غوارديولا كاسر «الأصنام» الكروية ..

حتى في الرياضة ..أثبت أن التاريخ لا يكتبه الجبناء

 

هو فلتة لا تتكرر دائما على ركح التاريخ .. قصة رأس ليس ككل الرؤوس .. بصلعة متمردة ونظرة واثقة تعرف ماتريد .. حاجب نافر .. جبين مخروط بخطوط ..يحكم الدكة ..ينزل فلسفته التي لم يضاهه فيها لحدود اليوم أحد من مدربي العالم ..
بيب غوارديولا المدرب العالمي الشهير الذي بقي وفيا لمخرجات الكرة الشاملة في الأراضي المنخفضة مع الراحل يوهان كرويف، كان لاعبا عاديا في فريق برشلونة، لم ينجز الشيء الكثير في مسيرته الاحترافية الموزعة بين إيطاليا وإسبانيا والخليج، ظل موهبة غير ملهمة إلى أن قرر ولوج عوالم التدريب. هنا أصبحنا أمام ظاهرة غير مسبوقة في التجريب والابتكار والقيادة في ملاعب المستديرة ..
الفتى الأصلع أعلن منذ وقوفه على خط التماس في المستطيل الأخضر، أنه يريد كرة وأسلوب لعب مغاير للمألوف، يريد تنزيل فلسفة جديدة في اللعب، لا يجب الجلوس داخل وفي الخطط الكلاسيكية المعتمدة، بل لابد من التجديد، والتغيير يحتاج إلى ثورة، والثورة تحتاج لرجال معينين يُنتقون بعناية محكومة باستراتيجية واضحة الأهداف والغايات.
كانت بدايته فرصة لم يضيعها على الإطلاق ..تخلصت إدارة البلاوغرانا من المدرب الهولندي المعروف ريكارد لتسلم المقاليد لشخص غير معروف وقتها، في فترة قياسية قام بنشر خطته. التخلص من أسماء كبيرة وقتها، كزلاتان أو إبرا السويدي ثم أتبعه بالكاميروني إيطو ورونالدينو البرازيلي.. لاعبون لايستطيع أي مدرب «عاقل» تركهم يذهبون، لكن ماكان في رأس بيب لم يكن في مخيلة الجميع … في القيادة لابد أن تخلق أعداء ..حتى ولو لم يكونوا ستصنعهم الاحداث …إنها «الثورة « ياسادة ..؟؟
في موسم أول سداسية وفي أربعة مواسم حصل مع برشلونة على أربعة عشر لقبا محليا وقاريا وعالميا ..صنع فريقا ولا في الأحلام يقوده وسط لن يتكرر، هو القوة والعقل والمفتاح والقفل لأي خطة. تشافي إنيستا وبوسكيتش.. نفس الفريق الذي رتب تفاصيله مع إضافة البرغوث الأرجنتيني ميسي هو من سيفوز باسم إسبانيا بكأس العالم وكأس أوروبا… إذن ما صنعه غوارديولا جعل امتداده وتأثيره ليس فقط وسط الكاطلون.. بل غير التاريخ في شبه الجزيرة الأيبيرية.. وأعلن عن ميلاد جيل جديد من المدربين لايتخلون بالضرورة عن القديم.. لكن ليسوا ملزمين بتقشير وطبخ وأكل نفس البطاطس بنفس طريقة الأسلاف؟؟.. هكذا كان.. وهكذا خرجت كرة جديدة مبنية على المتعة والاحتكار وإرهاق الخصم دون السماح له بأخذ المستديرة.. مع الفعالية والنتيجة.. خليط بين السيليساو البرازيلي والصرامة الايطالية والمتعة الهولندية دون السقوط في ثقافة اللعب المعروف بالكرات الطويلة والقوة البدنية والنفس الطويل عند الألمان والانجليز ..أو مانصطلح عليه في مغرب سبعينيات القرن الفائت بـ»اضرب واتبع»..
