عشر أطروحات حول الحياة اليومية 2/2

 

6
إن الاشتغال الثوري إما أن يطال المعيش في كليته أو لا يكون، أي إما أن يمس الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية داخله أو لا يمسها. نحن هنا أمام اختيارين لا ثالث لهما: إما خلق نوع من التطور الإنساني الجديد للحياة اليومية، وإما الجمود والتراجع الارتكاسي حيث تھیمن دلالات إيديولوجية رجعية محافظة. إن مسألة الحداثة والعلمانية ليست مجرد شأن خاص بالفكر وحده، ولا نسيجا من الإشكاليات التي تطرح على صعيد معرفي محض، ولكنها السيرورة التي من خلالها يتم تكريس انتصار الممكن على الكائن والواقع. انطلاقا من مسألة الحداثة والعلمانية، عبرها وعلى أرضيتها، يمكن للبرنامج الثوري أي يقيس فاعليته وإجرائيته وممكناته في مواجهة نظام الهيمنة، وذلك بقصد إنجاز تغيير في الحياة اليومية من خلال تحديد ما هو ممکن ضد ما هو كائن وواقعي. لا يمكن طرح الحياة اليومية كموضوع للنقد والتحليل والتأويل إلا بغاية تحويلها، وهو التحويل الذي بإمكانه وحده إضاءة الجانب السياسي والثوري في هذه الإشكالية. لا يمكن انطلاقا من هذا القول بأن الحياة اليومية غير موجودة، إذ لا أحد صادفها في أي مكان، الأهم في هذا السياق هو مقاربة الحياة اليومية في كليتها بدل تجزيئها وتقسيمها، والفصل بين مجالاتها وفضاءاتها، لأننا حين نتبنى المقاربة التقسيمية فإن الحياة اليومية تصير هي كل ما يتبقى حين نستخرج المعيش من حيز كل الأنشطة المختصة .لكن الحياة اليومية هل هي بالفعل كل ما تبقى في عالم مجزأ ومتشظ، يرفض الكثيرون مجابهته، أي أنها الكل، والمقياس الذي نقيس انطلاقا منه كل من استعمال الزمن وتوظيفه إلى التجسيدات والتمظهرات في الفن والثقافة والسياسة، القطاعات الثلاثة تشهد وتعيش نوعا الأزمة المتقدمة التي تبرز من خلال سياسة ظاهرة اللاتسييس المركبة والمعممة، التي نفسها أحيانا خلق أرتال الخطابات والتحليلات المصابة بإسهال مجاني. نقد الحياة نقدا راديكاليا من شأنه السماح بتجاوز الممارسات الاجتماعية والثقافية والسياسية النكوصية والارتكاسية ذات المنظور الردعي والتقليداني، نقد فعال يتموقع على مستوى إشكالي ومعرفي متميز جدا يهدف إلى التدخل نظريا في حقل اليومي.

