غَوَايَةُ الدَّهْشَةِ وَ اتِّسَاعُ الْمَعْنَى في ديوان « قاب كأسين من ريحه» للشاعر فتح الله بوعزة

1 – الْإِقَامَةُ فِي تُخُومِ اللّانِهَائِي:

ثمّة مشّاءٌ تروبادوريُّ الرّؤيا قادم من أقصى الرّيح، يُرتّب الأرض بالنّشيد الأبدي، ويشْهدُ على ارْتِجافِ الجسد أمام سطوة إيقاع يَسْتَكْنِهُ عالَم الطّبيعة، حيْثُ معالِم الأسرار والسّرائر عصيّة على فَكّ مغالقها ، ليظلّ الشّاعر حامِلاً مِعْوَلَ الحفْر في أخاديد الذّاكرة والكيْنونة،آخِذاً بالقارئ ليقتحمَ المجْهول ويُقيمَ في رحَابة الحيْرة وسُشوع السّؤال. والشّعر سليلُ المجاهيل والكوامِن السّرّية التي تبْقى في حاجَة إلى الكشْف والاكتشاف. ومِن ثمّ فالمتخيّل الشّعريّ الّذي نَلِجُ مَمْلَكَتَهُ يشْرع بَابَ القراءة والتأويل باعتباره حمّال أَوْجُهٍ ودلالات، لذا تغْدو الكتابة الشّعرية أمينة أسرارها الكامنة،وحارسة تخوم اللانهائيّ، الأمر الذي يجعلها دائمة ومستمرة في الذّاكرة الجمْعية، وذات تأثير في المتلقّي، خُصوصاً إذا كانت لها القدرة على إخفاء كوامنها وحجْب أعماقها الضّاجّة بالتوتّر والرغبة والمفارقات لأن « الشّعر خطاب يتشكّل مُنْشَغِلاً بالضّدّين الْمُرْعِبَيْنِ، الوجود والعدم وهما يتقدّمان ويسْري كُلّ منهما بطيئا ثقيلا في أحشاء الآخر يهفو إلى إبادته في حركة لا تهدأ ولا تكلّ» ، ممّا يحوّل النصّ الشّعري إلى كِيَانٍ يُقاوِم هذه الثنائية الملغزة والدّافعة إلى ارتياد سؤال الشّعر للكشْف عن التُّخوم الفاصلة بين العدم والوجود، ويجْعلها أكثر وَعْياً لاجتراح طُرُقٍ مُغايِرة في الكتابة تمْنح للتّجربة الشّعرية الخلودَ في الذّاكرة الشّعرية.
وتبقى التّجربة الشّعرية، للشّاعر فتح الله بوعزة، من بيْن التّجارب القمينة بالتّداول والقراءة ، لما يميّزها عن التّجارب الأخرى، سواء من حيْث العمْق الإبداعي، أو من حيث الوعي الشّعري المؤطّر للكتابة الشعرية لدى الشاعر، وثالثا من حيث اختيار طرق الكتابة الشعرية المختلفة والمغايرة، مما يعكس ارتباط الشاعر بنداء الأغوار والسّير على تخوم اللانهائي. نداء يُبطِّن، في جوهره، معرفة شعرية تثير السؤال وتُفْحِمُ القارئ في عوالمها المحجّبة، وعليه يُمْكِن القوْل إنّها تجربة تكتب وجودها الشّعري بِمُتَخيّل يَحْبَلُ بِتعدّد المنافذ المعرفية والجمالية والفنّية، ورؤية عميقة ومتبصّرة في مآلات الشّعر ومتاهاته المتشابكة التباساً وغموضاً ،الأمر الذي يُصَيّرُ تجربته الشّعرية متجذّرة ومتأصّلة في الشعرية العربية، لأنها توقظ في دواخل القارئ حياة جديدة تثير مَلَكة الاندهاش لأن «الشعر الحقيقي مرتبط بالإيقاظ» وشعر فتح الله بوعزّة ذو ذاكرة تنتصر للكتابة الشّعرية المتحوّلة والمتغيّرة، التي لا تعيد السّير في المجرى نفسه، بقدر ما تحفر مجْراها الخَلْقي؛ وفق رؤية تخومية تجمع بين ثنائيات على إثرها يتشكّل الماء الشعري المتجدّد والمجدّد لروح الدّهشة، وإثارة الكامن في القارئ وجعله تحت وقع بروقه اللامعة وارتجاجاته المحيّرة، فكان الشّعر، بالنسبة للشاعر،مَزْجا بيْن الزّفير السّاطع في يد الكتابة وخفْق نابعٍ من سُرّة لغة الشّعر الفيّاضة بماء الدّواخل. إنها كتابة تؤسّس لتجربة شعرية تبتغي التّحديث والإيغال في دروبه الوعرة، ولا تفرّط في حميمية الظّاهر المتجلّي في الواقع، وهذا ملْمح من ملامح الإبداع الشّعري عند الشّاعر،لـ» أنّ الشّعر لوْن من الارتياد والكشف والمغامرة الدّائبة في سبيل صياغة رؤيتنا للكون، وإضفاء معْنى جديد على ما يبدو خُلُوّاً من المعنى فيه».

