عبد الحميد جماهري ضيفا على «مدارات» التهاني: «ربما أنتمي لجيل يثابر نثريا أكثر مما يثابر شعريا»

جزء من الأفق اليساري صار من صميم الممارسة اليومية للدولة
السياسي تخلى عن المثقف الذي استُبدل بـ «الداعية»

ما الذي يجمع الصحافة بالأدب وبالشعر تحديدا؟ هل يمكن أن تتجاور الصحافة بلغتها التقريرية مع الخيال بشطحاته ورؤاه واستعاراته ؟ كيف يتسلل الشاعر إلى روح الصحافي والعكس صحيح، وهل تسمح الصحافة المشغولة بهاجس الزمن بهذا الانتقال بسلاسة؟ لماذا تراجع المثقف المغربي اليوم عن أدواره الطلائعية داخل المجتمع؟
تلكم بعض الأسئلة التي توقف عندها الزميل عبد الإله التهاني في حواره مع الشاعر عبد الحميد جماهري في لحظة إنصات عميق لهموم الشاعر داخل الصحافي، وإلى تأثير مهنة المتاعب واستنزافها للمبدع.
أسئلة أجاب عنها صاحب «نثريات الغريب» و«بنصف المعنى فقط» و«مهن الوهم» و«جاؤوا لنقص في السماء»، و«مذكرات محمد الرايس: تذكرة ذهاب وإياب الى الجحيم» و«ذهبنا الى الصين وعدنا من المستقبل»، بمخاتلات شعرية وفلسفية من شاعر يلهو بالاستعارات، هو الذي اعتاد أن يعبر بين الشعر والصحافة والسياسة بمرونة لا تقيم قطائع بين هاته القارات، إلا لتربطها بخيط ناظم وسقف مشترك اسمه: الإنسان.

 

اعتبر الشاعر والإعلامي والمترجم عبد الحميد جماهري أن طفولته، بشكل من الأشكال، ساهمت في إصابته بلوثة الكتابة، هو المدين لأحجيات الجدة التي ربت خياله، ولقصص المتن الديني التي كان يحكيها الجد عن الأنبياء والأولياء وكراماتهم، مضيفا أن هذا المزيج من الأخيلة جعل التربة مهيأة للانتقال إلى المكتوب بسلاسة، وهي التربة التي تعهدها جيل من الأساتذة الأوائل ممن كانوا يشجعون على القراءة ( الشعر، الفلسفة،..)، واستدراج الذاكرة إلى قارات لغوية أخرى سهلت عليه قراءة نصوص إبداعية أخرى ما جعل المفكرة ورشة مفتوحة بالخيال، قبل أن يداهمه الحب ويسوقه «إلى حيث تقيم السوسنة».
عبد الحميد جماهري الذي يقيم في قارات إبداعية متعددة، في مقاربته للعلاقة بين الكتابة الشعرية والصحافة، لفت الى أن جزءا من الثورة الأدبية في المغرب لم يكن ممكنا بدون صحافة، مضيفا أن الكتابة قادته إلى الشعر والصحافة، فالبداية كانت اندفاعة حيوية وورشة تخييلية غير محددة الملامح، لأنها كانت عبارة عن نصوص مفتوحة بين الثورة والحب، بين الرومانسية ونوع من القلق الصوفي غير المعلن عنه الذي يجد تعابيره في تلاطم الأجناس، لتتخذ الكتابة الشعرية بعد هذه الفترة، ملامحها الواضحة. فالقصيدة بالنسبة إليه سابقة على الصحافة التي ستكون في ما بعد الحاضنة لكل التجارب الإبداعية المغربية، معتبرا أن ولادة ثقافة جديدة بالمغرب تمت من داخل المتن الصحفي، حيث كان أغلب الكتاب والشعراء يتحملون مسؤوليات تحريرية، ما يشي بنوع من التوأمة السيامية بين الأدب والصحافة.