7
ينبغي تحرير المعيش اليومي من الإكراهات والضغوطات وأحكام القيمة الجاهزة ومكائن الأسر التي تطاله وتعوقه، لتجاوز فضائح البؤس اليومي والعنف الممارس على مجتمع مقسم إلى طبقات وطوائف وزوایا ومذاهب. إن فقر الحياة اليومية بالذات فقر وبؤس الإكراهات والتمثلات التي تطالها وتسيجها، إذ لا يمكن انطلاقا من أخلاق الخنوع والطاعة والعبودية العمياء التفكير في إنسان حر داخل معيش تميزه الحرية، ولا يمكن لأخلاق العبيد أن تحقق وجودا يتصف بنبل الحياة اليومية. إن فقر الحياة اليومية هو فقر سياسي في المقام الأخير، وكل إلغاء أو تجاهل للبعد السياسي لهذا الفقر من شأنه إخفاء العمق المطلبي، الذي يتصدى للغنى الممكن لهذه الحياة وثرائها. إن الحياة اليومية الممتلكة لقواها وقدراتها والمتحققة فيها هي ما نصيره، حين نتحقق أولا في إنسانيتنا وحريتنا. إن النقد الراديكالي للحياة اليومية المشوهة والمفصولة عن قدراتها، هو نقد للوضع الاعتباري لإنسان يتم اختزال كل الغنى المادي والرمزي لإنسانيته، في مجرد حاجات بيولوجية. يرتبط هذا التحرر لإنسانية الإنسان، وتحرير الحياة اليومية من فقرها وبؤسها، بالضرورة بحركة إرادوية، أي السيرورة الجدلية الناهضة على الاستيلاب/اللا استيلاب التي تشتغل على المعيش اليومي. إن شروط الاستيلاب المتنوعة والمتعددة السائدة داخل المجتمع، تكشف المسافات والتأخر الذي يبعد الحياة اليومية ويفصلها عن قواها وقدراتها الكامنة أو المعلنة. الغريب أن الإنسان في خضم الحياة اليومية التبدو أحيانا كمراوحة بئيسة وتافهة في المكان وأحيانا أخرى كحرب يومية عاصفة ودائمة، يلفي نفسه منذورا لخراب الكائن، مقصيا من هبات الممكن. إن الأنساق المركبة والمتقاطعة والمتشعبة للهيمنة تنلعب/تنتسج هنا بالذات في حيز هذا الخراب اليومي، حيث تحرم الحياة من إمكانية التحقق في ماهيتها الحميمية وفي زخمها الحيوي، لأن نسق الهيمنة يستحوذ عليها كلية ويؤسطرها ويضفي عليها سمات الشعوذة والتأويلات الماورائية التي تدفعها للقبول بالخراب كما لو كان أمرا محتوما. صحيح أن الحياة اليومية تمتلك نوعا من الحقيقة العارية، ولكنها لا تتماهى أبدا مع أي تجسيد للحقيقي Le vrai، لأنها تندغم في جوانية الحياة الخاصة، حد النسيان، حد فقدان كل إمكانية للاغتناء بممكنات البرانية، وحد التخلي كلية عن شروط وجودها الأخرى، السياسية والاقتصادية والاجتماعية أي تلك المرتبطة بالحياة الخاصة. إنها الحياة الخاصة التي تظل محرومة من عنصر أساس هو الحياة. إن نسق الهيمنة الذي يستحوذ على زمن وفضاء الحياة يدخلها في حيز غريب عنها، يدفعها للانخراط في فاعلية مؤسطرة من طرف إنتاج مؤسلب ينفي كلية الحياة، ويخضعها لتأويلات ميتافيزيقية تنزع عنها قوتها واشتغالها الفعال، لتصير حياة خاضعة لسلطة الشعوذة. يتضافر العلائقي إذن مع الاقتصادي والإيديولوجي لفصل الحياة عن قدراتها. هكذا تبدو الحياة اليومية كتراكم دائم ومستمر لقيمة زائفة. إنها تضم حياة فائضة عن القيمة، حيوات ينتهكها ويستنفذها الاستهلاك المفرط حيث يشترى ويستهلك كل شيء بدءا من الراحة والاستجمام إلى السلع والبضائع والخطابات، مرورا بعمليات التجميل وحملات الموضة وغيرها. إنه الاستسلام لنوع من الحياة اليومية السلبية التي تنتصب أعين الرأسمالية غير بعيد لمراقبتها، حياة يومية بئيسة وفقيرة خاضعة لمشروع الفرجة الرأسمالية، التي تطرح المظاهر الخداعة كمرجعية ضامنة لشرعنة وجود يميزه غياب الحياة. يلفي الإنسان نفسه محروما من ذاتيته التي تخضع لمنطق العرض والطلب، داخل دائرة الإنتاج كقوة عمل، لكنه يفقد أيضا شخصيته وأسلوب حياته الذي يتحول إلى مجرد سلوكات استهلاكية محضة، ويتم تعويض عشق الحياة والشغف بها، بعشق الأشياء و السلع التي تجعل الحياة «سعيدة». يقول إشهار لشركة كبرى للبناء والتعمير: (حققوا السعادة، اشتروا مسكنكم)، لكن المنطق الشعبي الماورائي والنكوصي يسمي المسكن: (قبر الدنيا). أنها مجرد سمة معلنة من سمات البؤس الفاضح الذي يطال الحياة اليومية.
