأله محاوره عن الكيفية التي يبتكر بها جملا وتعابير غير مسبوقة في كتابة الآخرين، قال:
ذات يوم كنت مع ولدي نتنزه على الكورنيش، كان الطقس حارا، والعطش قد أخذ منا مأخذه، انتبهت إلى ولدي فرأيته يفتح فمه على اتساعه، سألته: ماذا تفعل؟ فأجابني: إني أشرب الهواء.
مرة أخرى، لا تستصغروا عقول الصغار.
كلنا يعرف سلسلة (هاري بوتر)، أو سمع بها. خطرت الفكرة لكاتبتها عندما تأخر قطارها بين مانشستر ولندن في عام 1990م. بيع من السلسة 400 مليون نسخة. وثروة الكاتبة حاليا تتجاوز المليار دولار.
بينيكيو (كارلو كولودي1888) / الأميرة النائمة/ ليلى والذئب / سندريلا (شارل بيرو) / أوليفر تويست (شارل ديكنز) / روبنسون كروزو (دانيال ديفو) / رحلات جليفر (جوناثان سويفت).. بعض من كثير..
أين نحن من هذه التحف الأدبية؟
أين يكمن الابتكار في ما نكتب؟ لغة، خيالا، وصفا..
شخصيا عاجز عن الرد..
بل محرَج أن أتحدث عن تجربتي في الكتابة للطفل وهي التي تشبه رضيعا لم يتحرر بعد من قماطه.. ولن يتحرر..”

*الورقة التي شاركت بها هذا بالمعرض الدولي للكتاب الأدبي الموجه للناشئة المنعقد بالدار البيضاء


بتاريخ : 22/11/2023