فيديوهات في الطابق العلوي

بالطابق العلوي لمقهى كورسيكا بجوار البرج الشمالي، تعتبر الزاوية الشبيهة بقمرة قيادة الطائرة من أفضل ثلاث أمكنة محببة إلى قلب السيد( م .ك) بعد سريره الخشبي ، وكرسي من الدوم المجفف ورثه عن جده المرحوم قبل نصف قرن . فهذا المكان يستهويه ، وفيه يفضل احتساء براد الشاي المنعنع والاستمتاع بمشاهدة الفيديوهات والأوديوهات الطرية التي يجود بكل سخاء طينة من الأصدقاء .
لكن لسبب ما ، بدا صاحبنا اليوم، ذابل النظرات على غير العادة ، فقد دلف المقهى متململا شاحب الوجه، مدثرا جلبابه الرث الذي مضى عليه شهور دون غسيل ، وبعد أن حدج الشاب الذي باغثه واحتل الزاوية المفضلة لديه، حياه بجفاء ، ناوله الهاتف الذي يشبه طبقة صخرية من العصر الجوراسي وقال بشيء من اللامبالاة «شوف أولدي مال هذا المنحوس كيغوت بوحدو، ومابقاش يفتح الفيديووات؟؟؟
كان وجهه ممتلئا بالأمل وقليلا من الغموض . فمن جهة، لا يريد أن يطلع الشاب على المحتويات المخزنة بهاتفه، لا سيما أشرطة الفيديو والعشرات من رسائل الأودي والآتية من كل حدب وصوب ، ومن جهة ثانية، يأمل أن يفلح في الرفع من منسوب ذاكرة التشغيل المتاحة لهاتفه، مما يمنح الجهاز أداء أفضل وسرعة أكثر في التعامل مع كافة التطبيقات المصورة .
وبعد أن تفحص الشاب خيارات الهاتف، وقام بتفعيل بعض الاختبارات الاعتيادية للجهاز خصوصاً عندما وجده بطيئا سيئا و يتصرف بطريقة غير طبيعية وخارجة عن المألوف. فأدرك على الفور أن هناك مشكلة تواجه الجهاز، وهيليس عدم قدرته على فتح التطبيقات،وإنما في استقبالها أيضا .وبعد أخذ ورد في الكلام، أدرك أن صاحبنا لا يضع قنا سريا للدخول، ما شجعه على القيام بعملية إعادة تشغيل الهاتف، وفي لحظة ، فطن وقال للشيخ في نبرة الخبير « هاتفك مملوء بالكامل حتى أن لديك رسالة إدارية مكررة تفيد بنفاذ المساحة المخصصة للتخزين، وتابع ناصحا «عليك ياوالدي بحذف الفيديوهات والصور فور مشاهدتها، وإلا تكدست في ذاكرة الجهاز وأبطأت حركته، حتى تترك له مساحة يتنفس فيها، بعد ذلك سيستمر هاتفك في تخزين الرسائل الجديدة وتصبح الفيديوهات قابلة للمشاهدة .
لذلك، ما إن سمع كلمة حذف حتى أصابته هيستيريا مجنونة، وقام بخطف الهاتف من اليد الشاب ،مغمغما بكلام غير مفهوم، أحذف ماذا سأحذف ؟ ليس لدي شيء أحذفه أتفهم؟هل أحذف فيديو فلان أم فلان ؟؟؟هي كلها ما يرضي الله ؟؟ثم انصرف غير عابئ بشيء .
أما الشاب فقد شرع يروي تفاصيل ماحدث لزملائه بشيء من التهويل، وقال متسائلا ومتعالما في الآن نفسه، لا أعلم لماذا وكيف خلقت كلمة الحذف الرعب في قلب الشيخ ، وأحدثت زلزالا مدمرا في نفسه .