لكن مأساة الاستيلاب المعمم والفرجة الاستهلاكية البئيسة، لا تقضي نهائيا على النزوعات التحررية الكامنة في قلب الحياة اليومية. لأن هذه الأخيرة تظل الحد الفاصل بين قطاعين : القطاع المهيمن عليه من الحياة والقطاع غير المهيمن عليه، وهنا بالذات أي في حيز هذا الحد تنلعب العلاقة بين إعادة تأسيس سياسة الوجود انطلاقا من عناصر تحررية من جهة، وتقوية العبودية والتبعية الاستهلاكية الحديثة من جهة أخرى. تنكتب أزمة الحياة اليومية إذن في سجلين اثنين : سجل أزمة الرأسمالية التي لم تعد مبنية على تراكم الإنتاج، بل على تراكم التراكم، وسجل أزمة القيم ومرجعيتها التي أصبحت تبتعد باستمرار، وبشكل متزايد عن القيم العملية المرتبطة بأنماط الوجود الملموسة ونمذجتها، وتنحو منحى ارتكاسي باتجاه قیم ميتافيزيقية مجردة تنازع الوجود نفسه في وجوديته. إن نقد الحياة اليومية هو في الأخير نقد للسياسة التي تطالها (بعيدا عن كل نزعة سياسوية) والتي تجعل الماضي مهيمنا باستمرار على الحاضر، بينما الأهم هو أن يهيمن الحاضر على الماضي، انطلاقا من إعادة ابتكار الحياة والواقع لتدمير شروط القمع.عبر هذا يستعيد إنسان اليومي أو ينتزع حقه في أن يصير ذاتا للحق Un sujet de droit. ينبغي القول بأن العلاقة ذات الخطوط المتشابكة والمائلة بين السلطة/ الحاكمين والذوات-الأطياف/ المحكومين تمر عبر لحمة الحياة اليومية ونسيجها، لأن كل فرد داخلها منذور لنوع من الوجود المتشابك والمائل.
لهذا السبب يظل إنسان اليومي دوما مشكوكا فيه وموضوعا للارتياب ولنوع من الوجود الهش، لأن المشكوك فيه أخطر بالنسبة لسلطة المراقبة والعقاب من المذنب، الذي يمكن لعلاقته مع القانون أن تكون مباشرة في الإطار الذي يصير فيه موضوعا للمحاكمة. أغلب السلط البوليسية والأمنية وأخطرها حافظت على وضع اعتباري للناس کمشكوك فيهم، أي كمجرد أطياف/أشباح منذورة لهروب دائم، يصعب أحيانا التعرف عليها، وهنا بالذات يكمن خطرها على سلطة الدولة (تجارب السرية والاندغام كالسمكة في الماء داخل ثنايا الحياة اليومية). الخطر هنا متبادل بين الحاكمين والمحكومين داخل الحياة اليومية، والجدل مماثل لجدل العبد والسيد عند هيجل. تقود الذوات/ الأطياف السلطة إلى السقوط في الخطأ حتما، وتقود السلطة إنسان اليومي إلى وضع المشكوك فيه.