2 – غَوَايَةُ الدَّهْشَةِ
وَ اتِّسَاعُ الْمَعْنَى :

يبني الشّاعر فتح الله بوعزة خطابا شعريا منطلقه الأساس سؤال البدايات، وما يرتبط به من مسالك التّعبير عنها، ذلك أن التجربة الشّعرية تخلُقُ وجودها الشّعري من كتابة ترتضي الغواية كأصل للدّهشة الّتي تأخذ بِلُبَابِ القارئ للبحْث عن المعنى ومراودته، وتلك فتنة الشّعر المختلف والمجدّد يقول: ( في البدء/ بدا لي أن أرسم شكلا للغواية/ تفّاحة، مثلا، يتعقبها فرسان أشدّاء/ ينحرفون يمينا/ وينقلبون شمالا/ وتفلت من بينهم كلّما أدركوها…) فالشّاعر يروم كتابة شعرية تغوي، وتطارد المنفلت، وتُوسَم بالتّحويل وقلق الإبداع و رهاناته. فزمن الشّعر احتماليّ لا راهنية له و لانهائيّ، تلك غواية الشّعر ولذّته، التي لا يكتمل وجودها إلا بلغة المجاز لأن « أكثر اللغة مجازٌ لا حقيقة»، ذلك أن اللغة المجازية اتّساعٌ للمعنى وتجاوز للحقيقة بغية الخلْق، لذا نجد الشّاعر ينسج تجربته الشّعرية بالاستعارات التي تضيء تلك الجغرافيات الغامضة والملتبسة والغاوية في الذات والعالم. وعليه فاللغة تجْري « مجرى العلامات والسّمات، ولا معنى للعلامة والسّمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه وخلافه» ، يقول : ( أوّل نصفي هباءٌ عالٍ/هارٍ/ وماء يتوقُ إلى نسْله/ نصفي الآخر دخّان/ يتملّى سوالفه/ ويُلملمها مُسْرعا/ كلّما اقتربت شُرفة من ثُغاء الأنثَى …) هكذا تتجلى الذات في مسلك القول عارية من وضوحها، فالحجب قائمة بفضل لغة تتوغّل في مضايق الحروف التي تعبّر عنها كذات هشّة ومحترقة وراغبة في منْطق الطّير، والخلود إلى خلوة تجد فيها الذات الفضاء للبوح والتّيه والإقامة في المابيْن أي في التّخوم المتداخلة والمتشابكة مع الرّغبات والأهواء. فالخواء ماهو إلا امتلاء للذّاكرة المشروخة بين الضّوء وأحداق الأموات ، بين الحقيقة والمجاز، وتلك مشيئة الشّعر النّاهل من منابع التّراث؛ والقريب من نهر حداثة شعرية؛ هويتها التّحويل والمغايرة يقول: ( خلف الحائط حائط/ خلف الحائطين غبار كثيف/ رعاة يختصمون طَوالَ العُشب الفاصل/ بيْن الضّوء وأحداق الأموات/ خواء سحيقٌ/ يليهِ خواء آخر قَيْد التّشكّل/ هل أخطأت الطريقَ إلى مرقدي…). فالخطاب الشّعري يعرب عن التّشظّي والتّناقضات الحافل بها العالَم، لأنّ ملامح الانكسارات بادية على مُستوى الدّال والمدلول الشّعريين،إذ لا مناص من السّقوط في شَرَك الشّللية والانتظارية القاتلة. وهو خواء وجوديّ تعْتصر منه الذّات آلاما ومكابدات تجعل الوجود أقلّ حياة. والشّاعر اكتفى بالتلميح كآلية أسلوبية لإبراز علاقة التّوتّر القائمة بين ذات تصبو إلى التّحرر من سجْن اللامعنى من أجل معانقة المعنى في تجلّياته الأبهى امتلاء للتّجربة الإنسانية، ولعلّ هذا ما حقّق انسيابية الخطاب الشّعري عند الشاعر وجدارته الجمالية والفنّية، لأنّ قيمة التّجربة تكمن» في ما تُحدثه من أثر في نفْس المتلقّي، وليس أبدا في ما تحمله الكلمات من معان مجتلبة من تجارب سابقة، أو دلالات مستعارة من المعاجم» ، فكل تجربة شعرية تغيّب الجوانب الجمالية تظل ميّتة وجامدة وتنعدم فيها حركية الإبداع ،و لا تقْبل التّطوّر وتفْتقد للدّينامية الإبداعية التي تتخلّق من تربة الاستعارات والرّؤى، وهنا يكمن الفرق بين الاتّباع والإبداع، المألوف والمدهش، القائم والمُشيّد، بين الاجترار والاختراق ، الانفعال والتفاعل، وينفتح النّصّ الشّعري على فراغات تدفع القارئ إلى ملء فجواتها، الّتي تحْمل الصّمت والغياب، المعرفة والحقائق، ليطرح سؤال الشّعر الصّعب على التّفسير وفق تقعيدات لم تعد تستجيب لطموح التّجربة وسياقاتها، وما تطرحه من جماليات جديدة تتجلّى في النّصّ المخالف/ المختلف/ العاقّ/ المتمرّد/ الغامض/ الملتبس/ اللّمّاح/ الهادئ ظاهرا/ الصّاخب باطنا. وتجدر الإشارة إلى أن التّجربة الشّعرية للشّاعر فتح الله بوعزة لم تخرج عن نطاق الإبداعية، لكونها اختارت طريقا مخالفا ومختلفا، طريقا لغته الشّعرية تتخلّق من بنية النّص الشّعري وكيانه، مما أعطى للخطاب الشّعري فرادته سواء على مستوى الدّال الشّعري أو على مستوى المدلول الذي يحمل أكثر من دلالة، ومن جهة ثالثة على مستوى التّصورات الشّعرية.

