علاقة التصوف بالفن التشكيلي

علاقة التصوف بالفن التشكيليعلاقة ناتجة عن تصور كل منهما للعالم أكثر جمالا من العالم الواقعي والمادي ، لما يتملكونه من أحاسيس ومشاعر وحدس يمكن كل منهما من تغيير ملامح هذا العالم ، وتعويض النقص الحاصل في الكون عن طريق ( التجلي ) و (الكشف) ؛ أي المكاشفة ، كما عند الصوفية أو المتصوفة .فالصوفي والفنان عندما يصل بهما الحال إلى حد ( الاستغراق ) أي الحلم ( حلم اليقظة ) يصل المستغرق إلى حد ( الفناء ) التام ؛ أي الامتزاج بعالم الحقيقة والاقتراب من المطلق ، حيث النور والنقاء والصفاء .
كما أن الفنان المبدع : ( الرسام والشاعر والموسيقي ) كلما استطاع أن يتعمق في إبداعه وأوغل في امتزاجه، وصولا إلى جوهر العالم والحقيقة من إبداعه، كلما اقترب من السمو الصوفي في اللامنتهى .
لذا … كل من الصوفي والفنان في صراع دائم، ما دام الصراع وحدة من وحدات العمل الفني، ولا يمكن التخلص منه إلا في حالة عالية من الصفاء والتركيز والاستغراق، إما بالفناء والامتزاج بالروح الإلهية، أو يحرم من مراده حسب مفاهيم الصوفية .
أما الفرق بين (الرؤية الفنية ) و (الرؤية الصوفية ) فتنحصر في درجة تسامي كل منهما في تجربته … وأقرب الفنون التشكيلية إلى الصوفية نجد الفن التجريدي كأسلوب يستخلص من خلاله الفنان جوهر الأشياء عبر تجريدات تشكيلية ولونية وخطية …
فالفن التجريدي يعتبر استسلاما للاشيء، لأنه عالم من الرموز الغامضة، الأمر الذي يجعل التجربة تجربة ذاتية لكل فنان …
ونتوقف هنا عند تجربة وأعمال بعض الفنانين والفنانات المغاربة والعرب، والأقرب إلى الصوفية ، أمثال الفنان التشكيلي المرحوم : أحمد الشرقاوي الذي طبع أعماله بنكهات صوفية تغلب عليها الروحانية المستحدثة والمستخلصة من القيم الدينية التي تشبع بها منذ طفولته ، لانتمائه لعائلة سليلة الصوفية، من شجرة ( بوعبيد الشرقي )، حيث اتخذ تلك القيم كمنهج في حياته الخاصة والعامة .
وفنه يعبق رمزا وإيحاء ، يعيد من خلاله ترتيب الكون بحثا عن المنتهى في اللامنتهى ، من حيرة الذات ، حين يصل حد التوحد والاستشراق .
فالمرحوم أحمد الشرقاوي كان مفتونا باكتشاف ينابيع الجمال الروحي والوجداني المدفون بين ثنايا الرموز والإيحاءات ، خاصة التراثية المقدسة النابعة من الوسط العربي والمحيط بزمانه ومكانه، كما كان يحفل بالموروث الشعبي الذي كان يوظفه في لوحاته، تتراقص الفرشاة بين أصابعه لتصبغ الألوان الزاهية في زهو تام، على إيقاعات ضرباتها ورشاقتها، كل في انطباع وجداني جميل …
فالمرحوم أحمد الشرقاوي كان فنانا بالفطرة، صقل مواهبه بتقلباته وتنقلاته عبرآفاق الكون الرحب، وعبر مختلف الحضارات والثقافات : – إفريقية وأوروبية وآسيوية أكسبته وفنه التشكيلي إمكانية استنساخ تيمات ولغات تشكيلية جعلته متميزا، واسما متفردا بين قائمة التشكيليين العالميين على امتداد القارات …
لذلك لا يمكن أن نداري اسمه بغربال النسيان أو التهميش المقصود أوغيرالمقصود ،لأنه رمز من رموزالفن والإبداع ببلادنا .