8
إن الحياة اليومية المسكونة بالإهمال واللامبالاة اليومية، هي حياة الذات/الطيف المشكوك فيها والتي تفلت باستمرار من القرارات الواضحة والصارمة للسلطة. تطلق السلطة اسما استراتيجيا على الذات/الطيف داخل عقدة تناقضات خاصة،وتستدعيها بالتالي كذات مشكوك فيها باستمرار، لأن الاستدعاء الإيديولوجي للفرد كذات لا يمنح الأخيرة أية حصانة إزاء الشكوك التي تظل محيطة بها. بهذا المعنى يرى ألتوسير منذ سنة 1970 في مقاله الشهير «الإيديولوجيا والأجهزة الإيديولوجية للدولة» وفوكو سنة 1975 في «المراقبة والعقاب» الروابط بين الفرد وعلاقات السلطة. وبالرغم من الاختلافات بين منطق الخضوع لأجهزة الدولة الإيديولوجية (ألتوسير) ومنطق الخضوع للأنساق الانتظامية (فوكو)، فإن الذات في الحالتين تلفي نفسها محددة وفق شكل فرداني بدئي يعتبر بمثابة تخيل ضروري لإظهار وعرض إنتاج الذات داخل علاقات السلطة. يتعلق الأمر لدى ألتوسير بالتأكيد على أن « كل إيديولوجيا تستدعي الأفراد الملموسين كذوات ملموسة عبر اشتغال نمط الذات». أما بالنسبة لفوكو فيجب دراسة «النمط الذي من خلاله يتحول الكائن الإنساني إلى ذات». الأهم هنا أن الذات تلفي نفسها محددة من طرف نمط للعلاقة مع السلطة، الإيديولوجيا والنسق الانتظامي التي تخضعها وتسمها ذهنيا وجسديا، مع الإشارة إلى أن تفسير الرضا والقبول الذاتي بالخضوع والتبعية يظل غامضا في الحالتين. إن الحياة اليومية هي ركح هذا القبول الغامض بامتياز. يرى فوكو بأن السلطة قادرة باستمرار على إنتاج ذات من خلال بناء علاقات المعنى التي تنتج بدورها تمثلات تستثمر كلية الروح، إلى حد أنها تمنحها شكلا بالنسبة للسلطة السائدة.

9
إن السلطة تملك دوما قدرات معلنة وأخرى كامنة لإنتاج أرواح وأجساد المحكومين ضمن سرد سلطوي ناهض على ثنائية العبد والسيد، وهي الثنائية التي تعيد باستمرار إنتاج نفسها عبر ثنائية وأشكال أخرى: المستغلين/المستغلين (بكسر الغين وبفتحها)، المهيمنين/المهيمن عليهم، العمال/أرباب العمل، الحاكم/الرعية، القامعين/المقموعين، وتعيد إنتاج نفسها عبر التقسيمات الجهوية والكونية للعمل، والتطور اللامتكافئ الذي يطال جماعات بشرية داخل دول ومناطق بأكملها. إن الروح بالنسبة لفوكو هي العنصر الذي تتمفصل داخله آثار نوع من نمط السلطة، ومرجعية معرفية ما. لذا فإنها (الروح) لا تنتج معناها إلا حين تتوفر على واقع تاريخي أي على أرضية مادية، لكنها في الأساس تظل جوهريا، مجرد أثر خاص لنوع من التشريح السياسي. هكذا تصير الروح «سجن الجسد» كما يرى فوكو (المراقبة والعقاب/1975 ) قالبا مقولة أفلاطون. أما بالنسبة لألتوسير فإن الإيديولوجيا تصير مادية بما فيه الكفاية لتنتج ذلك الاستدعاء (النداء) الذي يقود إلى تحول فيزيائي عبره تتجسد الذات.

