فاتحة مرشيد: فن الموت.. فن الحياة : يكفي أن ننتبه إلى الظل الذي يمشي خلفنا على طريق الحياة، لنتذكر الوجه الآخر لقدرنا

استطاعت المبدعة فاتحة مرشيد أن تراكم خطابا إبداعيا متميزا داخل المشهد الإبداعي العربي. ولعل أهم خاصية تتميز بها نصوصها الإبداعية، هي طبيعة القضايا التي تعالجها، وطبيعة شخصياتها (الروائية) التي نجدها مهووسة بالبحث في جوهر « وجود» الكائن الإنساني.
وهذا الانشغال العميق بجوهر الحياة وبمصير الفرد، يجعل من قضايا الموت، والحب، والفن، والاغتراب (بكل أبعاده الأنطولوجية)، إحدى الركائز الجوهرية التي تسعى إلى البحث عن بعض الأجوبة التي قد تساعد الفرد على إيجاد معنى لوجوده. وهي بذلك تصنع عوالم تتحرك فيها «كائناتها» في قلق هادئ، مليء بالأسئلة وسبر أغوار الذات.
ولعل المثير، خصوصا إذا علمنا أن مبدعتنا، أتت من خلفية علمية – من خلال ممارستها لمهنة الطب- هو
هذا الانتصار الدائم، للفن والإبداع والحب. إذ يصير العمل الفني حاملا «لحقيقة»، سيظل الإنسان في
أمس الحاجة إليها في مواجهة مصيره، كفرد أو جماعة، مادام أن العلم لم يستطع أن يضع حدا لقلق الإنسان.
نكتشف، من خلال هذا الحوار الممتع، مبدعة من عيار استثنائي. فهي تجعل من الفن (بمفهومه العام) إحدى أهم القنوات التي يمكن من خلالها أن ندرك أنفسنا داخل سياق مليء بالتعقيدات. بل يصير، أحيانا، ملاذا نقي به ذواتنا من الرعب الوجودي الذي يزداد قتامة، خصوصا مع التحولات الطارئة في السياق الكوني، وعجز التقنية والحضارة الراهنة على تغيير واقع الإنسانية نحو الأفضل.

 

– ماذا يعني الأدب بالنسبة إليك، وما هي حدوده في يومك؟ ثم إلى أي حد يمكن اعتباره إلى جانب باقي الفنون ضرورة؟
– جئت الأدب كما يقصد عطشان نبع ماء.. لألبي حاجة ماسة إلى الارتواء. الكتابة بالنسبة إلي حياة أخرى داخل الحياة.. وفضاء آخر للتنفس وسط الفضاء. فضاء يمكنني من أن أطلق صرختي في وجه العالم كمولود جديد، فأتعلم النطق من جديد، والمشي من جديد، والبحث والتساؤل والعيش والتعايش والحب والموت من جديد.
بالكتابة نعيد للكلمات قلقها وألقها، للجراح معانيها، للسؤال ضرورته ونعطي للكائن بداخلنا حقه في أن يكون.
ولأن الكتاب يكتبه اثنان، الكاتب والقارئ، فعلى الأدب مخاطبة ذكاء القارئ باستفزازه وجعله يتبنى الأسئلة التي يطرحها ويعيد صياغتها بطريقته الخاصة لأن لكل قارئ أجوبته التي يعثر عليها بالحفر في تجربته المعاشية وذاكرته الفردية والجماعية ومرجعياته الثقافية.
أنا مع الأدب الذكي الذي يسمو بذائقة القارئ وحسه الفني ووعيه. القارئ يبحث في الكتب عن القيمة الفنية التي تفتقد إليها حياته وعن التنوير الذي يتعطش إليه علاوة عن المتعة.
قد لا يستطيع الأدب تغيير أوضاع قائمة لكن باستطاعته تنوير العقول التي تسعى لتغيير الأوضاع. لهذا صودرت كتب وحرقت أخرى على امتداد تاريخ البشرية.
الأدب نعمة حقيقة تمكننا من عيش حيوات أخرى في حياة واحدة (كقراء وككتاب).إنه يفتح أمامنا آفاقا جديدة واحتمالات غير متوقعة، ويوسع زوايا نظرنا إلى العالم من حولنا وإلى الآخر.. كما يساعدنا على وضع كلمات على أوجاعنا وعلى انفعالاتنا وهو سبيل ناجع لفهمها وتجاوزها. ولهذا يعتبر بمثابة علاج نفسي بحيث أصبح «العلاج بالقراءة» أو «العلاج بالكتب (Bibliothérapie)معتمدا لدى العديد من الأطباء النفسانيين.
الأدب كوجه من وجوه الثقافة يجعلنا أكثر تقبلا للآخر واختلافه، علاوة على كونه متعة من المتع السامية ووسيلة للمعرفة والإدراك.
وبغض النظر عن حاجة الإنسان الأزلية إلى الحكي (وكل الفنون تحكي حكايات)، يعتبر الإنسان إنسانا بقدرته على ابتكار الجمال.. الإبداع بعض مما يجعله يسمو على باقي الحيوانات.
ضرورة الفن تكمن في كونه غير ضروري، لكنه أساسي كتعبير سام عن إنسانيتنا.وجود الأدب في حياتي اليومية، كباقي الفنون، حاجة لا يمكن الاستغناء عنها وخاصة بواسطة القراءة. لأن الكتابة هي التي تختار متى تأتي ومتى ترحل أما القراءة فنحن من نختارها.. وأنا أومن بقدرة بعض الكتب على تغيير حياة بأكملها.

