فاطمة المرنيسي كما عرفتها

تعرفت على أستاذتي فاطمة المرنيسي مطلع سنة 2000، بمدينة زاكورة، بمقر جمعية تنمية وادي درعة، أشرف ونسج اللقاء صديقي وأخي حميد الهيلالي، كانت حينها في طور إعداد كتابها «سندبادات المغرب – رحلة في تاريخ المغرب المدني»، والذي خصصت جزءا منه لفاعلين من درعة، سألتني عن البرامج والأدوار التي أقوم بها؟ عن تكويني؟، وعن أسباب عودتي للاشتغال بمسقط رأسي؟، طلبت مني معلومات عن لكبير أحجو، الأستاذ والباحث الاجتماعي، وعن محمد بنور الفنان العصامي، وعن نزهة أخضر الرياضية الصاعدة، التي تشق طريقها نحو الشهرة، وعن مجيدة شهيد الفاعلة الاجتماعية.
بعد ذلك قدمت لي الأستاذة فاطمة مشروعها المدني، قبل أن تعرض علي وعلى زملائي بمنطقة درعة الالتحاق بقافلتها المدنية، قافلة دأبت على تنظيمها بين الرباط ومراكش والدار البيضاء وزاكورة، بمشاركة ثلة من الفاعلين والمبدعين والمثقفين من المغرب ومن خارجه، ليتحاوروا بالأساس خلالها وليتقاسموا خبراتهم وتجاربهم ويُعرفوا بمنتوجاتهم الفكرية وإبداعاتهم الفنية ويطوروا أخرى في إطار شبه عائلي تطبعه الحميمية.
كانت الأستاذة فاطمة تسهر بدقة على تنظيم القافلة، وعلى استقلاليتها، لا مكان للارتجال وبرامج آخر لحظة عندها، كل شيء تجب برمجته والتحضير القبلي له بإصرار وبُعد نظر، لا محل للنجومية في قوافل الأستاذة فاطمة، كانت تسهر على مشاركة الجميع بكيفية متوازنة وتحرص على الدفع بالناشئين والمغمورين إلى الأمام وترغم المجربين والمتمرسين على الأخذ بيد المبتدئين، كانت لها أساليبها الخاصة في كسر محاولات الهيمنة بالتلميح والغمز أحيانا والزجر والتحجيم أحيانا أخرى.
كانت خبيرة في إذكاء التنافس بين المجموعات المكونة للقافلة المدنية، كنا حينها خمس مجموعات، الأولى قادمة من درعة والثانية من مراكش والثالثة من الصويرة والرابعة من الدار البيضاء والخامسة من الرباط، كانت فاطمة تتوفر على قدرة عالية على الجمع بيننا كمجموعات ولكن كذلك على تذويب الفوارق بين الأجيال حيث يتواجد ضمن مجموعاتها، جنبا الى جنب، الشباب والكهول والشيوخ.
كانت فاطمة كريمة وسخية في كل شيء، تقاسمت معنا خبرتها في الكتابة وتقاسمت معنا شهرتها. أطرتنا لإنجاز دليل في إطار «جمعية تنمية وادي درعة»، يقدم منطقة درعة لزوارها، ويطلعهم على مؤهلاتها وكنوزها المخفية والمنسية «Trésors et merveilles de la vallée du Drâa» . ، استقبلتنا في بيتها مرارا وعلمتنا مبادئ وتقنيات الكتابة، سهرت على كل صغيرة وكبيرة ورافقتنا في اختيار الصور وحجم الكتاب وتتبعت عملية نشره.
تقاسمت فاطمة معنا كذلك شهرتها، في كل لحظة تتويج عالمية أو تكريم فوق العادة. كانت تحرص على اصطحاب جزء من المجموعة معها، وتسهر بعناية خاصة على تقديمهم والترويج لهم في عز فترة تتويجها. وبعد كل فترة تتويج، تقطع فاطمة سريعا مع الاحتفالية لتعود للعمل والإبداع، كانت تقول لي: «إن الاحتفال المفرط عدو للتراكم المعرفي، والمبدع الذي يضيع وقته في الانتشاء بتتويجه وإنجازاته غالبا ما يهوي الى القعر، ويصاب إنتاجه في ما بعد بالضحالة»،