ونتوقف كذلك عند بعض الفنانين والفنانات العرب ، كالفنانة العراقية : ( غادة حبيب ) التي تعد أسطورة من أساطير بلاد الرافدين في الإبداع التشكيلي، رغم العاهة المستدامة التي أصيبت بها ( الصمم )، حيث سدت أذنيها ، ليبقى العالم أمام عينيها مجرد لوحة صامتة ، إلا أنها خلقت لنفسها عالما ناطقا بلغة اللون عبر لوحاتها التشكيلية ، بمدلولات متحركة تحيل المتطلع إلى لوحاتها بين الواقع والأسطورة والزمن والحلم والخيال …فحالتها تذكرنا بحالة الفنان السوري ( فاتح المدرس )، الذي انعكست إعاقة طفلته المنزوية في ركن بالمنزل ، على لوحاته التشكيلية، وعلاقتها بقصر قامة الأشخاص الذين يرسمهم، انعكاسا لقصرقامة ابنته … إلا أن أعمال الفنانة ( غادة حبيب ) تتسم بمدلولات متحركة تحول الرمزالأسطوري إلى واقع حتى وإن كان مفترضا ، تمد من خلاله فضاء الانبعاث في اللوحة المنفتحة على المطلق ، والتي تتخذ بعدا ثلاثي الأبعاد ، حيث تتكافأ معطيات الحواس المعطلة تنغيما مع معطيات الاغتراب …
فمن خلال لوحاتها تكشف هاجس الرمز الأسطوري للواقع فتعريه وتنزع عنه كل الأقنعة بسردية تشكيلية متنامية للصراع الداخلي الذي يعكس عبرإيحاءاته الشكل الأنثوي الطفولي ، حيث يتشعب الرمزإلى مدلولات متنوعة تغري بانبعاثات المتجسد الأبدي للأنثى ، الحلم النقي الصارخ للواقع المؤلم ؛ واقع طفلة فقدت نعمة السمع في سن الرابعة عشرة …
فنانة تشتغل على البوح والرصد الشعري والعالم الجمالي المرتكزعلى الإيقاع الداخلي للذات الأنثوية، بوح يتناسب استطرادا مع الانزياح الإيحائي المركب . تتميز أعمالها بتناوب الإيقاع بين المرئي واللامرئي، تبعا لكثافة المتخيل ووعي عين المتلقي ، فيميز ذلك الاندهاش، الهامش المنبثق من رومانسية ( المرأة )، وتغليفه بومضات الغموض ، لتنتج أعمالا ذات بعد حسي أسطوري، وتخلف نوعا من الدرامية المشهدية المكثفة معتمدة على هارمونية لونية باردة ومنفتحة على التأويل البصري .
نموذج آخر نجده في أعمال الفنان التشكيلي الأردني : ( أيمن يسري ) … وحسب الناقد سامي الجريدي الذي أقر أن : – أعمال أيمن يسري التشكيلية تشبه إلى حد كبيرالنصوص المفتوحة على كثيرمن الأفكار والثقافات باعتباره نصا أدبيا مستنبطا ومستبطنا في العمل التشكيلي بطريقة لاشعورية تحتمل عدة قراءات وتأويلات .
فإذا أطللنا على أعمال الفنان التشكيلي ( أيمن يسري ) المفتوحة على كل التأويلات ، نجده وضع لها مركزية كونية ، انطلاقا من جدلية الظاهروالباطن، واستشراف المستقبل، معتمدا على الرؤية الصوفية التي جعلته ينطلق من مفاهيم الوجود الروحاني للكون والذات إلى حد التجلي والمكاشفة عن أسرارالكون والخلق، بدءا من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام إلى الاكتساء لحما، معتمدا دوما على خماسية قارة كفلسفة وجودية ووجدانية لا يحيد عنها ، وهي : – فلسفة البياض … مركزية الكون … جدلية الظاهر والباطن … حاسة اللمس … ثم استشراف الرؤية .