3 – الِانْحِيَازُ إِلَى تَفْتِيقِ الْمَعَانِي الْمُبْتَكَرَةِ :

يتجلّى تحرّرُ الكلمة من المعنى الواحد وولوجها طوْر التّشكّل الدّلالي الجديد، من خلال السّياق النّصّيّ،الذي يلعب أهمية قصوى في إلباس اللّغة لُبوسات معنوية( من المعنى)، وجعْلها أكثر انفلاتا من الدّلالة العادية، وإكسابها وهجاً وإخفاء على القارئ بُغية استجلاء خفاياها المبطَّنة، وإزالة عوالق الالتباس عنها حتّى لا تظلّ حبيسة الدّلالة الواحدة، وهذا لن يتحقّق إلا بعُدول هذه اللّغة وخروجها عن المعتاد، وبتأمّلنا للتّجربة الشّعرية للشّاعر فتح الله بوعزة، من خلال ديوانه «قاب قوسين من ريحه» يتبيّن أن الشاعر نسّاج متمكّن من أدواته الأسلوبية، يمتلك القدرة على ضخّ دماء جديدة في شرايين الكلمة لتغْدوَ حبلى بمعاني ودلالات، وذلك بتضافر مع البُنى الإيقاعية والجمالية والدّلالية، فتتولّد عنها صياغة أسلوبية محمّلة باحتمالات لامحدودة، وَفْق رؤية شعرية تنتقل من الأعيان إلى الأذهان -بتعبير القدامى- فتتشكّل رؤيا شعرية قوامها متخيّل شعري يفيض بتآويل تُثري الخطاب الشّعري وتخصّبه تخصيباً بأبعاد منفتحة على أفق جماليّ نلمس فيه الكثير من الفتْق الدّلالي ، والتي بواسطتها يتمّ الكشف عن المخفي والمندسّ، ذلك أن «الأبعادالجمالية المسكوت عنها تظلّ قابعة في مناطق من النّص لايمكن أن تطالها القراءة المطمئنّة التي تظنّ أن جميع أسرار قوّة النّص معروفة ومحصّلة معلومة لأنّها قراءة لا ترى الخفاء ولا تنشغل بالغياب» ، فيحتاج القارئ إلى عُدّة نقدية ومعرفية بإمكانها إضاءة العتمات النصية بغية الكشف عن حمولاتها الفنية والإبداعية،وما تزخر به من تجديد وابتداع، ولعلّ الطريق إلى هذا الأمر ليس سهلا، بقدر ما يستدعي الحفر في طبقات النّصّ لاستكناه جواهره ونفائسه الغابرة والغائرة، واقتحام عوالمه الشعرية الزّاخرة بالتشكيل في المعنى والدلالة.فحديقة فتح الله بوعزة الشعرية تظلّ سرّية، نظرا لما يُميّز اللّغة الشّعرية من طزاجة وطراوة تجعل القارئ متلذذا بحلاوتها ولسعاتها المستفزّة والمربكة لذائقة، مازالت لم تتمرّد على السّائد الشّعري، بل إنّ النّسيج النّصّيّ متلوّن بأشكال تعبيرية تخرج عن المألوف في الصّوغ، مما يفرض الإصغاء والمحبّة كسبيل للمناولة النّقدية ذات الجدوى ، هذا الكلام لا ينطلق من فراغ، وإنّما أساسه عمل شعري موسوم باللامتوقع والمفاجئ، يقول: ( في حدائقه، بالقرب من الغيمة الزرقاء التي انتبذت أعتابا أخرى؛ رأيتُ يدي تتخثّر شيئا فشيئا. رأيتُ بقايا الحزن القديم تُهدهد ماء النّهر القديم؛ وكانت شمس الخريف تُلملمُ أنسابها والأراجيح خلف لُهاث السبايا …) إنها حديقة البوح حيث تنساب اللّغة في مجْرى التّشكيل بأريحية جمالية تشمل الألفاظ والمعاني، وتمنح صوّرا شعرية ملتقطة ببصيرة شاعر يمتلك رؤية تحتفي بالجمود والحزن القديم وشمس الخريف وخلو الطبيعة من عناصرها و الأفق غراب أعمى يقود العالم إلى النّهاية، مما يعكس البعد الغنائي المخفي بين ثنايا الخطاب الشّعري. فالسّهو تعبير عن تلك الدهشة الفاتنة والآسرة التي يحدثها الشّعر العصيّ على الإحاطة بتفاصيله الملغزة. «فالنصّ الإبداعي هو، بهذا المعنى، أفق من الدلالات أو من «الحقائق» وليس «مكانا» لفكرة أو مجموعة من الأفكار، نراها ونلتقطها بوضوح ، واحدة واحدةً «،وإنّما يكمن في قدرة الشّعر على اقتناص الواقع وما يحبل به، وتحويله إلى عالَم ينبُض بالجمال، عبْر لغة تمزج الحقيقة بالخيال في نسْج خلّاق يفتح الخطاب الشّعري على احتمالات لاشطوط لها، وفي هذا ما يحقّق اللّذة النّصية- كما تحدّث عنها رولان بارت- والتي لن تقوم لها القائمة إلا بالقراءة المتفاعلة والمنصتة لتذبذبات الذات والعالَم. يقول: ( أفق غائم وحواشيه مثقلة بالغبار/ ربّما يطرح الناس أسرارهم في الحياض/ وقد ينثرون ضفائرهم في الهواء/ وينتظرون سنين لتورق أعقابهم…) فاللّغة مجلّلة بهيْبة وجلال هذا الأفق المظلم للتّعبير عن انسداد الواقع وتغييب الأمل ( الضوء) مادام الغبار امتطى قميص الطفل، وفي هذا امتصاص لقصة يوسف عليه السلام مع إخوته، من خلال الإحالات الضمنية المبثوثة على بساط النص ( دلق الإخوة بئره/ إذا ما الشيخ أفاق / ولم يرتد بئره / أو يلاقي فتاه الذي لن يعود / إلى شهده مرة أخرى ( فالشيخ كناية على سيدنا يعقوب ) إذ تمكّن الشاعر من محْو معالِم القصّة وكتابتها بلغة شعرية توحي وترمز؛ ممّا أعطى للنّص نكهة فنية ذات نفَسٍ جمالي مُبْهر ومُوجِع في الآن ذاته، لأنّ العودة مؤلمة وصادمة حيث الخيانة مرآة تعرّي حقيقة العالم. هذه اللّغة التي يطرّز بها الشّاعر البياض لا ينبغي النّظر إليها، باعتبارها أداة للتّعبير وإنّما طريقة للكشف عن وجودها، وهذا ما عبّر عنه هيدغر بقوله» اللّغة ليست في ماهيتها وسيلة يفصح بها الكائن العضوي عن نفسه، ولا هي تعبير عن الكائن الحيّ، وليس بإمكاننا أن نتمثّل ماهيتها إذا اقتصرنا على النظر إليها باعتبارها مجموعة من الدلائل أو وقفنا