عبد اللطيف فتح الدين يفتح اللسان العربي على الوجه الأنثروبولوجي لمحمد أركون

منذ أن دشّن الراحل محمد أركون مشروع نقد العقل الإسلامي في سبعينيات القرن العشرين، وهو يؤكد ويردد بأن الأمر يتعلق بمشروع كبير يحتاج إلى فتح عدة أوراش من أجل مباشرة عمليات الحفر والتنقيب في تلك الطبقات المتراكمة عبر عصور طويلة من تاريخ العرب والمسلمين. ورغم إدراكه صعوبة المشروع، فقد كان مقتنعا بأنه سيأتي الوقت الذي سينهض المثقفون العرب والمسلمون للقيام بهذه المهمة، فذلك هو السبيل الوحيد للخروج من مرحلة الانسداد التاريخي التي تعيشه الشعوب العربية الإسلامية في العصور الحالية.
ولعل ترجمة أعمال محمد أركون إلى اللسان العربي تعد أحد المداخل الكبرى التي من شأنها أن تتيح لنا إمكانات مباشرة الطريق الذي شيّده الرجل وكرس له مسار تأليفه، ووعيا منه بالمسألة أطل علينا هذا الموسم الثقافي الجديد الدكتور عبد اللطيف فتح الدين رئيس شعبة الفلسفة في كلية بنمسيك-الدار البيضاء المغرب إطلالة بهية ومشرقة من خلال توقيعه على ترجمة أنيقة وأصيلة لمجموعة من النصوص المهمة لمحمد أركون، جمعها في مصنف اختار له عنوان: «الإسلاميات التطبيقية وأسئلة العقل الإسلامي» الصادر حديثا عن منشورات مؤسسة مؤمنون بلاحدود 2020

 

تعتبر الإسلاميات التطبيقية نقطة الانطلاق في المشروع الفكري والنقدي عند محمد أركون، بل يمكن اعتبارها هي المحور الرئيس الذي تدور حوله كل القضايا التي يمكن وضعها تحت مجهر النقد الأركوني للثقافة العربية الإسلامية. ويعتبرها أركون بمثابة البديل الذي يقيمه في مقابل الإسلاميات الكلاسيكية التي أنتجها العقل الاستشراقي الغربي خاصة في تعامله مع هذه الثقافة. في هذا الإطار يعلن صراحة بأن الإسلاميات التطبيقية جاءت لتصحيح هذا الوضع التي توجد عليه دراسات الموروث الثقافي العربي والإسلامي كما وضع أسسه المستشرقون الغربيون، مبينا أن عملية التصحيح هذه ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار الملاحظات التالية:
1 – التعامل مع الإسلام كدين وكتراث فكري له حضور قوي في الساحة العربية الإسلامية والدور الإيديولوجي والنفسي الذي يلعبه في هذه المجتمعات. من هذا المنطلق ينبغي دراسة القرآن دراسة موضوعية باعتباره له وزنه داخل هذه الساحة ليس فقط عند النخبة بل كذلك عند جماهير الشعب.
2 – إن الفكر الإسلامي لايزال يشتغل داخل الإطار المعرفي للقرون الوسطى، حيث الخلط بين الأسطوري والتاريخي، والتكريس الدوغمائي للقيم الأخلاقية والدينية والتأكيد التيولوجي على تفوق المؤمن على غير المؤمن والمسلم على غير المسلم مع تقديس اللغة والمعنى النصي المنقول والمفسر من طرف الفقهاء، بالإضافة إلى تقديس العقل واعتباره شيئا فوق التاريخ.