وانطلاقا من فلسفة البياض، فقد استطاع أن يجد البياض في تضاد الولادة والموت، فبياض الموت هو الكفن … وبياض الولادة هو القماط ؛ فالكفن كبياض، تعبيرعن الرحيل الأبدي والنهائي … والقماط كإحرام تعبدي نحوالحياة الموسومة بالفرح ؛ أي بداية الرحلة نحو المجهول …
ويعتبر الفن التشكيلي من الفنون الجميلة أو ما يسمى بالفنون الروحية ، مثله مثل الفن الصوفي الذي ينتهج التجريد ، كما هو الحال في فن العمارة والزخرفة التي تذهب الألباب ، كالقصور وقباب المساجد ، أو الرسوم التي توضع على جنبات أغلفة المصاحف …
كما أن الصوفية لم تعد فلسفة دينية تقتصرعلى التعبد الروحي والوجداني ، بقدر ما أصبحت مصاحبة لبعض المظاهر الفنية كالغناء والرقص والإنشاد ( الشعري) ، وبتشخيص بعض اللوحات الفنية الراقصة التي يستلهم منها الفن التشكيلي، وحتى المسرحي لوحات فنية معبرة معاصرة من الروعة بمكان ( كما كان عليه الحال في الصلوات الروحية للفراعنة في مصر القديمة )، والتي كانوا يقيمونها بمصاحبة بعض التقاسيم الموسيقية، والرقصات الإيحائية التي ما زالت آثارها راسخة في الجداريات التي تؤرخ لتلك المرحلة في جدران المعابد الفرعونية …
فإذا كانت الصوفية مذهبا روحانيا كما يقولون ، وفلسفة دينية ابتكرتها الطوائف القديمة للإنشاد الديني، والرقص والغناء الروحي ، فإن الفن التشكيلي هو الآخر تغذى منها وانعكست عليه، وهذا يتجلى في ما عثرعليه وما زال من منحوتات ونقوش جدرانية في كثير من بقاع الدنيا ، خاصة ما بقي يحكي عن الحقب السالفة، مثل الآشورية والكلدانية والبابلية وحتى الفرعونية كما سبق، رسوم ومنحوتات تمثل الرقص والغناء للآلهة كأسلوب تعبدي للتقرب منها على حد زعمهم .
كما أن في العهد المملوكي ، شجع الملوك الطرق الصوفية المصاحبة للعبادة الروحية، خاصة في عهد الفاطميين الذين برزت في عهدهم عدة طوائف صوفية أجادت في إحياء المناسبات والأعياد الدينية الإسلامية بطقوس صوفية، ويكفي أن نستدل بطريقة كل من شمس التبريزي ومحيي الدين بن عربي والشعراني في مصر، وعبد الغني النابلسي في سوريا …
لكن الصوفية الفنية عرفت عند الفلاسفة المثاليين الألمان، أمثال : – نوفاليس … وشيلينغ … وهيغل … الذين أسسوا للرومانسية كنزعة صوفية مثالية غير دينية ، وعمل بها الشعراء كإبداع فني أمثال : -بودلير منظر الشعر المجرد ( الحر ) ، كما استلهم الفنانون التشكيليون آنذاك منها أبعادهم التجريدية التي انعكست على لوحاتهم ، أمثال : – الفنان فاسيلي كاندينسكي … والأبعاد التكعيبية كما جاءت في لوحات : – بابلو بيكاسو … والسوريالية عند : – سالفادور دالي … والتوفيقية عند الفنان : – مافيس …
وكل هذه المدارس اجتمعت وتوحدت في ما يسمى بالتجريد ، وقد اشتهرت في هذا المجال اللوحة الروحانية لكاندينسكي ما بين 1860 و 1944 ، حيث جاءت بالألوان التشابكية اللامتناهية، والمتصاعدة حد التلاشي في عمق الفضاء الأزرق ، حيث آمن بأن الألوان هي أرواح تعبرعن نوع من الموسيقى الروحية .
كما جاءت لوحات الفنان الألماني البرخت دورر : « الملائكة « فوق كل إدراك كما قال : – ( أنا في هذه الدنيا فوق كل إدراك ) …
ناهيك عما وصل إليه الفن التشكيلي الكلاسيكي من مثالية وجمال وجداني ، خاصة في عصر النهضة ، وتجسد ذلك في لوحات كل من : – دافينشي ، وروفائيل ، ومنحوتات مايكل أنجيلو ، التي تحمل بين طياتها نفحات صوفية …
لذا، فإن الفن التشكيلي يتقاسم والصوفية عدة دلالات وأبعاد فلسفية روحية وجدانية عبر فلسفة تبادلية ( التأثير والتأثر ) ، وتبادل البعد الروحي والوجداني في كثيرمن الطقوس والدلالات .