الفتى الاسباني رسخ فلسفته وبدا واضحا أن الأمر لا يتعلق بالصدفة أو حظ كثير.. بل هناك مقومات مرحلة مؤسس لها بعناية وأناة وتفكير عميق.. لم تتأخر البوندسليغا في استدعاء هذا الثائر الكروي.. على الأقل يمسد عضلات الألمان ويرخيها على الابداع والمتعة بدل التجمد في خطط القوة وترقب الفرصة و»المعقول» الآري ..أخذ بايرن ميونيخ، ونحت طريقته المبنية على التحكم وحوله إلى آلة هو الذي تركه له «يوب هانكس» الفائز بثلاثية تاريخية. بمعنى أن التحدي الذي كان أمام غوارديولا لم يكن بالهين.. وراءه يجلس «علماء» في الكرة الألمانية.. بيكنباور ورومينيغي ومولير… أسماء لا تقبل العبث بالتراث البافاري، ومع ذلك أسلسوا القياد للأصلع وتركوه يقلب ويشقلب حتى اهتدى للتوليفة التي جعلته يسيطر في البطولة الألمانية. بل لم تستطع الفرق الكبرى مجاراته، فحقق كل شيئ وانسحب تاركا بصماته هناك.. والوجهة بطولة الانجليز التي دخلها من باب السيتي، الذي يلعب بالأموال والدولارات لعبا…
عندما وصل إلى مانشستر وجد فريقا يعج بالنجوم، لكن ليست الشاكلة والتشكيل التي يريد. فتح الباب للمغادرين الذين لن يتلاءموا مع عقليته وطريقة تفكيره، وطالب بجلب لاعبين صغار مغمورين، لا أحد يتحدث عنهم، فصنع التوليفة التي مايزال إلى حدود هذا الموسم يواصل بها التحدي.. يسيطر.. ينتصر.. يصرخ… اليوم تحداه ويتحداه مساعده وتلميذه أرتيتا الذي تركه وذهب لآرسنال.. وهو يتربع وإياه على سدة الترتيب في بطولة الموسم الحالي.. يبدو أن غوارديولا استفاد ربما من الدرس.. والذي مفاده لا يمكن اللعب على كل الواجهات. ولايمكن تكرار ما تحقق مع برشلونة.. وبالتالي لابد من «الخروج» وعدم المنافسة على كل البطولات مع التركيز غير المعلن على الكأس ذات الأذنين، هذا ما يبدو من خلال التتبع الحثيث لما يقع اليوم مع غوارديولا أو من خلال تصريحاته المبطنة..
مدرب عالمي ناجح بكل المقاييس.. نحت اسمه عميقا في تاريخ الكرة العالمية. جاء من الخلف وآمن بالوصول إلى المقدمة.. مصر على تسويق أفكاره والدفاع عنها والفيصل هو المرمى.. ربما القائد يحتاج لفريق يدافع عن أفكاره .. والقائد يدافع عن فريق عمله.. يحضن المتفوق ويحفز المحبط ويشجع المتخاذل.. لكن مفروض عليه طرد الخائن. وهذه من أسباب النجاح في القيادة.. سواء في السياسة أو الثقافة أو الرياضة..
لعل مشروع غوارديولا بتابل مغربي صرف هو وليد الركراكي.. لو أتيحت وأعطيت وفتحت وسهلت له كل الأبواب والإمكانيات والثقة.. سنكون أمام نموذج مغربي محض ناجح بكل المقاييس يشبه في تفاصيله الأصلع الكاطلوني.. إن لم يتفوق عليه.. ألم يشنق الركراكي صديق وخريج نفس المدرسة لويس إنريكي في منازلة كأس العالم الأخير؟ ألم يسكت أنفاس نفس اللاعبين الاسبان في الفريق الذي ينتصر اليوم ويقود الليغا الاسبانية مع تشافي في برشلونة؟…
غوارديولا ملهم حقيقي والركراكي فتى ليس ككل الفتيان.. «يسرق» من كل المدارس الكروية ويقيس ذلك بما عنده من قطع غيار.. إذا أردنا أن نحرث الساحة الكروية، وهذه نقطة مهمة، يجب التخلص من «الموديل» ، الذي نفسه الركراكي، القادم من هناك، تجاوزه وداسه دون أن يتكلم عن ذلك..
إن غوارديولا قصة شخص قائد تستحق أن تدرس في الحاضر وللتاريخ… عاش المغرب ….


الكاتب : محمد دهنون

  

بتاريخ : 04/03/2023