3- لايزال ينظر إلى الظاهرة الدينية نظرة تقليدية سواء من طرف المسلمين أنفسهم أو من طرف علماء الاستشراق الغربيين من منظورين متكاملين:
أ- النظر إلى الدين الإسلامي كفعالية علمية داخل الفكر الإسلامي مع مقارنته بالأديان الأخرى.
ب- النظر إليه باعتباره فعالية متضامنة مع الفكر المعاصر له، وذلك بإدخال المناهج الجديدة لدراسة النص المؤسس دراسة مقارنة تحليلية وتفكيكية، وهذا كفيل بتجديد النص المؤسس وبالتالي تجديد الفكر الديني بشكل عام.
4- إن قضية المعنى المرتبط بالنص المقدس، ينبغي أن تدفع الباحث إلى التعامل مع الظاهرة القرآنية كمعطى لغوي وعامل تاريخي محسوس وليس كوحي نهائي مبطل أو مكمل للوحي السابق. كما ينبغي تطبيق ذلك على الأديان الثلاثة للتخلص من مسألة الرفض الثقافي للآخرين، وهو ما كرسه الفكر التيولوجي عند أصحاب الديانات.
5- ينبغي التنبيه إلى أن الباحث، وفقا للإسلاميات التطبيقية، يجب عليه أن يعلم بأنه ليس هناك خطاب أو منهج بريء مادام يسعى إلى نقد الخطاب مع الانطلاق من تعدد المناهج حتى لا تسقط أبحاثه في اختزال المادة المدروسة.
الإسلاميات التطبيقية هي ممارسة علمية متعددة الاختصاصات، وهذا ناتج عن اهتماماتها المعاصرة (فهي تريد أن تكون متضامنة مع نجاحات الفكر المعاصر ومخاطره) والمتطلبات الخاصة بموضوع دراستها. لقد ارتبطت ظاهرة الإسلام، منذ نشأتها، بكلام أصبح نصا، وهذا يعني أنه ينبغي على عالم الإسلاميات أن يكون مختصا بالألسنيات بشكل كامل، وليس فقط متطفلا على أحد أنواعها. في الوقت ذاته ، فإن الإسلام كظاهرة دينية، لا يمكن لنا أن نقلصه (أن نختزله) إلى مجرد نظام من الأفكار المجردة، المتمتعة بحياة خاصة، كالجواهر الجامدة . فالإسلام ،كأي دين آخر، هو جسد مؤلف من عدة عوامل لاتنفصم: العامل النفساني والبسيكولوجي (الفردي والجماعي) والعامل التاريخي (تطور المجتمعات الإسلاميات) والعامل السوسيولوجي (أي محل الإسلام ضمن «نظام العمل التاريخي» لكل مجتمع، وانعكاس مصير هذه المجتمعات على الإسلام كدين) والعامل الثقافي (فن-أدب-فكر) . لاشك في أن تقسيم العمل يبقى أمرا محتوما لمن يريد أن يكتشف مجالا واسعا ومعقدا كهذا المجال. لكن لا يمكننا أن ننسى أن الموقف الإسلامي الأكثر ثباتا وديمومة كان (ولايزال) يتلخص في ممارسة الإسلام وتقديمه «كدين ودنيا) لا ينفصمان. هذا ما يفسر لنا لماذا تجاهلت الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية حدودنا العلمية القاسية الراهنة- التي كرست تعسفيا من قبل الإسلاميات الكلاسيكية .