كانت مؤمنة بشكل قوي بمواهب المغرب العميق وكانت لها حاسة قوية في التنقيب عليها واكتشافها. لكن قوتها الحقيقية لا تكمن فقط في التنقيب والاكتشاف ولكن في الدعم والتوجيه .
عندما التقت بالفنانين العصاميين، محمد بنور وفاطمة ملال، آمنت بسرعة بحلمهما وعملت على توظيف شبكة علاقاتها المتنوعة لدعمهما، عملت على تخصيص فضاءات مختلف نسخ القافلة المدنية لعرض لوحاتهما الفنية، خصصت فقرات مهمة من كتابها «سندبادات المغرب – رحلة في تاريخ المغرب المدني» للتعريف بهما وكلفت بعض أعضاء القافلة بإعداد سير حياة الفنانين وسهرت بكل جهدها على فرض مواقع لهما في مجموعة كبيرة من المعارض والملتقيات الدولية، كما حرصت على اصطحابهما أحيانا في بعض سفرياتها الدولية للتعريف بهما والترويج لهما.
كانت فاطمة مصدر إلهام للمجموعة، عندما خططنا في إطار أنشطة جمعية تنمية وادي درعة لاحتضان الدورة التاسعة للقافلة المدنية بمدينة زاكورة تقوقعنا في أهداف تقنية محضة، فتدخلت لتسمو بالمجموعة نحو ثلاثة أهداف سامية. محورت الأول حول تحرير المشاركين والمشاركات في القافلة من تصورهم القبلي للصحراء بكونها فراغ هائل، وذلك بتحويل زيارتهم لمنطقة درعة إلى غوص تربوي وفني في أعماق تراث ثقافي وجمالي ومعماري أصيل وغني.
وصاغت الهدف الثاني بشكل يرمي الى تخليص المشاركين القادمين من مدن المغرب الكبرى من شعورهم بكونهم رواد التغيير في المغرب باطلاعهم على المبادرات المدنية الجديدة القادمة من الجنوب، وجعلت من الهدف الثالث فرصة تمنح للمشاركين الأجانب لزيارة الصحراء ليس كرهائن لوكالات الاسفار ولكن كمسافرين بالمعنى الصوفي للكلمة. كانت الأهداف التي حددتها فاطمة سامية جدا تجمع بين السيكولوجي والتربوي والفلسفي وهو ما أخرجنا من القوقعة التقنية أحيانا والسياسية أحيانا أخرى التي كنا ندور فيها لسنوات.
لم تكن فاطمة مصدر إلهام للمجموعة وحدها بل تابعت أفرادها فرداً فرداً.. وكانت لا تبخل أبدا بنصائحها على كل الزملاء والزميلات، وفي مقدمتهم لكبير أحجو ومحمد بنور وفاطمة ملال وجميلة حسون وياسين عدنان ونور الدين السعودي و فاطنة البيه الخ. كانت تنير طريقنا من حيث لا نحتسب. وكثيرا ما رددت أمامنا لا تترددوا في استغلالي واستغلال علاقاتي كما أستثمر تجاربكم أنا، إذا لم تربحوا شيئا من علاقتكم معي فأنتم تجار فاشلون. أنا أتعامل بمنطق الربح والخسارة، فاعملوا الشيء نفسه معي.