10
إذا لم تكن المؤسسة الانتظامية هي الجهاز الإيديولوجي للدولة، فإن هناك تماثلات عميقة بينهما. إذ إن كليهما ذو طبيعة مادية خالصة، كما أن الانتظام والايديولوجيا يملكان نوعا من المرونة تجعلهما يتخليان أحيانا كثيرة عن الثقل الأولي لأجهزتهما وذلك لمضاعفة فاعليتهما، كما أن كليهما يلجآن إلى إعادة إنتاج علاقات الإنتاج من خلال إخضاع الأفراد لوظيفة إيديولوجية في علاقة مع جهاز إيديولوجي. يشير ألتوسير، للتأكيد على الطابع الكلي للإيديولوجيا، إلى فكرة (حفل موسيقي) للإيديولوجيا (تهيمن عليه معزوفة متفردة)، أي معرفة الإيديولوجيا المهيمنة حاليا، والتي تساقط على الأفراد تنهال وتستحوذ عليهم، من الولادة إلى الموت محولة إياهم باستمرار إلى ذوات للإيديولوجيا. هناك بالنسبة لفوكو الطابع الشمولي للمجتمع الانتظامي، والذي تجسده مؤسسات مغلقة على وظائفها السلبية (كالمنع والإقصاء والحيلولة دون…)، والتي تنطرح دون شك كميكانيزمات مفتوحة ومرنة ما تني تنتشر وتتمدد منتجة لسلوكات معينة انطلاقا من (بؤر مراقبة منتشرة داخل المجتمع). إنها إجراءات مراقبة مرنة تشتغل كتقنيات لإنتاج أفراد نافعين أي تحديدا ذوات خاضعة داخل نسيج الحياة اليومية، وداخل تلك اليومانية السالبة لألق الوجود. ذاك ما يجعل الحياة اليومية بالرغم من الظواهر السطحية الزائفة التي تحتلها، نزاعة لحرمان الأجساد من وجودها، لأن الإنسان يلفي نفسه مندغما في اليومي ومحروما منه. إن العلاقة الغامضة بين (الاندغام في) و(الحرمان من) هي التي تؤسس بعمق الحياة اليومية. ذاك أيضا ما يحول هذه الحياة اليومية نوعا ما إلى مطرح نفايات وبقايا أجزاء حيوات مشوهة ومعطوبة. تلك السطحيات القاتلة تعوق كل رنو عمیق للوجود، للحياة في ذاتها، وهو ما يحول الحياة اليومية إلى صناديق قمامة عديدة ونتنة، كتلك التي تملأ أرصفتنا وشوارعنا ودروبنا، صناديق نملؤها بالبقايا التافهة من حيواتنا، تماما كما نملأ المقابر بجثتنا المتحللة والتي تأوي إليها القطط والكلاب الضالة، وتنبت فيها النباتات الضارة. إنه المنطق القاتل للعادة أو سلطتها/سلطها المطلقة، التي تنفلت من فتنة الفكر والتأمل والمنطق والتناسق. الغريب أن منطق العادة هو نفسه الذي تستثمره الأشكال والميكانيزمات الحكومية والمكائن الحزبية، لتدفع الناس داخل الحياة اليومية لإعادة إنتاج نفس السلوكات يوميا واعتبار السطحي، الزائف والتائه والجامد منها هو الناظم الأساس وهو بالذات السير العادي والحقيقي الذي ينبغي أن ينتظم الحياة وحركة المجتمع عموما. إنه ركح هائل بأعداد لا نهائية من الكومبارس. إن الأكثر إثارة للانتباه في هذا السياق، ولفتا للنظر وإثارة لنوع من السخرية الضرورية نوعا ما، هو أن الناس داخل اليومي صاروا منذورين أكثر ومدفوعين للبحث عن معرفة مباشرة وسريعة، ولأن يكونوا باستمرار، لحظة لحظة وساعة ساعة على اطلاع على ما يحدث في البرهة واللحظة التي يحدث فيها، وخصوصا مع تطور المكائن التواصلية والإعلامية الهائلة وتعدد الشاشات (قنوات فضائية/أنترنت/غرف دردشة/ شبكات تواصل اجتماعي…إلخ)، وهو ما يقود بالضرورة إلى اندحار الحدث في حد ذاته كحدث، وانمحائه في ثنايا التواصل الدائم السريع، وفي أتون الفرجة المعولمة والمعممة، بحيث لا تبقى سوى الحركة التواصلية الكونية نفسها، التي تتسلط وتسود وتتعمم بلا هوادة، بالمعنى الذي قال فيه جان بودريار بأننا لا نتفرج مثلا على التلفزة بل هي التي تتفرج علينا. يدخل في هذا السياق أيضا الانمحاء التام للحدود الفاصلة بين الحياة الخاصة والحياة العامة، بحيث صار كل شيء قابلا للبث والإرسال، بدءا من سرير غرفة النوم الحميمية، إلى الاستحمام في شواطئ أكابولكو أو موناكو وغيرهما.
إن وسائل التواصل التي هي اللغة والثقافة والقوة التخيلية السائدة في مجتمع الفرجة المعممة، تستنفد في هذا الإطار كل طاقاتها وتفقد كل قوتها کوسائط هامة من فرط التعامل معها فقط كمجرد وسائل.
