في»غرفة المجانين» للقاص حسن كشاف

 

الجنون وزيف التعقل والجبن

صدر للقاص الصديق حسن كشاف أضمومة قصصية عن جامعة المبدعين المغاربة وجمعية ملتقى الفن، وهي حاصلة على جائزة الراحلة زهرة زيرواي للإبداع العربي الشبابي سنة 2019. وقد أعددت هذه الورقة النقدية بمناسبة تقديمي للأمسية القصصية التي احتضنها الصالون الثقافي للمكتبة الوسائطية المنضوية تحث لواء مؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، بمشاركة القاصين حسن كشاف واسماعيل الغزالي.

اقترح القاص عنوانا دالا «غرفة المجانين» وتضم المجموعة بين دفتيها خمس عشرة قصة هي كالتالي: سكان الجدران، البناية الشيطان، الجافلة رقم 143، الخدعة، العم الراضي، الفنجان الأخير، القط مسعود، بط مرتيل، حمَّام، رْقِيَّة، غرفة المجانين، قوارب لا ترسو، كمال والكمان، وصية مهدورة، عفاف، مع العلم أن هذه القصص كتبت في فترة لم تتجاوز سنة وبضعة أشهر؛ وكأن حسن سابق الزمن في كتابتها، وهذا ما يثبته تاريخ كتابتها والساعة التي كتبت فيها.
تختلف طرق التعبير وجمالية الكتابة من كاتب لآخر باختلاف المرجعيات الفكرية والرؤية الفنية المتطورة إلى واقع وسبل التعامل معه إبداعا، لكن ما يميز قص المبدع حسن كشاف هو ذاك السهل الممتنع، ونعني بذلك إيصال الفكرة المراد إيصالها إلى الملتقي بأسلوب عار من الزخرفة والحذلقة البلاغية المبالغ فيها..
ونحن أمام هذه المجموعة، نشعر وكأننا أمام لوحات فنية رسمت من الكلمات.. أو إذا صحَّ التعبير فإنها صراع يهيِّئُ لجنون فنان، تفضح كَمِ الناس منافقون ومُرَاؤُون وخائفون إلى درجة تجاهل حقيقة يومية بسيطة يستطيع الطفل أن يشير إليها بإصبعه ويعلن عنها، فهو يرى الحياة على حقيقتها دون روتوش، دون تلوين بالمطامع ودون مكياج بالتبريرات.
في أعماق كل فنان طفل صادق بهذا المقدار، طفل لا يحتمل ما تعَوَّدْنا على احتماله، طفل يبكي حين يتألم، ويصرخ حين يجوع، ويغضب حين يهان ويُجَنُّ حين يجبر على أن يحيا حياة الحيوان.
تمنَّيت لو كانت قصة غرفة المجانين قد جاءت في أول المجموعة؛ حتى تكون صرخة للطفل المبدع الذي يتساوى والفنان في جنونهما العاقل.. لأن هذه المجموعة تَئِنُّ من ضغط صراخ هذا الجنون، وكأنها تردد مع القائل:» إما أني قد جُنِنْت، أو أن هذا العالم مجنونُ».
في قصة سكان الجدران، نحس بهذيان الشخصية المتروكة لوحدها، رغم أن زائرا وَفَدَ رفقة الخادمة، لكن لم يسمع منه ولو نأمة واحدة، حضوره لم يكن له أي تأثير يذكر، إلا من خلال ما سمعناه عنه عبر سارد يحاوره حول وحشته ووحدته ومعاناته وآلامه. يقول: «استخرجَ من جيب سترته آلة مسطحة، انشغل بها قليلا ثم آخذ يرفع رأسه كحصان حَرُونٍ، فأيقنت عندها أنَّهُ يقارن بين شيء ما خرج من تلك الآلة وبين سَحْنَتِي، قبل أن يبتسم أخيرا وكأنه انتهى إلى النتيجة التي افْتَرَضَها منذ البداية». قراءة هذه القصة المفتوحة تجعل نفس قارئ تعتمل بتأويلات عدة، فقد تكون تلك الشخصية