– الكاتب يكتب لنفسه أولا، لأنه يجد ضرورة قصوى في التعبير عن رؤاه، فما هي درجة حضور المتلقي أثناء عملية الكتابة؟ وما هو نوع الرقابة التي تمارسينها على «لغة شخصياتك»؟
– الكاتب وهو يكتب لنفسه يكتب للآخرين، تماما كما وهو يكتب عن نفسه يكتب عن الآخرين.
«أيها المجنون الذي يعتقد أنني لست أنت.. حين أكتب عن نفسي أحس أنني أكتب عنك» على حد قول فيكتور هوغو.
الرقابة كسلطة عدوة الإبداع والمبدعين وأسوأها تلك التي يمارسها الكاتب على نفسه بفرضها على شخصياته.هناك علاقة وطيدة بين الإبداع والحرية، بحيث لا إبداع خارج الحرية. والكلمات، كما الشخصيات، كائنات حية سرعان ما تتحرر من كاتبها لتعيش حياتها الخاصة.. وأنا أحترم إرادة شخوص رواياتي في التعبير عن نفسها بلغتها الخاصة وتقرير مصيرها.لأن المفروض في الأدب أن يكون شجاعا ليؤدي وظيفته كمتراس ضد الخوف، والظلامية.

– هناك جدل عميق، والذي يصل إلى حد الصراع بين «الوعي العلمي» و «الوعي الفني» في جل نصوصك، غير أننا نلاحظ انتصار المبدع والفنان، فإلى أي حد يمكن الحديث عن ضرورة الفن داخل مجتمعاتنا العربية؟
– هذا الصراع الذي أشرت إليه بين «الوعي العلمي» و»الوعي الفني» قد يأخد شكل قطيعة في مجتمعاتنا مما يجعل الكثيرين يجدون تناقضا بين كوني طبيبة ومبدعة، على سبيل المثال. لكن إن كان النصف الأيمن من الدماغ هو موطن الفن والحدس والانفعال، والنصف الأيسر موطن التحليل العلمي والرياضيات والمنطق، فكل منا يتمتع بوجود النصفين في دماغه بحيث لا يمكن الفصل بينهما.والعلماء الكبار ما كانوا ليصلوا القمة دون الإبداع في مجالاتهم بتفعيل الدماغ الأيمن كذلك.
وانتصار الفن هو انتصار لما هو إنساني. لأن العلم دون مراعاة البعد الإنساني، قد يتحول إلى كارثة.

– الفضاء الذي تتحرك فيه شخصياتك الروائية مغلق إلى حد ما، ضيق ومنعزل وبعيد عن اليومي وصراعات المجتمع، أهو إقصاء لليومي، أم انشغال بالأفق الأنطولوجي؟
– لا أعتقد أن هناك ابتعادا عن المجتمع وإقصاء لليومي في رواياتي، ربما هناك إقصاء للتفاصيل اليومية التي لن تضيف شيئا للبعد الدرامي للشخصية. ولأنني أميل إلى الكثافة فأنا أفضل أن أركز على الانفعالات والجانب النفسي والأفق الأنطولوجي للشخصية كما تقول.