إن الثقافة المهيمنة داخل حياة يومية مسكونة بالاستيلاب والزائف هي ثقافة (الفاست فود)، التي تحقق بالنسبة للراغب فيها كل شيء هنا والآن، بعيدا عن كل تأمل أو تفكير معرفي، وقد يصير بيتهوفن في هذا السياق مجرد اسم لشركة بناء وتعمير، كما قد يصير فيردي مجرد اسم لمطعم وجبات سريعة، وتضيع الروايات والأعمال الأدبية الفكرية الهامة داخل رفوف المراكز التجارية الكبرى ومعارض الكتب، وسط كتب وصفات الطبخ وأعمال البستنة وكتب الوعظ والوعيد ذات الأغلفة البراقة، وتلك السلاسل الفرنسية الحديثة التي تشرح وتبسط كل شيء ولا شيء من أجل قراء أميين .إن التطور المتزايد والمتسارع لوسائل الاتصال لا يعني بالضرورة امتلاك الحياة اليومية، لأننا إذا ما أردنا إخضاعها لإرادة المعرفة فإنها تفلت من حيز إدراكنا لأنها تنتمي لمناطق يوجد فيها شيء قابل للمعرفة مناطق ممنوحة لسلطة الوضوح والعتمة، يتداخل ويتقاطع فيها كل شيء وهذا التقاطع/التداخل الملتبس هو ما يحتل الحياة اليومية في كليتها، حياتنا ويفتحها على الغرابة المقلقة، أو القبول اليومي بالانوجاد داخل قلق المعيش، داخل الضجر المعلن الذي لا جوهر يميزه، داخل الغفلية (L’anonymat) المعممة، حيث لا نتوفر على اسم شخصي، ولا خاص بنا، كأننا مجرد صورة داخل حشد الصور تعيش وتعبر، الصور تحيا تضطلع بالعيش داخل الضوابط والإكراهات الاجتماعية. لكن الحياة الإنسانية تظل إنسانية وذلك في الحواضر، تلك الصحارى الغامضة الممتدة التي هي المدن العملاقة المعولمة، حيث التجربة اليومية اختبار دائم للأجساد والأرواح في الشوارع والساحات والأزقة. هنا بالذات تكمن النجاة ويتعملق الخطر ويصير إنسان/ناس اليومي بمثابة شهود زور يرون كل شيء ويشهدون على لا شيء، وفق نوع من انعدام المسؤولية ، يشهدون على الزائف، مسكونين حد التخمة، بتلك الهشاشة المفرطة والمرعبة . الشارع ليس أبدا مقياسا لوجود مسمى ، الشارع هو حيز الوجوه الغفل المجهولة،المنذورة للخفاء والعلن، حيز العابرين من المارة حيث تلتقي الوجوه بالصدفة أو بالخطأ، لأن اللقاء الحقيقي مع الآخر يفترض بدءا أن ينتزع المرء نفسه من هذا الوجود الذي لا هوية له. لكن الصحافة اليومية تجهد نفسها عبثا في امتلاك هذا العابر الخفي، تجعل منه الظاهر المعلن، تخضعه لأضواء النشر، بالرغم من إن الصحف اليومية تعجز في أغلب الأحيان عن امتلاك هذا الكم الهائل والسريع من الأحداث العديمة الدلالة والتافهة أحيانا كثيرة، لتخضعها لسطوة أو وهم السبق الإعلامي اللافت للنظر، ذلك السبق الذي يتوهم منح هذه الأحداث معنى. لذا تلفي الصحف اليومية التي ترصد وتتبع وتذكر ما يسمى بالوقائع المتنوعة، من جرائم ومحاكمات وغيرها نفسها عاجزة العجز كله عن الانتماء للتاريخ في سيرورة أحداثه، أو امتلاك الحدث الذي يبزغ كحدث استثنائي في قلب التاريخ. لهذا السبب تكتفي الصحف اليومية برصد وتتبع الحكايات والأخبار والنوادر اليومية، كتعويض عن الفراغ اليومي، موهمة القارئ بأن شيئا ما حدث أو سيحدث، وتبتعد عن التاريخ (هيجل اعتبر