موجودة، وقد تكون محض صورة بإطار؛ ومؤشرات ذلك تغزو النص: «كعادتي كنت جامدا، معلقا بين رغبة ملحة في القفز من إطار الخضوع والقيود» أو حين يشير إلى تعامل الخادمة معه: «ترفعني وتخفضني دون مشاعر دون أحاسيس، وأحيانا تضعني مقلوبا حتى تكاد أمعائي تصل حنجرتي وكأني جماد»، ولعل أكبر مؤشر على احتمال كون السارد في هذه قصة مجرد صورة مهملة على أحد حيطان هذا البيت الفاخر تكمن في دلالة العنوان؛ ف»سكان الجدران» ليسوا سوى صور أحبابنا وآبائنا المعلقة على جدران بيوتنا، صور تئن في صمت، الغالب أن الموت انتزعهم منّا قبل أن يحذو النسيان نفس الحذو وينسينا فيهم أيضا.
في قصة البناية الشيطان: وهي قصة مسرودة من ذاكرة السارد الضمني، وهذا ما ندركه من نوستالجيا الجد البائسة وهو يحكي كقناع يختفي وراء السارد الضمني في سرد حكاية البناية الشيطان، وهي حيلة سردية حتى لا يسقط الكاتب في المباشرة والتقريرية. هذه البناية التي حركت فضول الساكنة المجاورة ودفعتهم إلى المراهنة والمشاحنة والشجار أحيانا؛ وهم يقدمون تأويلات حول كونها ملعبا لكرة القدم لعشاق المستديرة، وهي كذلك مستشفى للمرضى، ومعملا دوليا للزعفران.. ثم مدرسة.. إلا أن صوت بوعزة ينطلق من الخلف في اتجاه المنصة: «إنهم تجار الدين.. لصوص.. خنازير..» ذلك أن البناية لم تكن سوى سجن مدني كبير!
في قصة الحافلة رقم 143 نقرأ: «أقف على الرصيف متمايلا كطفل متشوق للسفر، أقف منذ عشرين سنة، قد أكون وقفت لتوي، لكن جبروت العادة وأوهام اللاشعور تفرض سلطانها». تحكى كذلك هذه القصة من داخل الشخصية ونحن نتعقب حركاتها وترصداتها من داخل الحافلة لما يجري من أحداث التسول والسرقة إلى درجة الملل والتعب والشعور بالغثيان، فيفضل النزول قبل الموقف المرغوب فيه، ويتساءل في دخيلته مستنكرا: «هل جننت؟ ماذا عن العمل! طفلك المريض! قرضك السكني والاستهلاكي! أجبته بشجاعة اللحظة مخرسا إياه: تبا لكم! تبا لك وللعالم!
في قصة الخدعة: نجدها خدعة كذلك في سردها، فهي تضم قصة داخل قصة، القصة التي حدثت للسارد وصديقه عندما عثرا على قطعة العشرة دراهم، ونَهْيِ صديقه عن حملها كوْنَها خدعة، وهنا يتم ذلك التداعي لاستحضار قصة مشابهة، بطلتها امرأة تقع في فخ مشابه بعثورها على محفظة نقود مخدوعة، بداخلها حجر مستطيل ملفوف بقماش.. وحدث أن شاهدها شخصان آخران وهي تلتقط المحفظة فطالباها بالقسمة، الشيء الذي لم تتقبله المرأة، وعندما تدخل صاحب إحدى المحلات بعد أن لجأت إليه، ليكتشفوا ما فيها، وتغرق المرأة في خجلها وتطلب من صاحب المحل التستر على قصة الخدعة، بأن تبقى طيَّ الكتمان إلا أنه يرويها لراوينا..
في قصة العم الراضي: نجد أنفسنا في آخر القصة قد قرأنا قصة، بدل أن يسرد علينا كاتبها قصته بطريقة مباشرة، فإذا تتبعنا مسار قصص المجموعة نجد الكاتب يستعين بتنويعة من الحيل السردية حتى لا يسرب ذاك الملل والرتابة بتتابع خطة سرد قصص المجموعة، وهذا الشعور قد فطن إليه القاص قبل المتلقي..