– ما هي حدود الفني في علاقته بأسئلتك الأنطولوجية؟
– سؤالك في صميم الفلسفة يا صديقي. لنعد إذن إلى مقولة ديكارت «أنا أفكر إذا أنا موجود».
إن كان السؤال يرتبط ببنية الفكر فهو ماهية الأدب والفن عموما. الفن بحث عن كينونة أعمق تسمو بنا عن حقيقتنا الحيوانية وتمكننا من ابتكار حقيقة أخرى.. حقائق أخرى.
هل أجد في الفن أجوبة عن أسئلتي الأنطولوجية أم تراه يضيف لي أسئلة أخرى؟
الاثنان معا. الفن يساعد على تحمل الحياة.. تجميلها لكنه ليس الحياة.
هل يمكنني أن أعيش دون أن أكتب؟
نعم، بكل تأكيد الحياة أكبر من الكتابة.. لكن السؤال هو: أي معنى أريد أن أعطيه أنا ككائن حي لحياتي؟ وهل يمكنني تحقيقه خارج الكتابة؟
هنا أجيب لا. أنا ذات تسمو بواسطة الكتابة.. والفنون تجعلني أكثر إنسانية وتضيف لكياني كيانا أرقى. ولهذا تبقى مقولة بيسوا «الفن هو الدليل على أن الحياة لا تكفي» من أعمق ما قيل في هذا الصدد.
الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي لا يكتفي بحياته الفيزيولوجية.. الوحيد القادر على الإبداع والخلق.
تطلعات الإنسان أكبر من واقعه المعاش ولهذا هو يبدع ليملأ هذه الهوة بين محدودية واقعه ولا محدودية الخيال.
وإن كنا نجد في الفن بعض الأجوبة عن أسئلتنا الانطولوجية فهو بالفعل يضيف لنا أخرى.. لأنه يستمد وجوده من السؤال.. السؤال هو المحفز على الإبداع وهو السر في استمراريته. يوم نستغني عن السؤال نستغني عن الحياة.. بحيث يمكن القول «أنا أسأل إذا أنا موجود».

– لماذا كانت دائما فكرة الموت باعتبارها قضية أنطولوجية هي المهيمنة، إذ تبدأ صغيرة لتنمو وتتحول إلى القضية المركزية التي تشغل كل هموم شخصياتك، وهو ما لمسناه منذ أعمالك الأولى لتأتي رواية التوأم لتزيد من تعميق القضية؟
– الموت من المحركات الأساسية لكل إبداع.. بل إنه القضية الكبرى.ونحن نبدع إنما نحاول سبر غموضه وإذا كنا نستمر في الكتابة فذاك لأنه ينفلت منا.. بحيث في كل كتاب جديد، محاولة جديدة لفهم ما.نحن نبحث في الإبداع عن أبديات صغيرة تلهينا عن مصير محتوم ينتظرنا دون شك ممكن.الإبداع نوع من أنواع مراوغة هذا المصير في انتظار حدوثه.. الإبداع ملطف لهذا الانتظار الغير المحتمل.
ونحن نبدع إنما نؤثث الانتظار.. نملأه قطرة قطرة من نزيف أرواحنا.. ونموت قليلا ليولد النص. ولأن في ولادته ولادة جديدة لنا، فنحن ندمنه لأنه الفعل الوحيد الذي يشعرنا بأننا أحياء.

-استمرت في التوأم ثلاثية الحب والموت والمنفى التي حضرت في أعمالك الأخرى، ما السبب؟ هل هذا استمرار في البحث عن إنضاج فهم وجودي لقضايا فلسفية، ومن ثم تعبير عن فشل الكائن الإنساني في إيجاد حل لهذه المعضلات؟
– ما يعنيني أكثر كمبدعة هو الكائن.. بقوته وهشاشته، بمعاناته الوجودية، وهي تصل مداها حينما يتعلق الأمر بالموت أو الحب أو المنفى.
غموض الحب والموت من غموض الكون، لهذا هما نخاع كل إبداع.. وهو يتغدى من الفلسفة ويصب فيها.وأنا أسعى إلى تعلم الحياة والتقرب من بعض ألغازها من خلال الكتابة، وعبرها أحاول إزاحة الستار عما هو موجود لكن مسكوت عنه..
ما يهمني هو طرح الأسئلة أساسا، وللقارئ بعد ذلك إيجاد أجوبته وحلوله الخاصة.