قراءة الجرائد بمثابة صلاة يومية). إن الحياة اليومية هي الحاضر الذي لا صفات تميزه، والذي تخطئه الصحيفة اليومية نفسها حين تروم منحه صفات، تأکیده وكتابته عبر تلك الأخبار والأحداث المرتبطة باليومي، بالرغم من أن هذا الأخير يظل باستمرار فالتا من أسر الإدراك ومن كل إرادة بانية لأنه مجرد حياة بلا ذات ولا موضوع. إن الإنسان الذي يندغم في الحياة هو كل إنسان كيفما كان ومهما كان، وليس الذات ولا الآخر اللذان بإمكانهما عبر الانوجاد داخل سيرورة اعتراف جدلية بينهما. إن الحياة اليومية أيضا ليست موضوعية، بل مجرد حضور مقسم ومجزأ ولا محدد، ليست الكل بل النمط اليومي الذي يبدو لنا عبر الانقطاعات والتقسيمات. لذا نلفي اليومي مسكونا بكم هائل من الأشياء (السيارة، الشقة، شاشة التلفزة، القهوة، الثلاجة….إلخ) لأنه تحديدا عاجز عن الاضطلاع بالحضور الفعال لذات حقيقية. إن اليومي هو الوسط المسكون بالاستيلاب والفيتيشية (الصنمية) والتشييئ، الذين يفرزون آثارا تطال الأجساد والحيوات وتؤثر فيها. العديد من الأشخاص منذورون بشكل مصيري نوعا ما (لعله المصير الذي تحدده سلفا ماكنة الإنتاج الرأسمالية)، إلى ألا ينوجدوا أبدا وطيلة حياتهم إلا داخله، إذ لا حياة أخرى لهم غير تلك الحياة في مسارها اليومي المألوف، العادي، المتكرر، وحتى حين يشتكون بلوعة وحسرة أحيانا تنم عن بقايا إنسانية دفينة أو بشكل غريزي أحيانا أخرى، فإن الإجابة تكون أن الحياة اليومية هي نفسها بالنسبة للكل، وأن لا أمل أبدا في تغيير هذا المصير الجهنمي المحتوم. يكفي أن ترى الناس يجرون في الطرقات وفوق الأرصفة، يلهثون ويركضون خلف الحافلات، القطارات وسيارات الطاكسي ويجتمعون وقت الغذاء في الخلاءات أو مطاعم الأكلات السريعة… لتقف على ذلك. تفرض الحياة اليومية على الكل أن يندمج في نوع من الحس القطيعي ويتبناه فكرا وسلوكا ووجودا، باعتباره الحياة الوحيدة، وهنا بالذات تكمن خطورتها التي لا نتبينها ونستوعبها، إلا حين ننزاح عنها ونبتعد قليلا، حينها نطرح السؤال الذي يظل غائبا عنا أو مغيبا داخل حزمة الإكراهات وأرتال الالتزامات: «هل هذه هي حياتي اليومية، كيف أمكنني كل هذه السنوات احتمال ذلك؟». إنه السؤال الذي يدعونا في لحظة الوضوح النادرة والحارقة تلك إلى الاضطلاع بكل القدرة التدميرية المشتغلة داخل لعبة اليومي، وقوة الغفلية الإنسانية التي تدمر الذوات بأناة، حد الاستنزاف اللانهائي. إنها القوة التي تلغي الأفكار والقيم، مدمرة باستمرار كلا اختلاف ممكن بين الأصيل والزائف. لا تنتظر الحياة اليومية تأكيداتنا،لا تنتظر أبديتنا التي من رمل وغبار وكلام وهباء. إن الاضطلاع بتجربة/تجارب الحياة اليومية، هو اختبار العدم اليومي، أقصى درجات العدمية الجذرية التي لا دليل ولا برهان يؤطرها، هكذا بلا ذات ولا موضوع، ولا ماهية متعالية ناظمة لها، اختبار يتم في جوانية فراغ لا رجعة ولا مفر منه، لكن هذا الفراغ بالذات هو عنصر كل نقد ممكن.


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 06/01/2023