عند قيمتهاالدلالية. إن اللغة هي الكيفية التي يكشف فيها الوجود عن ذاتها ويحجبها في الوقت ذاته» ، وهذا يعني أن جوهر اللّغة الشّعرية ذو صبغة وجودية تضمر أكثر مما تظهر، وهي مسكن الشّاعر الذي يلوذ إليه وفيه يشعر بوجوده وتتحقق كينونته، والشاعر فتح الله بوعزة يبدع لغته الشّعرية المنسوجة بإبرة الخفاء والتّجلّي، حيث اللّغة لا تمنحك ذاتها بسهولة ولكن بعد مكابدة، وهي مكابدة محمودة لأنّها تخلق الجمال وترتب عناصر العالَم بطريقة لا تخضع إلا لنداء جوهرها وكيانها، وصمتها الجهوري المنزوي خلف الحجب والعتمات. فالشّاعر صانع لغته بها يعبّر عن هواجسه وأسئلته وفيها تتبدى معالم كينونته، والمتأمل في ما خطّته جماليا وفنيا يد الشاعر فتح الله بوعزة على البياض، يزكّي ما ذهبنا إليه سابقا ( طيات النّدى/ مدائن تعبرها العاديات ضحى/ وحين تضِلّ الحرفَ إلينا/ ندلّ الحرف عليك/ نصفي هباء / ثغاء الأنثى/ عصافير زرقاء/ذئب يشحذ أوصاله/سهو القوافي/ أطراف الغياب/ خاصرة الوقت/ الريح ترمح في الزحام/ رماد الحبر …) هذا المشتل اللّغوي زاخر بانزياحات تخصّبُ الدّلالة وتوسّعها، وتشرع أفق اللغة على احتمالات شتى، ومن حظّنا أنّنا ارتوينا من معين هذه اللّغة الفيّاضة بالإيحاءات والتّلميحات التي تسلّط الضوء على المستور والمتواري، وتبئر علاقة التوتّر التي تجابهها الذّات الشّعرية مع العالم، وكذا الصّراع القائم بينهما على اعتبار أنّهما متناقضان، فالضدّية هي الصّفة التي تربط علاقة الشّاعر بالوجود، إذ تمة كينونة تُواجِه مصيرها في وُجودٍ مُتقلّبٍ وعصيٍّ على الفهم والإدراك، وعليه فإن « اللّغة الشّعرية تكشف عن الإمكان، أو عن الاحتمال، أي عن المستقبل، وبأن المستقبل لا حدّ له، وبأن اللّغة الشّعرية، تبعا لذلك، تحويل دائم للعالم، وتغيير دائم للواقع وللإنسان» هكذا تجترح اللغة الشعرية هويتها الجمالية من هذه الرغبة في تصيير العالم وجودا بالخيال، وإقامة أبدية للذات عن طريق البحث الدائم في صياغة أفق شعري منفتح على الملتبس والفاتن.

حاشية على اللانهائي:

لا غرو من القول إنّ تجربة الشاعر فتح الله بوعزة تؤسس لشعرية تنوجد في تخوم الواقعي والخيالي، حيث تستلهم وجودها الشعري من الالتحام بينهما، والتصادي في الوقت ذاته، ولعلّ هذه الميزة لا تُمتلك إلا بعد مجاهدة ومكابدة، وترحال في مسالك التجربة والوعي بأهمية الشعر في الحياة.


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 12/02/2021