فاطمة المرنيسي هيبتها سحبت الأوكسجين من هواء كتابتي !


(1)
«الكتابة واحدة
من أقدم أشكال الصلاة».
بين كلية فاطمة، وفلذات فاطمة، بين القامات فيها والظلال، ارتعشت يدي التي تكتب. ارتجف حبري الذي يطمح. وها صدر البورتري، وهو بعد في مهده، يعلو ويهبط، كما لو أن هيبتها الراسخة قامت بسحب جماع الأوكسجين من هواء الكتابة !
إن أنا إلى كلها سعيت،
ضعت في كثرة بعضها.
وإذا أنا نحو بعضها هرولت،
سيطر علي بعض كثيرها !
لا ذا ينقذني من رحيب امتدادها، ولا ذاك ينتشلني من ضيق انحصاري. وبينهما أنا أبدو كمن ينظر إلى محتوى غرفة واسعة من ثقب الباب !
أوليست هي، فاطمة المرنيسي، التي أدركت أقاصي استتاري على مقربة من أضواء جهارتها، لمّا قالت في حوار ملء ذكائها الوقاد:
«الكتابة مرايا،
أبواب، ونوافذ.
وكل منا
يطِلُّ على كوة ذاته».

( 2)
«يمشي الكثير
على شواطئ حياتنا،
ولكن القليل
من يترك الأثر».
يوم التقيتها، في مدينة الدار البيضاء، دار بيننا، وسط زحام الإعجاب، حوار عابر، وغريب، عبره أعرضت عن جزء من خصال حرفي، ثم أمعنت في كل من شيم البورتري:
– لطالما تمنيت أن أكتب عنك، وما استطعت !
– لماذا ؟ ما الذي يمنعك ؟
– انخفاض حبري يخاف من علو قامتك !
رمقتني بنظرة حنانة. ابتسمت بمكر بلاغي. قالت وكأنها تختار كلماتها من قاموس اللحظة:
– إذا خفت لن تكتب. إذا كتبت لا تخف.
واختفت في الزحام، تاركة على لساني ذاك السؤال الذي تمنيت لو أنا طرحته، لو عنه هي أجابت:
كيف يمكن الكتابة
عن مفكرة
تشبه الأحياء العتيقة،
لها أكثر من مدخل،
ولها أكثر من مخرج ؟!

(3)
«الحقيقة هي الشيء الوحيد
الذي لا يصدقه الناس» !
على طول ما عاشت فينا، ما ارتفعت بيننا، ما رأى أحد فيها قلما منكسا، أو رأسا منحنيا، أو محبرة مصابة بأي انخفاض. دوما تبدت تعصي للعتمة كل أمر. وتأتمر بكل أوامر الضوء. لا النواهي تعتقل روحها الطلعة، لا اللاءات تحررها من فداحة العقل، ولا الحظر يؤول بصوتها نحو التخلي عن حضوره، عن ارتفاعه، عن تأثيره.
ملأ الوعي النقدي الغميس عبارتها بالشجاعة. ملأت هي الكلمة الواشية بندوب الواقع بوارف الكشف. ثم امتلأنا نحن بأنفاس رؤاها، وردا ورعدا. وما رأيناها، نظرة، وما قرأناها، فكرة، إلا وقلنا:
هذه امرأة:
فوق العادة.
هذه مفكرة:
كسرت العادة !

(4)
قرأتها مرَّة واثنتين وثلاثا.
إن كل قراءة تريني وثنا حطمت أوهامه التاريخية في معابد كتابتها. كل فهم يقودني صوب إدراك عمق أساف ونائلة، وهما في جوف كعبة تأويلها. بذلك، أنا أرتد عنها فقط كي أعود إليها.
وليس الغريب أن تكون فاطمة كذلك. بل الغريب ألا تكون فاطمة كذلك، هي التي لا تدخل مخبأ نجاة، أثناء كل غارة تطال تحرر المرأة، أو تعيق انتفاضة العقل، أو تضع حدودا حديدية أمام الشوق إلى الحرية.
يراعها:
مصباح علاء الدين.
تفكيرها:
عصا موسى.
أسلوبها:
بساط الريح !
لذا، أنت لست بحاجة إلى خاتم سليمان كي تروض الجن المنتفض في صفحاتها. يكفي أن تفتح كتابا لها، وتشرع في الحضور، حتى يهرب ذاك المس الرجيم الذي جثم على عقول بني العرب، العاربة منهم والمستعربة !
«يجب تعلم
الصراخ والتظاهر،
تماما كما تعلمنا
المشي والكلام».

(5)
«النضج هو
حينما تبدأ في
الإحساس بحركة الزمن
كعناق حسي».
كل الطابوهات، التي كان يخافها الحبر، أضحت هي من تخاف من حبر فاطمة. لست وحيدا في الارتعاد من هذه الكبيرة، المهيبة. حتى تاريخ العرب، «المجيد»، في وأد النساء، في سبيهن، يتجلى لي، في رحيب أمهات كتبها وآبائها، وهو مصاب بارتعاد الفرائص !
ثم مهلا، ومهلا:
ألم تتلعثم، ألم ترتبك،
جغرافية النبذ الشهرياري،
وسيادة الخنوع الشهرزادي،
أمام فصاحة غزوها،
وإزاء بلاغة فتوحاتها ؟!
ولا زال منها، العقل المحنط، خائفا، وجلا، حتى بعد أن أغمضت حبرها إلى الأبد، وذهبت للقاء رب جعل العقل وكيله عند الإنسان !
أقول: ذهبت. لم أقل: ماتت.
لأن حبري ليس ساذجا كي يظن، لحظة دفق، أن ملهمة من عيار فاطمة المرنيسي، تموت في حياتها، لأنها تحيا في موتها !