تمزج فاطمة خلال لقاءاتها مع أفراد المجموعة بين الجدية والصرامة من جهة والمرح والاحتفالية من جهة أخرى. كانت صاحبة نكتة، وغالبا ما كانت تجعل واحد منا موضوعها، ولتوازن الأشياء، وحتى لا تغيضنا، كانت تعمد إلى المقارنة الهزلية بينها وبين شباب اليوم، مقدمة نفسها كامرأة تجاوزتها الأحداث تعجز عن مواكبة التكنولوجيا الجديدة أو تجر معها تصورات و تقديرات تجووزت، لم تكن نكتها ومقارناتها الهزلية من أجل الضحك فقط، ولكن كانت غالبا ذات أهداف بيداغوجية ترتبط بموضوع الاجتماع أو الورشة.
كانت فاطمة تحرص على تضمين القوافل المدنية التي ننظمها فقرات احتفالية. كانت تستمتع كثيرا برقصة السيف والركبة وأحيدوس، وقد يحلو لها أحيانا أن تنصهر مع المجموعة الفنية التراثية أداء. كنت أرى على محياها شعورا بالحبور والسعادة وهي ترى أفراد مجموعتها وضيوفها يغنون أحيانا ويرقصون أحيانا أخرى، لم تكن تبحث عن الفرح لنفسها فقط، كانت تبحث عنه للمجموعة كذلك، لكن حذاري أن تعكر مزاج فاطمة، وكان يتعكر بسرعة إن أقل أحدهم من احترامها أو حاول التشويش على برامجها.
حولت فاطمة منزلها الرئيسي، بزنقة بين الويدان، إلى زاوية من نوع خاص. زاوية يفد عليها «المريدون» والضيوف، لكن وفق مواعيد ومواضيع محددة سلفا. تستقبل مدعويها بحفاوة بالغة، وتتفنن في الأطباق التي تقدمها، تارة تقدم «الشهيوات الفاسية» وتارة أخرى الكسكس المغربي. لكن الطبق الرئيسي الذي تقدمه لمريديها كان فكريا بالأساس، طبقا يختلف طبعا حسب طبيعة الموضوع، لم تكن من النوع الذي يرتجل في اجتماعاتها، كانت تحضر لكل شيء بعناية فائقة، تعتمد في بناء حجيتها على مرجعيات تراثية، وكثيرا ما كانت تستشهد بابن عربى وابن سينا وابن رشد وابن خلدون وأخرين .
كما تغرف من التراث الشعبي المغربي والواقع الاجتماعي الحالي، ونادرا ما كانت تلجأ لأمثلة واستشهادات من خارج نسقها الاجتماعي والسياسي، وحتى حينما كانت تلجأ الى ذلك وتقدم أمثلة من العالم الغربي. فمن أجل أن تكسر نمطية تصورات الغرب للشرق فقط، لم تكن تكتفي بالاستشهاد والأمثلة فقط، بل كانت تلجأ للصور والألوان والرموز لتبسيط فكرتها وشرحها بطريقة أسهل، كانت تتحدث في اجتماعاتنا ببطء مستعملة لغة تجمع بين الدارجة والعربية وبعض الكلمات الفرنسية، لتمكن المستمع من استيعاب المعاني العميقة التي تريد إيصالها إليه.
كانت فاطمة جد إيجابية في تحليلها وقراءتها ونقدها للواقع المغربي، لم تكن من النوع الذي يرى فقط النصف الفارغ من الكأس، كانت لا تنفك تذكرنا بما أنجزه مجتمعنا مقارنة بالوضعية التي كان عليها أيام طفولتها، لكنها في نفس الوقت كانت تحث وتشجع أفراد المجموعة على العمل، كل في مجال اختصاصه، على العمل من أجل المزيد من التغيير والتقدم والإبداع، لقد كانت فاطمة، رحمها الله، فريدة في كل شيء، بفقدانها رزئ المغرب بعالمة وباحثة من العيار الثقيل من الصعب تعويضها، وفقدت درعة صديقة من العيار الثقيل.

(°) رئيس اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بجهة بني ملال- خنيفرة


الكاتب : د. أحمد توفيق الزينبي (°)

  

بتاريخ : 10/12/2021