الحج في الفكر
الإسلامي

يستمد هذا الكتاب قيمته من جهة أولى انطلاقا من كون محمد أركون يعتمر فيه قبعة الباحث الأنثروبولوجي في التراث والواقع الإسلاميين، من خلال تسليط الضوء على ثلة من الموضوعات الأنثروبولوجية مثل ظاهرة الحج، ومن جهة ثانية كونه يعمل على تبديد سوء الفهم الذي لحق مشروع نقد العقل الإسلامي.
ويبرز محمد أركون أن قواعد الفهم تفرض ضرورة الكشف عن الجانبين النفسي والتاريخي لظاهرة الحج بوصفه فرضا قائما على غايات روحية، بيد أن الحج بما هو شعيرة يفصح عن وعي وخبرة أنثروبولوجبة تنبجس منها إشكالات فلسفية وكلامية شمر محمد أركون على استنطاق إوالياتها ورهاناتها، خصوصا وأن الحج بات الظاهرة الدينية الأكثر إثارة للانتباه في الحياة الاسلامية المعاصرة.
ويرفض محمد أركون تحليل ظاهرة الحج اعتمادا على القراءة التقليدية للنص الديني، ويعوضها بالتحليل اللغوي المصحوب بالتحليل التاريخي، انطلاقا من فحص البنيات الأنثربولوجية والنفسية والاجتماعية الثاوية خلف الدلالات اللغوية للنص القرآني، وخلف مختلف أنماط شرحه وتفسيره وتأويله من طرف أهل الخطابات المهيمنة.
ويسجل محمد أركون أن المسلمين يغفلون الظروف النفسية والسوسيولوجية حول الحج في الخطاب القرآني التي تم تحجيمها وتغييبها إثر رَكنها بجانب الأخبار المتناثرة التي تسرد أحوال مجتمع عربي «بدائي» يتخبط في «غياهب الجهل» في حين يركزون في الخطاب القرآني حول الحج على البعد العمودي الذي أقره وأسسه التنزيل والوحي، الأمر الذي دفع محمد أركون إلى بسط قول حول نشأة الحج في الإسلام من الزاوية النفسية والتاريخية عبر استنطاق جدلية الحج والوعي الإسلامي دون أن يحيد «قيد أنملة عن الطريق الوعر الذي يسلكه أهل الورع، ذلك الضمير ذو الحس المرهف الحريص الذي يخشى تضييع جزء من الكلام الالهي المحيي، أو التفريط في القواعد التي يوجبها الفهم.» (الإسلاميات التطبيقية وأسئلة العقل الإسلامي ، ترجمة عبد اللطيف فتح الدين، منشورات مؤسسة مؤمنون بلاحدود 2020، 31 -32 ).
ويتخذ محمد أركون من ظاهرة الحج مثالا للتدليل على الاستمرارية التي لازمت حقلا تعبيريا تعبديا يتصل بتاريخ مجموعة عرقية ثقافية معينة، ومع رهاناتها وتطلعاتها وحاجاتها أكثر من اتصاله بالدين الإسلامي، بيد أن «القوة التي طبعت هذه الانطلاقة كان من شأنها أن غيرت معالم الأشياء والأماكن والحركات والسلوكات المؤلفة لمسار الحج التعبدي، وحولتها إلى ركائز ومقومات رمزية تنهض عليها تجربة روحية غنية.» (المرجع نفسه، ص:35 ). ولعل هذا ما دفع أركون إلى العودة إلى آيات الحج في القرآن، وتحليلها بنقلها إلى حقل جديد من حقول الفهم والتأويل، وقد خرج إثر ذلك باستنتاج مفاده أن التغير الذي عرفه الحج من طابعه الوثني إلى طابعه الإسلامي هو «فعل ينم عن واقعية اجتماعية سياسية، وعن ابداع دلالي، فعل يمكن للدارس أن يتتبع أطواره، ويقتفي مراحله، ويلتقط قرائنه وعلاماته اللغوية في القرآن الكريم» (المرجع نفسه،ص:42 ).إذ يحيل الحج في القرآن على تجربة أنطولوجية ترفع الوعي العربي إلى مقام المفارق، «إن في طقوس الحج وشعائره من التعدد والاعتباطية ما يجعل المؤمن، الذي يؤديها حريصا متذللا، ينتهي، طال الزمن أو قصر، إلى تلك الحالة الصميمية من العشق الإلهي التي تغذي كبرى التجارب الدينية.» (المرجع نفسه،ص:48-49 ).