الإقامة في العالم شعريا

يقول الشاعر الألماني هولدر لين في إحدى قصائده المتأخرة:
«مفعما بالجدارات،
لكن شعريا
يقيم الإنسان فوق هذه الأرض»
هي كذلك تجربة الشاعر عبد الحمدي جماهري الذي يلخص قدرته في التوليف بين الصحافة والشعر والمقالة، في كونه خلال تجربته ظل المطلب الدائم له هو الإقامة في العالم شعريا، وهي التجربة التي يرى أن الشغف وحده هو ما جعله ينجح في المزاوجة بينها، خاصة بالنسبة لشاعر ينتمي إلى جيل كان يحاور القصيدة ويدافع عنها نثريا عبر الكتابة الصحافية.
لا يخفي جماهري أن الالتزام اليومي في الصحافة يستلزم بالضرورة إجهادا لغويا لا يمكن أن يتحرر منه الصحافي الكاتب إلا عبر الزاوية الشعرية حتى تستعيد الحاسة اللغوية وظيفتها، إذ وحده الشعر هو القادر على ذلك. فالصحافي الأديب محظوظ ومحصن في الكثير من الأحيان من الإصابة بأورام المهنة، لأن هناك لحظات في الصحافة لا يمكن أن تحتمي منها إلا بالشعر والخيال، درءا لتكلس اللغة والروح. وهذه ميزة تضاف للصحفي الشاعر الذي يُحيي نفسه، عند الضرورة، بمجاراة الخيال، ودون هذه الروح الشعرية قد يصبح مرتزقا بشكل من الأشكال.
إن الشعر يثأر لنفسه إبان الكتابة الصحفية، يقول جماهري: « من حسن حظي أنني من جيل طور تجربته نحو قصيدة النثر، فتقلصت المساحة بين النثرية والكتابة الصحافية»، مضيفا « ربما أنتمي لجيل يثابر نثريا أكثر مما يثابر شعريا».

ذخيرة شعرية من الألم والحب

ذخيرة شعرية من أربعة دواوين (أو رصاصات)، هي مايواجه به الشاعر عبد الحميد جماهري هذا العالم، هو الذي يعتبر أن الشعر هو مهنة الوهم التي أعلن من خلال ديوانه الأول «مهن الوهم» انتماءه الواضح لها قبل أن يصدر «بنصف المعنى فقط» الذي هو معنى عميق ومتكامل للحياة، معتبرا أننا نعيش الحياة بقدرة عيش إنسانية نسبية ومطبوعة بحدود المعنى، المعنى الذي أعلنه في «نثريات الغريب» طامحا في إنسانية جديدة عبر السفر في قارات لغوية وترجمات عالمية. هذه الإنسانية التي اكتشف أنها تنتهك باسم الدين وباسم من «جاؤوا لنقص في السماء «يسرقون إرادة الله في البشرية وفي المصائر.
تجربة شعرية تؤثثها أسماء شعرية تسكن الذاكرة والروح من قبيل بول إيلوار وروني شار اللذين كان اكتشافهما بالنسبة إليه بمثابة نبراس لشاعر يبحث عن صوته الشعري المتميز والبعيد عن التصنيفات التي كان يغلب عليها التحقيب، فألهمه إيلوار فلسفة الألم شعريا، وروني شار قرأه كشكل في الكتابة. وربما هذه الأرواح الشعرية التي تسكنه هي ما جعل ملمح الحزن يتردد في عدد من قصائده، التي يستشف منها شعور عميق بالخذلان، وهو ما عبر عنه في هذا الحوار جازما «لو طلب مني أن أختار الحزن أو اللاشيء، لاخترت الحزن» إيمانا منه بأنه «طريقة لتحصين الذات حتى لا تفلسف نفسها».
هذا الانفتاح على التجارب الشعرية والإبداعية للآخر، هو ما دفعه الى منحها حياة أخرى عبر الترجمة التي يعتبرها تمرينا إبداعيا وكتابة جديدة للنصوص، ومرجلا تشتغل من خلاله الآلة الداخلية والكلمات في مابينها. في هذه المراوحة بين لسانين، كانت البداية من داخل الصحافة بالفرنسية (ليبراسيون المغربية) قبل الانتقال الى الكتابة الصحافية بالعربية (الاتحاد الاشتراكي). فالمهني افترض الكتابة بالفرنسية أولا، فيما كان الأدبي ممهورا باللغة الأم، وهو ما جعل اللغة لغتين، والخيال خيالين.