ولأن صاحبنا ليس من الصنف الذي تستهويه الألعاب الإلكترونية والأفلام الوثائقية، ولا تستأثر باهتمامه صور وأقوال الفلاسفة والزعماء والعلماء والساسة ولا تشغله أقوال الصحف والمجلات والجرائد والمواقع، كما أنه لا يفهم في مشاكل أنظمة استخدام الهواتف الذكية. ولا يعنيه في شيء أمور التشغيل والإعدادات وأنظمة التنزيل والتحميل . وفيما إذا كان الهاتف مزودا بذاكرة تخزين داخلية صغيرة الحجم، أويحتاج لفرمتة FORMATAGE، فقد تأثر كثيرا بافتقاده متعته الذاتية الخاصة به، فمنذ مدة، لم يشاهد شيئا ما يستهويه من فيديوهات لا سيما تلك التي …دأب على استقبالها من أصدقاء محددين، فيقضي وقتا ممتعا زمن الخلوة، وفي الزاوية المفضلة لديه، فيستمتع بما جادت به حصيلة الوقت، وما بعث به زملاؤه في الحفرة من فيديوهات من كل الأجناس، وأشرطة للدعاة ، وأوديوهات لا عد لها ولا حصر.
لكن الشاب سيتفهم الأمر لاحقا، وخاطب نفسه بصوت مسموع قد يكون حذف فيديوهات بعينها، أمرا غير مقبول البتة، لا سيما إذا كان هذا الفيديو مرتبطا بالأسرة والأولاد والأحفاد. واقتنع أخيرا أن هاتفه الذكي بدوره يخزن أشياء خاصة جدا ، وهامة لدرجة كبيرة ، وجديرة بالحفظ ،و تستحق التخزين مثل أكلة الخليع، ومادام القناعة راسخة بهذا الأمر ، فلا وقت لمجرد التفكير في أمر ذلك الشيخ .
ومنذ ذلك اليوم، وصاحبنا في غاية الانضباط لنصيحة الشاب. فما يكاد يشاهد محتوى معينا حتى يحتار بين هاجسين إما الحذف أو الاحتفاظ . والمشكلة، أنه يريد أن يحتفظ بكل ما رأت عيناه .ولهذا الغرض فكر في كيفية الاحتفاظ بالمحتويات حسب الأهمية، وشرع يخصص ساعة كل مساء لحذف المحتويات والمخلفاتالمرئية غيرالرائقة المزاج،ويلقي بردمة البصريات المكومة في قلب هاتفه.
كانت المشكلة تتمثل في أن المحذوفات تتجمع في سلة القمامة بالهاتف وتشغل حيزا مهما من ذاكرته . لذلك تتوالى رسائل التحذير من نفاذ مساحة التخزين .لكنه لم يستوعب ذلك على نحو جيد. ومع مرور الوقت، سوف لن يكف عن إرسال منبهات صوتية هذه المرة إعلانا بوصول محتوى جديد. وبما أن المشكلة تتعلق بذاكرة التخزين الداخلية التي لم تعد تحتمل استقبال أي محتوى جديد عليها، ما يولد الكثير من المشاكل التقنية الغريبة الأطوار والتي لم يعتدها صاحبنا. فما يكاد يتلقى رسالة عبر رنة إلكترونية مميزة حتى تقفز أنامل الرجل إلى خيارات التقاسم . ويشرع في توزيع المرسول هنا وهناك ،غير مكترث بحجم وسعة ذاكرة التخزين ولا برغبة المتلقي على الطرف الآخر، فيما إذا كان يقبل هذه الخدمة السخية من عدمها، لقد كان مصمما على نحو جدي كي يتقاسم المحتوى مع الموجود من الصداقات ضمن القائمة ،حتى دونما مقدمات.
في مقهى الحي بالطابق العلوي الفسيح المطل على الفضاء يقبع صاحبنا منذ الصباح،ىمنزويا معلبا في جلباب مترهل الطيات، يميل لونه إلى الاصفرار الذابل يحملق بنظرات عشوائية. كانت رائحة الملوي المضمخ بالزبدةلاالمذابة تسيح وتغمر جانبا من الطاولة المتآكلة الجنبات،لاوهو ينتظر الشاب الذي سيأتي لحل هذه المشكلة لكن مع السماح له بحذف الفيديوهات . فمنذ مدة لم يستقبل الفيديوهات المختلفة المشارب والأهواء ، ولم يستمتع بمشاهدتها على إيقاع براد الشاي المنعنع الفائق الانتعاش .


الكاتب : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 08/03/2021