ولا يخفي أركون شعوره بالأسى لما لحق الحج من إفراغ عقلي من قبل أهل الشرع، حيث هيمن الحج الشرعي على الحج العقلي الذي يمثله التوحيدي والغزالي والقاضي سعيد، والإمام جعفر الصادق، يقول محمد أركون: «إن كلمة الفصل تبقى من نصيب القاعدة التي فصلها الشرع، علما بأن بعض الأقطاب، الذين قادتهم جرأتهم إلى ترجيح كفة الحج العقلي على كفة الحج الشرعي، لاقوا الاستنكار والتنديد من قبل القيمين على أمور الحياة الدينية في الإسلام وهم الفقهاء، ومن حيث إن الغلبة كانت لنص القانون على روحه، يجدر بنا الحديث عن حدوث رجوع إلى المجال الوجودي المغلق بعد أن كان القرآن قد أحل محله عالما دلاليا منفتحا.» (المرجع نفسه،ص:49 ).
صار من الصعوبة بمكان التمييز بين البعد الديني والمهام الأخرى الدنيوية للحج بعد التغير الذي شهدته الشروط المادية للقيام بالحج، ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر إثر تقدم الملاحة البخارية وبناء السكك وتطور التدابير الصحية والأمنية، وتعميم استعمال السيارات والنقل الجوي والتلقيح. كما يدل البعد السياسي للحج على الانتقال به من الديني إلى الدنيوي من المقدس إلى المدنس، حيث يعد الحج بالنسبة لكل دولة إسلامية مناسبة سنوية لتوطيد وتقوية تماسك الجماعة الإسلامية، يقول أركون:» بقدر ما كان الحج يعني فترة هدنة في مكة، بقدر ما تؤدي الاحتفالات إلى تناسي العداوات المحلية والتقريب من العائلات والطبقات الاجتماعية، وتمنح المجتمع برمته لحظة تلاق معنوي. في هذا العمق الشعبي يؤدي الإسلام دوره كاملا باعتباره عامل توحيد إيديولوجي وقوة محركة للأعمال التاريخية الكبرى، كحروب التحرير أو المحاولات الحالية للبناء الوطني، وعلى نطاق أوسع تماسك الأمة، المجسد في التجمع الهائل في عرفات، يتحقق بفعالية بقدر ما يستثير قوة النماذج الثقافية التقليدية وقوى الماضي التي لا ينقطع مفعولها.» (المرجع نفسه،ص:57 ).
أما على المستوى الاقتصادي، فمعلوم أن الحج ينعش انتقال ثروات وأنشطة محلية ما يدفع بعض الدول إلى الحد من عدد الحجاج سنويا من أجل تفادي النزيف الحاد الذي تشهده العملة. وعلى المستوى النفسي يظهر الحج كفرصة تمكن الأفراد من تلبية انتظاراتهم المتنوعة بدءا بالآخرة وصولا إلى نجاح صفقاتهم المربحة، ف»العديد من الناس يمتثلون لواجب شرعي، فيما آخرون يقررون الوفاء بنذر شخصي (ممارسة شائعة لنيل شفاعة الأولياء) امتثالا لأمر تلقوه، خلال حلم، من النبي، أو من ولي محلي، أو للظفر بمكانة اجتماعية مرموقة أو لإشباع فضول مؤجج منذ الطفولة بحكايات أولئك الذين سمعوا أو رأوا». (المرجع نفسه،ص:57).
تدل وظائف الحج المتعددة التي بسطها أركون على التداخل القائم بين الدين والتاريخ وبين المقدس والمدنس، والجماعي والفردي، بين التطلعات الروحية والمنجزات المادية. غالبا ما يتم رفض إخضاع التجربة الدينية لمحك النقد السوسيولوجي والأنثروبولوجي والتاريخي والتحليل النفسي والسميائي واللساني بدعوى أن هذه الحقول المعرفية تذيب الشأن الديني في غياهب النسبية، في حين أن هذه الحقول العلمية «تطهر الديانات من الشوائب المودعة فيها من قبل العديدين المتلاعبين بالمقدس، وهي بذلك تلتقي تماما مع انشغال دائم لدى المتصوفة، الذين شهدوا كلهم وناضلوا من أجل تجربة أنطولوجية غير قابلة للاختزال في المظاهر المعتادة للحياة الدينية.» (المرجع نفسه،59).