(6)
إنها تفكر بألم،
وتكتب بقلم !
عَيناها نافِذَتان مِنهما تطِلُّ علىٰ تاريخ الحبر، على تاريخ العذاب. يداها جناحان عبرهما تحلق في أعالي الألم، في سهول القلم. لسانها فصيح أمام هول المعنى، أمام معنى الهول. قدماها لا تعرفان سوى خطوات فادحة، تمشيها وهي تعثر على العدل وتتعثر بالجَوْر !
لأجل ذلك، كل ذلك:
أنا لا أنسى، حين أقرأها،
نصف الكلام،
وإن كنت أهتم بعقلها،
وأدرك شكلها !
وحيَّا الله سعاد الصباح، وماجدة الرومي. الثانية مطربة كبيرة وهبت صوتها للإعلاء من منسوب الأنوثة العاقلة. والأولى شاعرة خلاقة صرخت في وجه العبودية عبر صوت خالد:
«ليست الديمقراطية
أن يقول الرجل رأيه في السياسة،
دون أن يعترضه أحد.
الديمقراطية
أن تقول المرأة رأيها في ‎الحب،
دون أن يقتلها أحد» !

(7)
«الإنسان الذي يرفض النقد
لن يستطيع قط الترقي،
والسعي نحو الأكمل».
محصنة هي ضد جائحة الفكر الماضوي. محصنون هم ضد الحريم. بينما نحن لا حصانة لنا سوى عقل يقرأها كي يفَضِّ التعاقُد مع المدنس، ويَشُدّ عُراه مع المقدس. ثم لا محيد عن رؤية التنافر في التجاذب.
كل كتاب لها، يقض مضاجع الفكر المتوارث، المكتفي بوهم حقيقته، والمنغلق على طلاسم رؤاه. إنها تنازل حواة تأويل الجسد الأنثوي بصروح المنطق الإنساني. ولا تني تكشف نصوصا بائدة، وتعري وضوح التوائها، وصدق كذبها، على ذاتها وعلى التاريخ !
«الزمان هو جرح العرب،
إنهم يرتاحون إلى الماضي» !

8
«الكرامة أن يكون لك حلم،
حلم قوي…
يمنحك الرؤية».
لم أرفع عيني عن كتاب لها. لم أسد أذني عن صوت لها. كيف أفعل ذلك مع كاتبة تمسك نفيرا وتنفخ فيه عسى نوام التاريخ تصحو عقولهم على صيحات ظلم ما انفك يعبر القرون كلها، كي يجثم على حاضرنا ؟!
بالحلم، وعبر الحلم، تمكنت من إدراك عرام الوعي الشقي للنساء العربيات. بل واختبرت حتى ما خفي من خطرات دخائلهن، وهن مكلومات في خدر تراث حائر، وتائه، بين منطوق نصوص منزلة ترفعهن إلى عنان التساوي، وتأويل قراءات مغرضة تهبط بهن إلى أسفل درجات التمييز الجنسي !
هم قتلوا حلم الأنثى،
لكنها لم تكفنه،
بل أحيته، وزرعت فيه
أجنحة متعددة
حلقت خارج أسوار الحريم !

(9)

«الطبيعة أفضل
صديق للمرأة».
لا أذكر كم أحببت فاطمة المرنيسي، بعدد السنين. بيد أن وعيي يتذكر جيدا أنه أحبها بعدد الكلمات التي خلخلت بها جماع اليقينيات الموهومة.
وإذا كان الحب من أول نظرة، فأنا أحببتها من أول لمسة، وتحديدا حين لمستها في كتاب أطلقت فيه قولتها، التي أبدا لن يطالها موت، لأنها صاغتها بحرية الحياة:
«كل شخص يمكن
أن يمتلك أجنحة ليحلق،
لكن التحليق
لن يتحقق إلا بشرطين،
وعي الشخص بأنه محبوس
داخل قفص،
وتوفره على الإرادة
لكسر القفص» !

(10)
قرأت في صحيفة «الغارديان» البريطانية، سنة 2011، أن المفكرة المغربية الثائرة، الدكتورة فاطمة المرنيسي، هي:
«واحدة من النساء المائة
الأكثر تأثيرا في العالم».
لم أفرح لها، بل فرحت لنا، لأن الرحم المغربي أبى خصبه الخلاق إلا أن ينجب امرأة، إن أنت أطلقت عليها صفة، ارتفعت الصفة. وإن أنا قلت عنها بصدق: هي ملهمة أجيال، رد الزمن بيقين: بل هي ملهمة أحلام !

(11)
أتراني كنت مصيبا،
حين خفت من أحلام أفكارها
على واقع كتابتي ؟!
أتخيل فاطمة، الآن، تضحك بمكر لا يداري ارتباكي. ثم تقول لي، قبل أن تختفي في شسع الخلود، وتتركني في زحام ما هو زائل:
يا حسن،
في خوفك مني
يكمن نصف نجاتي منك !


الكاتب : حسن بيريش

  

بتاريخ : 04/02/2022