-جاء على لسان إحدى شخصياتك في «لحظات لا غير»، (ص 24) «بدا أكبر سنا مما هو عليه، رب أسرة، يشتغل أستاذا للفلسفة.. ظل وفيا لمبادئه رغم ما يبديه من تبدد أوهام واعتزال لعالم السياسة».
هل يقتضي – بنظرك- «السؤال» الفلسفي الانعزال!؟ أم إنه يضع نفسه في موقع كنقيض «السياسي»، ومن ثم فله تقنياته في تغيير الحياة، التي لا يمثل فيها «السياسي» سوى جزء هامشي من مجموع القضايا التي تنسجها عوالمك الإبداعية؟
– الشخصية التي أشرت إليها في سؤالك هي شخصية إبراهيم المناضل اليساري الذي قضى عشر سنوات في السجن.. «بدا أكبر سنا مما هو عليه» لأن «بعض التجارب لا نخرج منها سالمين»، ولأن السنوات التي قضاها في السجن خارج الحياة أضافت له أعواما لم يعشها.
أعتقد أن عزلة الزنزانة تمنحك كل الوقت للتفكير وإعادة النظر في قناعاتك ومبادئك ومواقفك القديمة خاصة إذا كنت تمتلك نظرة فلسفية نقدية للحياة. ثم وأنت داخل السجن تدرك بصفاء أكثر، ما يجري خارجه.. لأنك على مسافة قصية منه. كما قد تكتشف وأنت خلف القضبان رفاق النضال، من جديد، من خلال مواقف وتصرفات لم تكن لتتوقعها منهم. قد يكون هذا ما بدد أوهامه وجعله يعتزل عالم السياسة بعد خروجه من السجن.
من المعلوم أن «السؤال» الفلسفي يشمل كل قضايا الوجود والفكر والحياة بكل مكوناتها، وتشكل السياسة جزءا من هذه الاهتمامات بدليل أن فلسفة السياسة فرع من فروع الفلسفة.
المشكل ليس على الصعيد النظري، وإنما على صعيد الممارسة. والسؤال المطروح هو هل يمكن للفرد أن يوفق بينهما معا؟ بمعنى أن يتمتع بالعزلة الضرورية للتأمل وإنتاج الأفكار بموضوعية خارج لعبة السياسة وفي نفس الوقت أن يكون رجل الميدان.. ميدان المجاملات والتوافقات والديبلوماسية والنفاق الاجتماعي والمصالح والسلطة والتأثير والنفوذ؟
السياسة ميدان الإكراهات والتبعية والفلسفة ميدان الفكر الحر. السياسي يفكر بمنطق حزبه، وقد لا يفكر، إذ يكفيه أحيانا تطبيق مخططات الحزب الذي ينتمي إليه حتى ولو اختلف معه نظريا. وهذا ما عبر عنه سقراط خلال محاكمته حيث قال:»ليس هناك أي إنسان يمكنه أن يبقى آمنا، إذا عارضكم بأمان وصدق، وحاول منع وقوع تجاوزات كثيرة يمكن أن تحدث في الدولة، ضد العدل والقانون. لذلك يجب على من يريد أن يصارع من أجل الحق، إذا رغب أن يكون آمنا ولو لفترة قصيرة من الزمن، أن يحيا حياته الخاصة بعيدا عن معترك السياسة».
وهذا بالضبط ما استنتجه إبراهيم من تجربة السجن فعزف عن السياسة كممارسة واهتم بتدريس الفلسفة وتنوير العقول، مؤمنا بأن هذا هو الوجه النظيف للنضال.

– تقول إحدى الشخصيات (في الصفحة 102 من التوأم) «وهنا تكتشف ضياعك بين الضفتين» وفي الصفحة التي تليها نقرأ «حلم واحد يفضل لك أن تموت في بلدك» فهذا المنفى الذي شكل أملا في السابق يصبح مصدر قلق وضياع، وهذا الوطن الذي غادره يبقى الرحم/الأمل الذي يتمنى أن يموت فيه، ألا يترجم هذا هشاشة وعي الفرد العربي في علاقته مع الموت، أي إننا لا نعرف كيف نموت؟
– المنفى ليس اختياريا دائما، بل كثيرا ما يفرض نفسه كضرورة حياتية عندما تصبح حياة المرء في وطنه الأم مستحيلة ولا آفاق تمتد أمام عينيه .إنه حقا الرحم الذي نغادره ملبين نداء الحياة.. نرحل عنه بالرغم من حبنا له.. لأن الحياة أكبر من الحب. نتمنى أن نموت فيه ربما تكفيرا عن عجزنا الحياة فيه.
علاقة الإنسان بالموت علاقة معقدة يشتبك فيها الثقافي بالديني.. الوعي الجماعي بالوعي الفردي ومدى استئناسنا بالفكرة ومساءلتنا الفلسفية لها. لهذا لكي نعرف كيف نموت علينا قبلا أن نعرف كيف نحيا.
سؤالك هذا يضمر فكرة مهمة تستحق الحفر وهي كون الموت فن كما الحياة فن.. كلاهما يتطلب إبداعا.