مفهوم العقل
الإسلامي

يشير أركون إلى أنه بدأ يكتب في نقد العقل الإسلامي في سنة 1976 تحت تأثير أجواء المناقشات العلمية في الساحة الثقافية الفرنسية، خاصة في مجالات الألسنيات والسيميائيات، والنقد الأدبي وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا والتاريخ. فوجد الباحثون الشباب آنذاك والمهتمون بدراسة الفكر الإسلامي أنفسهم أمام هذه المستجدات فبدأوا يشقون الطريق من أجل تجاوز الإطار الفكري القديم لتاريخ الأفكار، كما أن المستشرقين كانوا مستمرين في تطبيقه على دراسة الفكر الإسلامي.وأول دراسة حول نقد العقل الإسلامي نشرها سنة 1981 بمجلة حوليات إفريقيا الشمالية، ثم أعاد نشرها في كتاب: نقد العقل الإسلامي» بالفرنسية سنة 1984، وفي سنة 1991 عاد أركون إلى بلورة هذا المفهوم من جديد في دراسة تحمل عنوان:» آفاق وحدود العقل الإسلامي» قدمت ضمن فعاليات اللقاء التي تم تنظيمه بالدر البيضاء سنة 1993 بمبادرة مشتركة من مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية والكوليج الدولي للفلسفة بباريس.
إن التعريف الأساسي للعقل التي ينطلق منه أركون هو التالي: العقل الإسلامي مثله مثل العقل اليهودي والعقل المسيحي، رغم الاختلافات العقائدية والشعائرية، هو عقل ديني لاهوتي في مقابل العقل العلمي الفلسفي الحديث.
إذن فالعقل الإسلامي في نظره ليس شيئا مطلقا وأبديا وإنما هو صيغة من صيغ العقل، معنى ذلك أنه عقل تاريخي له بداية ونهاية، مثله مثل أي عقل يتشكل في التاريخ.كما حاول أركون في الكثير من الدراسات والبحوث أن يرد على الاعتراض التالي الذي بدا له أساسيا وله أهميته، والذي يرى أن العقل إذا كان واحدا فلا ينبغي أن يكون إسلاميا أو مسيحيا، بل ينبغي التعامل معه على أنه عقل نقدي يسعى إلى المساءلة النقدية ويرفض الانغلاق داخل حدود أي دين أو طائفة أو مذهب، لأن وظيفة العقل هي الكشف الحر عن الظواهر والمسائل والقضايا خارج نطاق هيمنة الأحكام المسبقة أو الأطر الطبقية عرقية كانت أم دينية، فالعقل البشري إذن واحد صالح للجميع وينطبق على الجميع:
« لقد كانت الدعوة إلى عقل أزلي منسجم قبليا مع تعاليم الوحي دائما حاضرة، ليس فقط في مختلف مدارس الفكر الإسلامي، بل أيضا في اليهودية والمسيحية. فالإيمان بالمعطى الموحى به يعضد، وينير، ويرشد العقل البشري، الذي إن ترك لحاله، لا يملك إلا أن يهيم على وجهه. لقد تم في الإسلام تعميم الاعتقاد بأصل إلهي للعقل يضمن التأصيل الأنطولوجي لعملياته، بذلك الحديث الشهير المستوحى من نظرية الفيض: « إن أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، فقال: وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، فبك آخذ وبك الثواب وبك العقاب.» (المرجع نفسه،ص:85 )

مكانة ابن رشد
في تاريخ الفكر

أصبح الفكر في الفضاء الاسلامي فكرا يرتكز على إواليات إيديولوجيا الكفاح والأصولية الدينية منذ سنة 1945، في حين كانت الذات العربية المسلمة خلال القرن الثاني عشر منارة ترخي بأشعتها المبهجة على منظومة القيم، ولعل ابن رشد أحد أعمدة هذه المنارة: «إن الشيء الأصيل، الذي أتى به فيلسوف قرطبة في إطار هذا الصراع، إنما يتمثل في كونه أقدم على تجريب الأرسطي، في إطار (LOGOS) الملائمة الفلسفية التي للغوس عملية تأويل كلام الله المنزل باللسان العربي في ما يخص الدين الإسلامي.» (المرجع نفسه،ص:158 ). لم يقلل ابن رشد قط من شأن علم الكلام ومن موقفه تجاه ما هو معطى منزل، بقدر ما عمل على توضيح ثراء العقل الفلسفي الذي يستوعب كل لمكونات والطرائق وأساليب الخطابة الفعالة من الزاوية الفكرية: « إن هذه اللمسة الفكريةـ، موضوعة في سياق القرن الثاني عشر اللاتيني والعربي واليهودي والإسلامي المسيحي، كانت لمسة خلاقة مبدعة ترتبط أكثر بالدفاع عن ((أنوار)) العقل البشري المعقلنة منها بالذود عن أرثودوكسية كلامية محصورة في حدود عشيرة عقدية ما.» (المرجع نفسه، ص:158 ).
منزلة ابن طفيل في تاريخ الفكر
يدعو محمد أركون إلى ضرورة إخضاع حي ابن يقضان لمحك القراءة النقدية المتفهمة، قراءة لا تتردد في استنطاق ما تحمله كل القراءات بما فيها قراءة أركون نفسه، من مشروعية ابستمولوجية وملائمة منهجية، وذلك بالنظر إلى قيمة هذا المصنف الذي ينم عن « قناعة فيها قوة وحمية، وعن شراسة في التعامل مع ما يحيط بالدين من تعبيرات شعبية.» (المرجع نفسه، ص:203 ) الأمر الذي جعل هذا المصنف يحظى بقيمة عظيمة داخل الفكر الغربي المسيحي، ف» في قارة أوروبية متشبعة بالعقلانية وبالمنهج التجربي، لن نستغرب إشادة ليبنز بكتاب الفيلسوف العصامي الذي نشره بوكوك انطلاقا من اللسان العربي… كما سيسهل علينا فهم نصيحة اسبينوزا إلى أصدقائه لقراءة حكاية ابن طفيل. من المحقق أن مبادرات حي الأولى وجهوده من أجل السيطرة، بوساطة الفكر العقلي، على العناصر الطبيعية، تنسجم مع مسعى العلم الوضعي، لو تم تبنيها وتطويرها داخل أطر سوسيوثقافية ملائمة. والواقع أن هذه الأطر بالذات، هي التي تتقوى شوكتها في الغرب، بينما كانت ريحها قد ذهبت في الفضاء العربي الإسلامي.» (المرجع نفسه، ص206 ).