المثقف والداعية

في مقاربته لتراجع المثقف اليوم عن تغذية شرايين الممارسة السياسية وضعف حضوره داخل النقاشات المجتمعية، اعتبر جماهري أن جوهر القضية يكمن في تبادل العلاقة بين الطرفين والذي تتدخل فيه أسباب ذاتية الى جانب أخرى موضوعية، ويتعلق الأمر أولا بالاجابة عن سؤال: كيف عاش اليسار والنخبة وقوى الحركة الوطنية هذا السؤال في ما مضى؟ محيلا على الإطار الزمني حيث كانت العلاقة متوترة وصدامية بين الدولة واليسار ومثقفيه ممن كانوا يجتهدون لتقديم مشروعهم الفكري، ومن ثم كانت الحاجة ماسة لمثقف يسائل ويشاكس الواقع ويبحث من ثمة عن أجوبة لهذه الأسئلة، ويكون بالتالي قادرا على الهيمنة ثقافيا. لكن ما وقع اليوم من تراجع، يعود في جزء كبير منه إلى ضعف اليسار بشكل عام أمام النقابي قبل الثقافي قبل أن تتفاقم معضلة الثقافي بعودة المشاريع الماضوية كبديل لكل الطروحات الاشتراكية واليبرالية، فاستبدل المثقف بـ «الداعية» الذي عزز حضوره داخل الأحزاب وفي النقاش السياسي والميديا.
ما حدث أيضا ، يضيف جماهري، هو تنازل السياسي عن جوهر السياسة، وتخليه عن المشروع الثقافي وعن المثقف لأن السؤال الذي طغى داخل هذه المعادلة ليس هو: من سيربح المعركة من خلال المشروع الفكري؟ ولكن : من سيربح الانتخابات؟.
المعطى الأهم الذي يمكن على ضوئه تفسير هذا «التراجع»، هو التحول الجوهري في وظائف الدولة التي أصبحت حاملة لمشروع ثقافي في ما يمكن وصفه بأن الدولة أصبحت هي «المثقف الجماعي»، من خلال تدبيرها لعدد من القضايا الخلافية داخل المجتمع: (الهوية، اللغة، مدونة الأسرة، مواجهة التطرف الديني..)، ما يشي بأن جزءا من الأفق اليساري الكوني الذي كان حكرا على قوى اليسار – خاصة في شقه الحداثي – صار جزءا من الممارسة اليومية للدولة. فالحداثة لم تعد مفهوما خلافيا، كما يرى جماهري، لنضج شروطها اليوم بالمغرب، ملاحظا أن الحداثة المادية التي نجحت فيها الدولة إلى حد ما والمرتبطة بالبنيات التحيتة واللوجستيك، أصبحت الدولة تنازع فيها فكريا بل تباشر أوراشها فعليا بمساعدة المفكرين والمثقفين في إطار من التوافقات الوطنية الذاهبة الى المستقبل، والمتسلحة بهوية لا تقيم في داخلها أو تطرح نفسها بشكل قاتل يجعلها جامدة، بل هوية لا يمكن أن تتأسس إلا بالآخر، بعيدا عن أي لبوس سياسي يزج بها في خدمة أجندات معينة.


الكاتب : حفيظة الفارسي 

  

بتاريخ : 28/01/2022