– روايتك الأخيرة تحمل عنوان «انعتاق الرغبة»، كما أننا نقرأ حوارا بين شخصيتين في رواية «التوأم» (الصفحة 90):»ليس العقل ما يجعلنا نتقدم إلى الأمام يا سيدتي
-وما هذا الذي يجعلنا نتقدم إذن؟
.. إنها الرغبة عندما نفقد الرغبة نفقد كل شيء»
هل الرغبة هنا مرادفة للإرادة أم لمحاولة فهم جديد للعالم؟ خصوصا أننا مجتمعات تحتاج إلى العقل أولا؟
– »الرغبة ماهية الإنسان وجوهره»، حسب الفيلسوف سبينوزا.الرغبة ليست مرادفة للإرادة بل هي محفزة لها.. إنها محرك الإرادة في اتجاه أو في آخر.
الرغبة هي التي تبقينا في حالة حيوية ويقظة.ولو وضعناها في إطارها الشامل، سنجد أنها الرغبة في الحياة أولا.. ومنها تتناسل كل الرغبات.
أعتقد أننا مجتمعات يحتاج الفرد فيها إلى تحرير رغباته على جميع المستويات، رغبته في أن يكبر حسيا ومعرفيا وإبداعيا، رغبته في استعادة كرامته والتعبير عن ذاته في بعدها الإنساني الكوني، رغبته في ممارسة حقه في الاختلاف والاختيار.
الفرد في مجتمعاتنا مع الأسف فقد رغبته في أن يرغب وهذه هي المأساة.

– (في الصفحة 80 من التوأم) نقرأ :»لا يهم كونه عالما لا يخضع لمنطق العقل، فالتعقل هو الملاذ الأخير لمن لا خيال له وأنا أملك خيالين اثنين..» نعرف أن الخيال أهم بكثير من الواقع، بل هو ما ينقصنا كمجتمعات، فأي خيال تقصدين وكيف يمكن للخيال أن يكون مخلصا من واقع مأزوم، وكيف يصبح منتجا لواقع إيجابي/ مستقبل؟
– »الخيال أهم من المعرفة. فالمعرفة محدودة، بما نعرفه الآن وما نفهمه، بينما الخيال يحتوي العالم كله وكل ما سيتم معرفته أو فهمه إلى الأبد»، يقول إينشتاين.وهذا عن الخيال بمفهومه الشامل.
ما جاء على لسان الشخصية، هو خيال المبدع الذي هو في الرواية مخرج سينمائي، فقد أخاه التوأم، وهو يعمل بخياله وخيال توأمه المفقود.وهذا يعود بنا إلى سؤالك الثالث حول الوعي الفني والوعي العلمي. كلاهما يحتاج إلى خيال، وهو العامل المشترك بينهما.. وهو «العلامة الأكيدة على العبقرية».ما ينقصنا هو الخيال الذي يترجم إلى واقع، إلى إبداع وإنتاج على جميع المستويات.

* في «التوأم» يموت أخ ويحيا آخر. إننا أمام قصة حياة وموت وبينهما خيط رفيع هو الألم في الاستمرار، لكن يظل الموت مشروعا حقيقيا، تنصرف عنه شخصياتك إلى الحياة. هل يعني هذا أننا ملزمون بفهم الموت بالحياة أم إدراك معنى الحياة بالموت؟
– الموت والحياة وجهان لعملة واحدة.ووجود الموت في حياة شخصياتي يعمق إحساسها بالحياة.. ويعيدها إلى ذاتها كلما انصرفت عنها وعن جوهرها إلى التفاهات.
أجل نحن ندرك معنى الحياة بالموت.. وعلينا أن نستشعر وجوده في كل حين..يكفي أن ننتبه إلى الظل الذي يمشي خلفنا على طريق الحياة، لنتذكر الوجه الآخر لقدرنا.

