عندما يكون السرد شكلا من المقاومة

قراءة في رواية «أتربة على أشجار الصبار» لعبد الواحد كفيح

 

 

يواصل الكاتب المغربي عبد الواحد كفيح، مسيرته السردية بإصدار روائي تحت عنوان( أتربة على أشجار الصبار)، عن دار «أ كورا» للنشر-طنجة 2021. ويأتي هذا الإصدار بعد ثلاث مجموعات قصصية ورواية، إضافة إلى دراسة أدبية.
الرواية

لا يبدو أن هناك علاقة مباشرة للعنوان بالمتن الروائي، بقدر ما ينسج هذا العنوان خيوطا بعيدة ومتعددة مع هذا المتن، في نوع من الاتصال والانفصال، إلى حد الانقطاع. في هذا الإطار، يمكن تشغيل اتصالية العنوان، باتخاذه مفتاحا لفتح بعض مداخل الرواية.
وعليه، فالتجربة السردية في الرواية، هي نفض للأتربة وتعرية عن قصة، قائمة الذات، لكنها مهملة. ويعني ذلك وجود نشاط سردي، يغطي بنية قصصية ممتدة تاريخيا، في مجال ريفي وفي هامش المدينة.
والقصة تتأرجح في بدايتها ونهايتها بين حدود الغرائبي وحدود الإشاعات، فقد أحاطت بظهور بطل الرواية، هذه الشخصية الغامضة، تفسيرات تتغذى من الغرائبي بأبعاده الأسطورية والخرافية. وكان لتعدد التأويلات دور في تقنع الشخصية بتلك الأقنعة التي يتوقعها الناس وينتظرونها: (فهو الفقيه والطبيب والحكيم والفلكي والمنجم (…) كيف لا وهو قارئ المنازل ودارات التحول والأفلاك والعالم بمقومات المجرات والنجوم…) ص12.
ويظهر أن سكان القرية بوؤوا الرجل من المكانات ما هم في حاجة إليه، وما هو كفيل بسد جهلهم في الكثير من أمور الحياة. ولذلك تضخمت صورة الرجل إلى حد الأسطورة، كما استفحلت سلطته وتزايد نفوذه، بمساعدة السلطة الفعلية، إلى درجة بات فيها مهددا للقيم المتوارثة والبنية الاجتماعية القائمة. وخير مثال على ذلك هو تسببه في تهجير أسرة بكامل أفرادها من «دوار مريم»، بعد اجتثاث جذورها الاجتماعية والحقوقية والأخلاقية، مما جعله يشكل نموذجا تاريخيا لبنية الفساد، في تكونها وترسخها وامتدادها الاجتماعي والثقافي، وفي نزعتها التدميرية.
هذه الأسرة سيدفع بها جبروت هذه الشخصية المتسلطة إلى أطراف المدينة، لتجرب حياة جديدة هناك. لكن المفارقة غير المتوقعة في الرواية، هي أن هذه الأسرة ستعيد إنتاج نفس بنية الفساد، بما يعنيه ذلك من استغلال وانتهازية وتسلط، رغم الظلم الذي لحق بهذه الأسرة، وخاصة محمد وزوجته ووالدته الميلودية . ويبقى الشرقاوي أخ محمد هو النموذج الإيجابي الذي سيفلت من هذا المصير، رغم استسلاميته الظاهرة. فلقد كانت قيمه المتأصلة حافظة له من الانحراف، وإن كان قد وقع في اختبارات أخرى، ولم يقع في اختبارات المدينة وفخاخها، مثل أخيه وأمه.
إن كل ما قدرت عليه هذه الأسرة المهجرة من مقاومة، هو ركوبها تيار الفساد ومجاراته، في ظروف جديدة، وفي محيط يتصل بالمدينة، أو بهامشها تحديدا، بل يتمدد هذا المحيط إلى حدود دائرة الإسلام ( مكة) برمزيتها الدينية والقومية.
يكشف السرد عن تجربة هذه الأسرة المُهَجرة، كيف فترت فيها شعلة المقاومة الحقيقية أو انحرفت، وكيف فترت فيها حتى دوافع الانتقام، فعوض أن يتجه هذا النموذخ الاجتماعي المضطهَد إلى رد الفعل والمقاومة، يتجه إلى نوع من التماهي بالمتسلط وتحقيق امتداده، وكأن هذا النموذج الاجتماعي المتمثل في الأسرة المهَجرة، ما هو إلا الوجه الآخر للمضطَهد المتسلط.
وتبعا لهذا التأويل، لا تكون الشخصيات الفاعلة بطلة إلا بالقوة. أما السرد فهو يحاول أن يكون بطلا بالفعل. إنه هو من يزيل عن هذه القصة الأتربة، وهو من ينتصب مقاوما، صابرا في هذه البيئة من الخراب، فاضحا، كاشفا ومنتقدا أحيانا، بطريقة مباشرة ودون مواربة.
ويتصف هذا النموذج السردي بالخصائص التالية:
*تدخلات السارد المباشرة بالنقد الذاتي وبالتقويم وإبداء الأحكام وتوجيه دفة السرد، عند مخاطبته للقارئ، ومحاولة إشراكه وإشهاده على مستجدات العقد القرائي، حسب تمفصلات الحبكة: (ما أقساك من سارد أجلف، أحقا رأيت بأم عينك كل هذه الأفعال الشنيعة؟) ص100. ويرد في صفحة 218( نسيت أن أقول لكم انه اقتنى ثلاث جرار…).
*تكسير الإيهام بواقعية السرد : ويتجلى ذلك في فواصل أو مقاطع، يتوجه فيها السارد مباشرة إلى القارئ، بغرض إشراكه في سرد القصة وبناء حبكاتها كما في صفحة 55 و 73 مثلا.
*التعدد اللغوي، ويتضح ذلك إما من خلال تفصيح الكلام الدارج، او بتوظيف الدارجة، ناهيك عن مختلف الخطابات المعبرة عن بيئة الشخصيات الدينية أو الثقافية أو السياسية…
*مروحية الوصف: ينفتح الوصف برصف عدد من الجمل والخطابات لاستيعاب أحوال الشخصيات ومختلف المواقف، بعيدا عن الوصف الأحادي التعبير أو المتصلب.
* وظيفة الحوار: يلعب الحوار في الرواية أدوارا متعددة، في تسليطه الضوء على أفكار الشخصيات ومرجعياتهم الثقافية وأحوالهم السيكولوجية وأحلامهم ومواقفهم، سواء في الحوار المباشر أو في المونولوج. وقد صيغ الحوار، في أغلب الفقرات، بمستوى خطابي متميز عن أغلب الخطابات، بسماته الفكرية والتأملية والنقدية، وكأني به يرسم حدود سقف سردي، حتى تظهر بجلاء الحدود الأخرى، في تنوعها وتعددها، وفي رطاناتها المختلفة.
خاتمة

هذه الرواية هي تجربة سردية متميزة بجماليتها المتعددة الخطابات، الحافلة بالمفارقات والتنوع في الأساليب والمستويات اللغوية، ناهيك عن موضوعات الاستبداد والهجرة، فضلا عن تأرجح التاريخ، بحسب هذه الموضوعات، بين ضفاف الغرائبي.


الكاتب : محمد فاهي

  

بتاريخ : 08/04/2022