فن الذكاء الوظيفي

لم يكن ما يحدث له الآن، يتوقعه حتى في أحلك أحلامه، هو الشيخ العابد التقي الورع ، يجب عليه الآن، وحالا، ولابد، أن يترحم على هذا الفاسق السكير الكذاب، وأين ؟، على الملأ في الفيسبوك، ليظل ترحمه عليه، شهادة مكتوبة منه إلى يوم الدين، تقر بحسن سير وسلوك هذا الملعون في الدنيا وفي الآخرة، سوف يسأله لله عنها يوم يقفان متجاورين عاريين، لا حول لهما ولا قوة يوم القيامة، وستشيح الملائكة بنظرها عنه، كلما ظهر تعليقه في الفيسبوك، عندما ينشط « البوست «،إذا ترحم ضلالي أو منافق من الموظفين،أو جاهل لا يعرف حقيقة هذا اللعين.
نظر الى بوست مديره في العمل، الذي نشره اليوم، بعد أن قام بدفن أبيه، يترحم فيه على والده، الذي قضى حياته في محبة الله والناس، واقفا بجوارهم، يشد أزرهم عند المصيبة، ويجاملهم من كل قلبه، وبإخلاص شديد في أفراحهم، مشيدا بحسن جيرته، وشهامة أخلاقه، وعطفه على الضعفاء من العجزة والمساكين، لم يستطع أن يكمل البوست، من شدة حنقه على مديره ابن الميت، الذي يكذب ويكذب، ويسجل في الفيسبوك سيرة لأبيه، لم يعهدها الناس فيه، ولم تكتبها ملائكة اليمين، المنوط بهم تسجيل حسنات الناس، من المؤكد أنه أتعب ملائكة الشمال، من كثرة ما سجلوه له طوال حياته، من ذنوب فوقها ذنوب، وآثام تتبعها آثام، حياته الملعونة التي امتدت حتى قاربت المائة، وكأنه ابتلاء طويل الأجل من لله، علينا نحن عباده سكان هذا الشارع ، الذي من المؤكد أنه قد كُتب قبل خلق الأرض، أنه سيكون من الأرض الملعونة، في المائة عام، التي تتوسط القرنين الثالث عشر والرابع عشر من الهجرة ، العشرين والواحد والعشرين من الميلاد.
اليوم، في الطريق إلى دفنه، يحمل الناس نعشه، كان يدعو لله في سره، أن يُضيق عليه قبره، وأن ينهشه الثعبان الأقرع في اللحظة التي يغلقون عليه قبره، ويساق عند قيامته إلى نار جهنم، مكبلا بالسلاسل والأغلال، انتظر حتى غادر الناس، وضع يده على قبره، وكأنه شعر بسخونة شديدة، وتوعده أنه سيكون خصيمه يوم القيامة إن شاء لله .
لن يكتفي بالدعاء عليه عند دفنه، لن يشفي غليله من هذا الفاسق اللعين، سيجلس في عزائه، ينصت إلى القرآن في خشوع، وعندما يأتي ذكر آية فيها نعيم الجنة، سيردد في سره «اللهم أبعده عنها كما باعدت بين المشرق والمغرب»، وعند سماعه لآية تتوعد بنار جهنم، سيدعو الله من كل قلبه، أن يكون الراحل في قعرها، مع الكافرين والمنافقين، لكن ماذا سيفعل الآن في « بوست « المدير،ابن غير المأسوف عليه لعنه لله، والذي لم يستطع أن يكمله، من كثرة ما كذب وكذب في كل كلمة وسطر، وماذا ينتظر من ابن اشتهر أبوه في حياته بالكذب والفسق ؟.
كيف سيواجه المدير غدا؟، إذا لم يسجل ترحمه في قائمة المعزين في الفيسبوك، وكيف سيواجه الله يوم القيامة، عندما يقرأ بنفسه تعليقه في البوست، بصوت يسمعه كل العراة الذي خرجوا من قبورهم، يرجون رحمة الله، من المؤكد سيخجل من نفاقه وجبنه، ولكن الملائكة والذكاء الوظيفي يفرضان عليه الترحم، حتى لا ينعكس ذلك على علاقته بمديره، الذي ورث الكثير من صفات أبيه اللئيمة.
كأن ملاك اليمين قد شاهد حيرته وهو جالس أمام الكمبيوتر، لقد ألقي في قلبه الحل، للخروج من ذلك المأزق، الذي يتخطى في عواقبه الدنيا الى الآخرة، ماذا لو هبطت « النقطة « أسفل الحرف، بدلا من أن تعلوه ، فتكون شهادة مدونة الى يوم الدين، علي فسق الراحل، وليكتب «رجمه الله»، وليس « رحمه لله «، فيكون خطأ الكيبورد .
انتظر حتى أوغل الليل، ثم كتب «رجمه لله، وسبحان من له الدوام»، عبارة تخلو من أي دعاء بالخير للميت، بل إن النقطة حولتها، الى دعاء بالعذاب، وعندما يعترض الناس، سيعتذر بخطا الكيبورد، لكن المنافقين وما أكثرهم سيطلبون منه تصحيح الخطأ .
أخذ يفكر ويفكر، ماذا يفعل في الصباح، عندما يجد سيلا من الاستهجان والتوبيخ، من منافقي موظفي المديرية، عبر التعليقات، أو حتى الرسائل الخاصة، سيكون عليه حتما تصحيح الخطأ، وإعادة النقطة الى أعلى، لكن لا وألف لا، شلت يده إذا فعل ذلك، لن يرضي عباد الله ويغضب لله، لقد جاءه الراحل الليلة في المنام، وطلب منه أن يبقي على النقطة أسفل الحرف، لأن هذا سيمنحهم درسا مجانيا، في أهمية توخي الحرص في الكتابة في الفيسبوك، لأن الراحل قضى حياته يعلم الناس الحكمة، ويشهد على ذلك كلام ابنه عنه في الفيسبوك، وسيعلمهم الحكمة بعد موته، هكذا قال له الراحل في المنام، وكان لم ينم بعد، اضطجع على يمينه، ثم قرأ ما تيسر له من أدعية، وكان متوضئا، ثم أغمض عينه، شاكرا ممتنا لملاك اليمين،الذي ألهمه هذا الحل، الذي يرضي كل الأطراف إلا الراحل. أحس براحة عميقة، سببها الشماتة في الراحل بغير رجعة بإذن لله، وراح في سُبات عميق .

*كاتب وإعلامي مصري


الكاتب : محمد الناصر أبوزيد*

  

بتاريخ : 07/10/2022