فنان آخر مغربي له انفعاله الجمالي حين مواجهته للطبيعة … إنه الفنان المشاء والصامت الناطق بلغة اللون … لغة المحار … لغة الشباك والأحجار … إنه الفنان : – خليل غريب ، الذي يغذي لوحاته بقوة مغناطيسية خالقا الدهشة على ملامح لوحاته كما على ملامح المشاهد ، فيصبح مشدوها ومشدودا إليها للحظات خارج أية إرادة إنسانية ، يحول الألوان في تمازجها وتناسقها وتناغمها إلى لغة تفتح تلقائية الحوارالثنائي المباشر بين اللوحة والمشاهد دون وسيط أو مترجم .
تتضمن لوحاته حلمه الإنساني ، وارتباطه الوجداني بالحياة والوسط ( مدينة الثقافة … أصيلة … تحديدا ) ، باعتبارهذه الأخيرة مرتع طفولته ومصدرإلهامه اليومي والأبدي، حيث استلهم من خصوصياتها البيئية جل عناصرموضوعات لوحاته، ولما ضاعت منه الحقيقة ، حقيقة الكون والوجود ، حلق مع تحليق النوارس ، وغاص في عمق وجوف المحارمفتتنا بهديرالموج داخل الصدفات … شغف بزرقة البحر وحمرة الشفق ساعة الغياب ، يجالس الأصيل في خشوع وابتهال ، حتى يمل القمر، فيغيب خلف التلال … عشق رائحة ولون الجير والنيلة والحناء ، وزرقة البحر وبوابات البيوت العتيقة بالمدينة القديمة التي تعبق تاريخا …
الفنان خليل غريب ابن بيئته، يرسم بصدق اللون والضوء أبعاد العلاقة الإنسانية بما هو كوني وجودي، انطلاقا من الوجدان ، يفضل العزلة الذاتية في معبد إلهامه لاستنساخ المتعة والتلذذ النابع من العواطف الجياشة والحب العذري لشساعة البحر الذي يعكس زرقة السماء ، وألوان الطيف التي تربط أفق كل منهما .
فهو يزاوج في فنه التجريدي ويتزاوج بكل ما هو واقعي طبيعي تشخيصي، بكونها ذات التركيب العضوي الذي يسمح بالتفسخ والاندثار، فتأثر بالمدارس الآسيوية ومدارس الطليعة الأوروبية .
فهو يؤمن بالكيان والذوبان في اللوحة ، ووضع حدا بين الاستيلاب والوعي … بين الفن المكروروالإبداع الحق ، فألغى الحدود القائمة يبين الروح والمادة … بين العقل والتجربة … بين الخيال والواقع ، ما دام كل منهما يضفي جماليته على الآخر .
كما لا يمكن أن نداري بغربال النسيان إسم فنان مغربي كبير بصم بلوحاته التشكيلية تاريخ الفن التشكيلي المغربي المعاصر ، حتى أضحت لوحاته تزين كل الآفاق ، وتستوطن كل المساحات ، بين ردهات إدارات الدولة ، والمرافق العمومية ، المغربية والعربية والدولية ، كما تتزين بها واجهات الكتب الأدبية والسياسية .
إنه الفنان الرائد أيقونة مدينة الثقافة .، مدينة البحر والرمال الذهبية … أصيلة .
إنه الفنان المرحوم : محمد المليحي ، الذي ارتمى من فرط الوله بين أحضان الموج حد التوحد والتماهي ، ليتذوق الغرق اللذيذ بملح الحياة، فطلعت لوحاته المتموجة تحاكي موج البحر في عناده ، تصاعد نحو الفضاء الأزرق حد التلاشي، بحثا في اللامنتهى المطلق، عن الأنا والذات، من فرط الوجد الذي تملك الوجدان … أمواج تعانق زرقة السماء في ابتهال وخشوع على مدى الأزل .
فهو ( محمد المليحي ) الفنان الزاهد الذي يستلهم من قدسية المكان لوحاته التشكيلية الروحية والروحانية ، وهي بمثابة معبده المتفرد والمنفرد، الذي يقيم فيه صلواته الفنية عبركل زمان … ويبقى اللون هوالضوء الذي ينيرحياة الفنان ، ما دام الضوء … أي ضوء … يعتبر قبسا من نور… نورالله تعالى …


الكاتب : محمد الكلاف

  

بتاريخ : 02/05/2022