المسألة الإيتيقية والقانونية في الفكر الاسلامي

يحضر منهج المفاضلة بشكل لافت لدى فقهائنا المنغلقين لاهوتيّاً، إذ لا تعبّر تحليلاتهم وقراءاتهم على أدنى حياد علمي، بل تنطلق من دوافع إيمانيَّة ومركزيَّة دينية يتضح فيها ما للمعتقد الشخصي من أثر على موضوعيتها، ويتجلى ذلك خاصة مع ابن تيمية الذي ذهب إلى أن الدلائل الدالة على صدق محمد أعظم من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى، ومعجزاته أعظم من معجزات غيره، والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتب التي بعث بها غيره، والشريعة التي جاء بها أكمل من شريعة موسى وعيسى.
من الواضح أنَّ الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تشرِّع القتل وتعلن عن كراهيتها للآخر الديني وغير الديني بشكل صريح، وتصفه بالانحراف والفساد لا تتوفر على غرائز أخلاقية، بل ليس لديها أدنى قابلية للشعور أو ميل طبيعي للتعاطف مع الآخرين. ذلك الميل الطبيعي الذي نجده حاضرا عند الحيوانات التي تمتنع عن قتل النوع ذاته.
إن الدعوة إلى مبدأ الاحترام الوضعي القانوني أصبحت ملحة وشائعة في مجتمعاتنا التي تقبع تحت نير النزاعات العرقية والثقافية والطائفيَّة والسياسيَّة، صحيح أن الفكر الغربي لا ينأى عن ربط مبدأ التسامح الوضعي بنشأة فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر وبتشييد الحداثة الماديَّة والفكريَّة، إذ يصبح من اليسير الإقرار بأن فكرة الحداثة قد انبثقت للمرة الأولى في أوروبا الغربية عن طريق ضرب فكرة التسامح كمثل لذلك. بل إن كل الحضارات العالمية التي تمكنت من تحقيق الوعي بأنطولوجيَّتها البشرية لم يتأتّ لها ذلك سوى لأنها قررت تشييد مبدأ الاحترام وصياغته بلغة حقوقية. وجعلت من هذا المبدأ مركزاً لأنظمتها الحقوقية. إذ غدت اللغة الحقوقية في عصرنا هي الوحيدة التي تكفل التعبير عن المعايير الأخلاقية الشاملة.
كرس محمد أركون حياته الفكرية والعلمية من أجل إنجاز ما اعتبره مهمة تاريخية تتجلى في البحث عن مخرج للثقافة العربية من الفضاء العقلي للقرون الوسطى، والدخول في الفضاء العقلي للعصور الحديثة، معتبرًا بأن عنوان هذا المشروع هو القيام بعملية نقد جذري للتراث الثقافي العربي الإسلامي، مدركًا بأن هذه المهمة ليست بسيطة وإنما تحتاج إلى معركة مفتوحة وشاملة وعلى عدة مستويات.
وفي نفس الوقت حاول أن يقرأ الثقافة الغربية التي يستقي منها مادة مناهجه قراءة نقدية ومن هنا يمكن القول بأن أركون يمارس ما أسماه الخطيبي بالنقد المزدوج، فمن جهة يقوم بتفكيك مكونات الثقافة العربية الإسلامية قصد الكشف عما أسماه باللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه، ومن جهة أخرى يمارس نقدًا للثقافة الغربية ،خاصة في تبنيها لمفهوم المركزية الغربية وتعاملها مع ثقافات الشعوب الأخرى من هذا المنطلق. لكن هذه الاستراتيجية النقدية التي يعتمد عليها رغم تعددها وتنوعها فهي استراتيجية واعية بحدود تلك المناهج التي يستدعيها الباحث من أجل ممارسة فعل الحفر والقراءة.

(أستاذ/باحث)


الكاتب : المهدي مستقيم

  

بتاريخ : 07/02/2020