تحكي القصة عن التهمة التي لفقت للعم الراضي الذي سئم حيل الانتخابات والضحك على الذقون، لهذا لُفِّقَتْ له تهمة إهانة مُوظف لإخراسه.. وبما أن السارد صحفي وكان شاهد عيان، فقد حاول كتابة القصة التي بين أيدينا كما جاء فيها: «.. لكنني قد وعدته بكتابة القصة كاملة، وها هي ذي بين أيديكم، وأعتقد أن العم الراضي.. توصل بنسخته..»
في قصة الفنجان الأخير نقرأ: ذلك الامتداد لغرفة المجانين.. «أجرجر شبشبي من غرفة النوم نحو الحمَّام، مجددا ينتابني هذا الوهم، فما ألبث حتى أكتشف أن بيتي برمته مشكل من غرفة واحدة، في الصفحة 32 حين تضيق الشخصية الساردة ذرعا من غرفتها تلجأ إلى المقهى المعتاد، وتنهمك لوحدها في قراءة الجرائد، إلى أن تصطدم بعنوان أسفل عمود مستطيل قصير: «كاتب يتناول فنجانه الأخير ويسلم الروح لبارئها مستندا لطاولة مقهاه المعتاد».
«وفقت عند القراءة مذعورا مرعوبا، كان التشابه كبيرا في المعطيات، تشابه مجريات حياته وحياتي، تشابه يكاد يصل إلى نوع من مؤرق من التطابق.. أكتشف أني لا ألبس إلا قميصا خفيفا، أنحني، أطل رأسي على قدمي، كنت ألبس شبشبا، ينتابني شعور بل يقين بأن أنظار الحاضرين لا تجد غيري لتحدق فيه..»
هذه الحالة الميؤوس منها مدعاة للشفقة على جنون الرجل.
في قصة غرفة المجانين: نقرأ حالة العزلة والوحدة الشخصية للسارد بضمير المتكلم.. إنها تعاني من أمراض نفسية وعقلية، ورغم غزلتها فهي تطلب من الأطباء تحقيق رغبتها الوحيدة التي تمثلت في التفضل عليها بصورتين: واحدة للكاتب الفرنسي موبَّسان، والثانية للفيلسوف الألماني نيتشه، وكلاهما عانى في أواخر مجريات حياتهما من الجنون.. ومن هذا الاختيار الفني تناول القاص حسن كشاف تيمة الجنون، وهو ما أشرنا إليه سابقا، حول ترتيب قصص المجموعة وأن هذه القصة تعتبر نواة المجموعة، لكونها ليست عنوانا لها فقط، بل لأنها كذلك مدخل إلى هذه الغرفة ومن عتباتها الأولى لتمتد على طول قصة بتيماتها المشتركة مع باقي القصص، لتعطيها تلك المصبغة الموحدة وإن كانت تيمة الجنون كافية لذلك.
لقد اشتغل القاص حسن كشاف على خصومات كل واحد فيهم ليُمَرِّرَ رسالته، ويجهر بما هو مكنون في نفوس الناس من خير وشر: «هذا لا يعني أن الناس ليسوا قساة، إنهم قساة تماما، متنافرون لا يتقاربون، متخاصمون لا يتصالحون، منغلقون لا ينفتحون..».
والجميل في هذه القصة أنها ربطت بين ما هو فني وإبداعي «جنوني» وكانت رحلتهم على متن زورق، وبرفقتهم السارد الذي يلح على أن تكون النهاية القصة على يد موبسان بحكم اختصاصه.. توسل السارد في نهاية القصة بحيلة فنية تمثلت في مطالبة الكاتب الفرنسي موبسان بإنهائها والذي رد: لماذا تريد وأدها؟ أجبت بخضوع:
لست أنا؟ القراء يريدون ذلك! زاد حزمه وهو يقول:
ثرْ عليهم إذن، فكبار الفنانين هم أولئك الذين يستطيعون حمل الإنسانية على قبول انخداعاتهم الخاصة.


الكاتب : بقلم: محمد كويندي

  

بتاريخ : 17/02/2021