– لماذا تلجئين إلى توظيف الميثولوجيا، أمحاولة فهم أم أنها لاتزال قادرة على إمدادنا بالكثير من المعاني في فهم حضورنا في العالم؟
– الميثولوجيا تزخر بكل ما يمكن استنتاجه عن السلوك البشري وعلاقة الإنسان بأخيه وبمحيطه.من خلالها نفهم أن جوهر الإنسان لم يتغير كثيرا وأننا في نهاية المطاف لا نخلق حكايات جديدة، بقدر ما نعيد صياغة القديم بطرق جديدة.. نحن نغير النظارات لرؤية البانورامي الإنساني نفسه. الإنسان هو من خلق آلهة الميثولوجيا ونسب لها حكايا وقصصا.. إنها إسقاطات من الإنسان في محاولة سبر أسرار الكون. إلا أن توظيفي للميثولوجيا في رواية التوأم فرضته أحداث الرواية واهتمامات شخوصها.

– جاء أيضا على لسان فؤاد في «الحق في الرحيل»: «لا تهمني تفاصيل الأحداث بقدر ما تهمني انفعالات الشخصية خلالها ووقعها عليها وتأثرها بها.. تهمني الشخصية وسط الأحداث بأحلامها، بمخيلتها، بكل إفرازات الحياة بداخلها لأن في الكتابة كما في الحياة لاتهم عظمة الأحداث بقدر ما يهم تفاعلنا معها» ( ص.30)، هل يعني هذا أن «إرادة» الفرد وتجربته في صناعة تاريخه الفردي والجماعي هي الأهم؟ ثم هل يعني هذا أن الخطاب الأدبي والفني سوى آداة للبحث عن حقيقة «الكائن» من خلال تجربته في العالم؟

– وقع الأحداث يختلف باختلاف حساسيات الأفراد وقدرتهم التحملية، بحيث نفس الحدث يمكنه أن يدمر البعض فيما يقوي آخرين، وهذا ما أعنيه ب «لا تهم عظمة الأحداث بقدر ما يهم تفاعلنا معها». كل الأشياء العظيمة بدأت بحلم لكن لتحقيق هذا الحلم لابد من أن تفوق رغبتنا فيه كل الصعاب التي قد تصادف طريقنا. وأكبر عقبة في طريق الإنسان هي نفسه. أومن بأن الإنسان صانع نفسه وبأن ثلاثة أشياء تهد الجبال: الإرادة، العزيمة والإصرار.

«نادرا ما ينجو الكاتب من السيرة الذاتية في عمله الأول»، جاء هذا على لسان إحدى شخصياتك في لحظات لا غير. متى يتوقف الواقعي ويبدأ التخيلي، أو متى يبدأ الخيال ومتى ينتهي؟
– الرواية عبارة عن نسيج محكم الحياكة تتشابك فيه خيوط الواقع بخيوط الخيال والتجربة الخاصة للكاتب بحيث تستحيل معرفة متى يبدأ هذا ومتى ينتهي ذاك. كما أننا نسكب بوعي وبلا وعي من أنفسنا في كل ما نكتب. ولهذا أنا أعتقد جازمة بأن في كل ما نكتبه سيرة ذاتية بشكل من الأشكال.

-ميزت بين شاعر ناطق وآخر صامت لتحسمي على لسان شخصيتك (لحظات لا غير) «كل منا يحمل شاعرا بداخله، بعضنا ناطق والبعض الآخر صامت». أمن هنا تعتبرين الشعر ضرورة، لأن فينا جانبا له صلة بالفن وبالشعر أساسا؟
– الشعر أكبر من الكلمات إنه طريقة تواصل مع العالم، إنه فلسفة حياة.. الشعر خلق لكي يعاش.. ليس من الضروري أن يكون الشاعر ناطقا، نحن لا ننطق كلاما فقط.. ننطق إحساسا. ننطق حبا. ننطق دموعا. ننطق ضحكا. ننطق رقصا، وقد تنطق أجسادنا نوبات ألم وهيستريا وجنون.
أجل، الشعر ضرورة، لكنها من الضروريات غير الملموسة، الضروريات التي تسمو بحياتنا… إنسان المغارات رسم على جدرانها، في العتمة، لم يستغني على الفن. فكيف لإنسان النور أن يطرح سؤال اللاّ جدوى؟.


الكاتب : أجرى الحوار: ذ. خالد سليكي(بوستن)

  

بتاريخ : 05/11/2021